q
في الأشهر الأولى من جائحة «كوفيد-19»، استرعت التجربة الإفريقية الاهتمام ولفتت الأنظار باستجابتها الحثيثة والمنسقة للأزمة، والتي استرشدت بكل ما يُستجَد من بيانات، واليوم، في مستهل عام 2022، بينما تقف الدول المتقدمة في النصف الشمالي من العالم وقد أحرزت بعض النجاح في السيطرة على الجائحة بفضل حملات التطعيم الشاسعة التي دشنتها...
بقلم: كريستيان تي. هابي، جون إن. نكينجاسونج

في الأشهر الأولى من جائحة «كوفيد-19»، استرعت التجربة الإفريقية الاهتمام ولفتت الأنظار باستجابتها الحثيثة والمنسقة للأزمة، والتي استرشدت بكل ما يُستجَد من بيانات. واليوم، في مستهل عام 2022، بينما تقف الدول المتقدمة في النصف الشمالي من العالم وقد أحرزت بعض النجاح في السيطرة على الجائحة بفضل حملات التطعيم الشاسعة التي دشنتها، تقف إفريقيا عاجزة عن اللحاق بركب تلك الدول.

فمنذ أن نالت دول إفريقية عديدة استقلالها في ستينيات القرن الماضي، اعتمدت القارة اعتمادًا كبيرًا على المساعدة من خارجها في توفير احتياجاتها من السلع التي تضمن أمنها الصحي. تشمل تلك السلع الأدوات التشخيصية، والأدوية، واللقاحات، فضلًا عن معدات الحماية الشخصية، والإمدادات الطبية الأخرى. غير أن جائحة «كوفيد-19» أظهرت مدى هشاشة علاقات التعاون الدولي والاتفاقيات متعددة الأطراف، لا سيّما في مواجهة أزمة عالمية، بل وكشفت حجم التهديدات التي تحيق بإفريقيا نفسها في ظل ركونها إلى مساعدة العالم الخارجي لمواجهة مثل تلك الأزمات. ففي عامي 2017 و2018، على سبيل المثال، أُفيد باندلاع أكثر من 120 فاشية لأمراض في القارة.

ومن هذا المنطلق، نرى أن الخيار المطروح أمام قادة دول الاتحاد الإفريقي، البالغ عددها 55 دولة، واضح وضوح الشمس.

فمن ناحية المبدأ، يمكن لإفريقيا أن تُحرز تقدمًا بالعمل على الاستفادة من المكتسبات المذهلة التي حققتها بالفعل في مجالي مراقبة انتشار الأمراض واستجابة هيئات الصحة العامة لحالات التفشي خلال السنوات الأخيرة الماضية. وبإمكان إفريقيا أيضًا أن تحشد ما يكفي من الاستثمارات الرامية لتوفير السلع اللازمة لضمان أمنها الصحي، وأن تضع نفسها بذلك ضمن قائمة الدول التي تتصدر جهود مكافحة الأمراض المعدية على مستوى العالم.

وهنا، قد نتساءل إن كان هناك مسار بديل لما طرحناه في الفقرة السابقة، لكن الواقع يجيب بالنفي. وإن لم تسع إفريقيا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، سيكون مصيرها الفشل في التصدي للتهديدات التي يفرضها انتشار الأمراض المعدية خلال القرن الحادي والعشرين، وهو ما سيترتب عليه عجز القارة عن تحقيق أهداف التنمية المتضمنة في «أجندة 2063: إفريقيا التي نريد» Agenda 2063: The Africa We Want، وهي مخطط وضعه الاتحاد الإفريقي في عام 2013، مستشرفًا فيه تحوُّل إفريقيا لواحدة من القوى العالمية.

خطوات إفريقية سديدة

في عام 2017، في أعقاب تفشي فيروس «إيبولا» غرب إفريقيا، خلال الفترة ما بين عامي 2014 و2016، دشَّن الاتحاد الإفريقي ما يُعرف بهيئة المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، بهدف إعداد القارة للتصدي للأوبئة والجوائح. وقد تلقت تلك الهيئة استثمارات تُقدَّر بملايين الدولارات من أعضاء الاتحاد الإفريقي، ومن منظمات مثل بنك التنمية الإفريقي والبنك الدولي، ودول ومؤسسات شريكة أخرى، مما عزز قدرتها وقدرة مراكز التعاون الإقليمي التابعة لها على مواجهة حالات تفشي الأمراض. وتُعد المراكز الإقليمية شبكات تربط ما بين عدد من المؤسسات المعنية بالصحة العامة، وتتخذ مقرات لها في مصر وكينيا وزامبيا والجابون ونيجيريا، نيابة عن المناطق الشمالية والشرقية والجنوبية والوسطى والغربية من القارة على الترتيب.

من هنا، بعد أيام قليلة من إعلان جمهورية مصر العربية عن رصد أول حالة إصابة بمرض «كوفيد-19» فيها، منتصف فبراير عام 2020، دعا الاتحاد الإفريقي وهيئة المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها جميع وزراء الصحة الإفريقيين لاجتماع طارئ، عُقِد في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. ومن الثمار التي نتجت عن الاجتماع، الاتفاق على وضع وتبني استراتيجية مشتركة على مستوى القارة، تلتزم بموجبها الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي بروح التعاون والشراكة، فضلًا عن تنسيق الجهود في ما بينها والإخطار بما يُتَّخذ من تلك الجهود. وكانت هيئة المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها قد شَكلَّت بالفعل «فريق العمل الإفريقي لمكافحة فيروس كورونا» