هو مجرد تعديل كيميائي صغير، ومع ذلك أثار حالة واسعة من الانقسام في مجتمع أبحاث الحمض النووي الريبي المرسال، فمن ناحية، يرى الباحثون المؤيِّدون لهذه الفكرة أن إدخال تعديل كيميائي بسيط على العمود الفقري للحمض النووي الريبي المرسال سوف يلعب دورًا فائق الأهمية لإنجاح اللقاحات...
بقلم: إيلي دوجلين
هو مجرد تعديل كيميائي صغير، ومع ذلك أثار حالة واسعة من الانقسام في مجتمع أبحاث الحمض النووي الريبي المرسال، فمن ناحية، يرى الباحثون المؤيِّدون لهذه الفكرة أن إدخال تعديل كيميائي بسيط على العمود الفقري للحمض النووي الريبي المرسال سوف يلعب دورًا فائق الأهمية لإنجاح اللقاحات التي تعتمد في تصنيعها عليه، إذ يسمح التعديل لهذه اللقاحات بتحفيز استجابةٍ مناعيةٍ قويةٍ دون إحداث آثار جانبيةٍ عنيفة. وخير مثال على ذلك هما اللقاحان اللذان سيطرا على الساحة مؤخرًا في مواجهة مرض «كوفيد-19»، واللذان صنعتهما شركتَا «فايزر-بيونتِك» Pfizer-BioNTech و«موديرنا» Moderna، وكلاهما يحتوي على هذا التعديل الكيميائي. لكن على الناحية الأخرى، بعض مصنِّعي الحمض النووي الريبي المرسال يؤكدون، منذ فترةٍ طويلةٍ، أن الحمض النووي الريبي المرسال الذي لا يتضمّن أي تعديل، يثيرُ في الواقع استجابةً مناعيةً أقوى ضد العوامل المُمرِضة. وهكذا يؤثر هذا الاختلاف في الآراء في عمليات تطوير اللقاحات التي تعتمد على الحمض النووي الريبي المرسال.
أما في الوقت الحاليّ، فقد غَيّرَتْ كبرى الشركات، التي تؤيِّد نهج اللقاحات المعتمدة على الحمض النووي الريبي المرسال غير المُعدَّل، من الطريقة التي تتعامل بها مع المسألة، إذ سوف تتخلَّى شركة «كيور فاك» CureVac، وهي إحدى أقدم الشركات المتخصصة في الحمض النووي الريبي المرسال عالميًا، والتي يقع مقرها بمدينة توبنجن في ألمانيا، عن الحمض النووي الريبي غير المُعَدَّل، وبدلًا من ذلك، سوف تتبنَّى لقاحاتٍ مُعَدَّلَةً في مواجهة حزمة الأمراض المُعدِية كلها، ويأتي ذلك بعد النتائج المخيّبة للآمال من تجارب لقاح «كوفيد-19».
قال فرانز فيرنر هاس، الرئيس التنفيذي الذي ستنتهي فترة إدارته لشركة «كيور فاك» قريبًا، عبر مكالمة هاتفية، قبل أسبوعين من الإعلان عن التحوّل الاستراتيجي للشركة، إنّ الحمض النووي الريبي المرسال المُعدَّل "هو التكنولوجيا الأعلى أداءً في مجال اللقاحات الوقائية".
ومن المتوقَّع أن هذا التغيير الذي طرأ على توجّه الشركة سوف يساعد على تهدئة النقاش الذي استمر عقودًا، حول أي نوعٍ من أنواع الحمض النووي الريبي المرسال هو الأفضل لمحاربة الإنفلونزا وفيروس «سارس-كوف-2» وغيرهما من التهديدات الفيروسية، فالتحوّل الذي طرأ على شركة مثل «كيور فاك»، والتي تلعب دورًا محوريًا في مجال أمراض الجهاز التنفسي، لا يترك إلا عددًا قليلًا من المنتجات، في مراحل تطويرها الأخيرة، تعتمد على الحمض النووي الريبي المرسال غير المُعَدَّل، وكلّها لقاحات ضد «كوفيد-19» يجري تطويرها في دول تنتمي إلى قارة آسيا.
الفرقة المُؤيِّدة للتغيير
يقوم مبدأ عمل اللقاحات، التي تعتمد في تصميمها على الحمض النووي الريبي المرسال، على إعطاء الجسم مجموعة من التعليمات عن كيفية صنع البروتينات الفيروسية، ومن ثمَّ تُدرِّب هذه البروتينات الجهازَ المناعي على إنتاج عدد من الأجسام المضادة التي يمكنها إضعاف العوامل المُمْرِضة. لكن هذه العملية لا تنجح إلّا إذا رأى الجهاز المناعي أن لقاح الحمض النووي الريبي هذا لا يشكّل مصدر خطر على الجسم.
في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اكتشف العلماء أنّه حال الاستعاضة عن وحدة من الوحدات البنائية الأساسية الأربع للحمض النووي الريبي، التي يُطلق عليها النوكليوتيدات، بوحدة مثيلة ذات صلةٍ، فإن ذلك يساعد على جعل الحمض النووي الريبي المرسال أقل إثارة لانتباه الجهاز المناعي، وعندئذ سيكون بالإمكان استخدام جرعات أعلى من اللقاحات، ما يسمح باستثارة أقصى درجة من الاستجابةٍ المناعية للأجسام المضادة، مع التخفيف من الآثار الجانبية التي يُسبّبها ردّ الفعل المناعي على الحمض النووي الريبي المرسال نفسه.
ولعقودٍ من الزمن، كان الاعتقاد السائد في شركة «كيور فاك» أنّ بالإمكان تحقيق التأثير نفسه عن طريق ضبط تسلسل الحمض النووي الريبي المرسال بدقة فائقة، لتجنّب تعطيل جهاز الإنذار المناعي. وقالت الشركة إن الحمض النووي الريبي المرسال «المُحسَّن» الذي صمَّمته من الممكن أن يُثير كامل نطاق استجابات الجهاز المناعي، الذي نرغب في الوصول إليه، دون إثارة مشكلات سلامة كبيرة تستدعي الانتباه1. على أنه في مراحل الاختبارات الأخيرة، لم يُنْتِجْ لقاحُ «كيور فاك» التجريبي ما يكفي من الأجسام المضادة لمواجهة السلالات المتحوّرة الجديدة من فيروس «سارس-كوف-2» (مرجع 2). وكان الإجماع العام في النهاية: جرعةُ «كيور فاك» شديدة الانخفاض بالفعل، لكن ليس بالإمكان زيادتها نظرًا إلى وجود مخاوف تتعلّق بقدرة الجسم على تحمّلها.
ثم ابتكرَتْ الشركة جيلًا تاليًا من اللقاحات بدا أنّه يُولِّدُ استجاباتٍ مناعيةٍ أقوى3، رغم أنها كانتْ لقاحات مصممة هي الأخرى اعتمادًا على الحمض النووي الريبي المرسال غير المعدَّل. ودَخَلَ هذا المنتجُ الجديد مرحلةَ التجارب الإكلينيكيّة في شهر مارس عام 2022. إلا أنه نحو ذلك الوقت تقريبًا، بدأ الفكر السائد في الشركة يتبدل.
وبحسب ما قاله هاس لدورية Nature، في مقابلةٍ أجريت ذلك الشهر: "لا ينبغي أن ننظر بعين الجمود إلى مسألة التعديلات التي تُجرَى على الحمض النووي الريبي المرسال". واعتمادًا على تلك الرؤية، قرّرَت شركة «كيور فاك» وشريكتها في التطوير، شركةُ «جي إس كيه» GSK ومقرّها لندن، تجربةَ الحمض النووي الريبي المرسال الذي أُدخِلت عليه بعض التعديلات.
وفي أغسطس الماضي، دخل لُقاحٌ مرشحٌ آخر لـمواجهة مرض «كوفيد-19»، طوَّرته شركة «كيور فاك»، مرحلةَ التجارب الإكلينيكيّة. وقد أُدخِلت مجموعة من التحديثات عليه لتقديم حماية للأشخاص من المتحوّرات الفيروسية الجديدة، واستُخدِم في تصنيعه الحمض النووي الريبي المرسال المُعَدَّل.
تحويل كيميائي
في السادس من يناير، نشرَتْ شركة «كيور فاك» بيانات التجارب الأولية، التي قارنَتْ بين لقاحَي الجيل التالي. وأشارت النتائج إلى أنه عندما أُعطِي اللقاحان بالجرعة نفسها، أثارَتْ حقنةٌ من لقاح الحمض النووي الريبي المرسال المعدَّل عددًا من الأجسام المضادةِ التي تُغلّف فيروس كورونا يماثل العددَ الذي أثاره لقاح الجيل التالي المعتمِد على الحمض النووي الريبي المرسال غير المُعَدَّل. ولكن الأهم من ذلك، أنّ الآثار الجانبية للقاح الحمض النووي الريبي المرسال المعدَّل كانت أخف، ما سمح لـ«كيور فاك» بزيادة الجرعة بأمانٍ، لتوفير أقصى درجة من الحماية المناعية.
ويقول فيل دورميتسر، الرئيس العالمي لأبحاث اللقاحات وتطويرها في شركة «جي إس كيه»، إنّ البيانات المؤيِّدة للتعديل كانت "شديدة الإقناع، إذ أثبَتَ الحمض النووي الريبي المرسال فاعليته". وفي الوقت الحاليّ، تسعى شركة «كيور فاك»، بالتعاون مع «جي إس كيه» إلى الوصول لجرعات عالية من الحمض النووي الريبي المرسال المُعَدَّل، واستخدامها في برامج لقاح الإنفلونزا و«كوفيد-19».
في الوقت نفسه، أجرَتْ شركاتٌ أخرى مجموعةً من التجارب على لقاحات الحمض النووي المرسال التي يحتمل أن تكون فعَّالة، سواء مع تعديلاتٍ على الحمض النووي الريبي المرسال أو دونها. لكن لم يَكْشِف أحدٌ النتائج الكاملة. ويقول اختصاصي اللقاحات نوربرت باردي، من كلية بيرلمان للطب في جامعة بنسلفانيا بفيلادلفيا: "لهذا السبب، فإن دراسة «كيور فاك» مفيدةٌ للغاية".
ورغم أن البيانات لا تزال في مراحلها الأوَّلية، إلا أن باردي يقول إنها "أوّل مقارنة مباشرة بين لقاحين تجريها الشركة نفسها"، مضيفًا أن النتائج تُظْهِرُ بوضوح أن "الحمض النووي الريبي المرسال المُعَدَّل هو اللقاح المستقبلي".
من الجدير بالذكر أن واحدة من الشركات التي كانت فترة طويلة تؤيِّد استخدام نهج الحمض النووي الريبي المرسال غير المُعدَّل، وهي شركة «ترانسليت بيو»، قد تخلّت عن نهجها في العام الماضي، وتتبع هذه الشركة الآن شركة الأدوية «سانوفي» Sanofi، التي يقع مقرّها في مدينة باريس. ولا يترك ذلك إلا قلَّة من المؤثرين الجُدد في مجال الحمض النووي الريبي المرسال، ممن لا يزالون يدافعون عن استخدام الحمض النووي الريبي المرسال غير المُعَدَّل في لقاحات الجهاز التنفسي، ومن بينها شركة «أبوجين بيوساينس» Abogen Biosciences، ومقرّها سوجو في الصين، التي تُجري تجارب في مراحل متقدمة على لقاح «كوفيد-19» الذي يُعتَمَد في تصنيعه على الحمض النووي الريبي المرسال غير المُعَدَّل. ولا يتوقع إلا قلة من العلماء أن يكون أداء هذا اللقاح أفضل بكثيرٍ من أداء منتج «كيور فاك» الأول.
دور المنتجات الطبيعية
بالنسبة إلى الأمراض المُعدية، على الأقل، ومع التركيبات التي نتبنَّاها في الوقت الحاليّ، فإن هناك طُرقًا أخرى، غير مُثبَتة حتى الآن، يمكننا من خلالها إعطاء لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال، الذي قد لا يحتاج إلى تعديلٍ كيميائي. وفي مجال علم الأورام، ربما تكون اللقاحات غير المُعَدَّلَة المُعتَمِدَة على الحمض النووي الريبي المرسال مفيدةً للقاحات العلاجية، وهي لقاحات تعالج المرض بدلًا من الوقاية منه.
تساعدُ لقاحاتُ السرطان الجهازَ المناعي مثلًا في التعرّفِ على الخلايا السرطانية، حتى تتمكن الخلايا التائية القاتلةُ من شنِّ هجومٍ عليها. وفي هذا السياق، يمكن أن يكون ميلُ لقاحاتِ الحمض النووي الريبي المرسال الطبيعيةِ لتحفيزِ إنتاج الجزيئات، التي تبدأ تشغيلَ الجهاز المناعي، أمرًا مفيدًا في نهاية المطاف.
وبإمكان الجزيئات نفسها أن تُثَبِّطَ استجابةَ الأجسام المضادة اللازمة لمكافحة العوامل الممرضة، حسبما تشير كاتالين كاريكو، عالمة الكيمياء الحيوية، التي أظهرت لأول مرة أهميةَ تعديلات الحمض النووي الريبي المرسال لتجنّب الاستجابات المناعية غير المرغوب فيها، وهي تعمل الآن مستشارةً لشركة « بيونتِك» في ماينتز بألمانيا. إلا أنها تضيف أنّ الخلايا المناعية القاتلة هي المفتاح بالنسبة إلى السرطان.
من الضروري إجراء اختبارات على هذه اللقاحات في الوقت القريب، ففي وقتٍ لاحقٍ من هذا العام، ستقدّم «بيونتِك»، التي تستخدم لقاحات سرطان تعتمد على الحمض النووي الريبي المرسال غير المُعدَّل، و«موديرنا» في كامبريدج بماساتشوستس، التي تستخدم الصورة المُعَدَّلَة، بياناتٍ عن أداء لقاحَيهما مع الورم الميلاني.
اضف تعليق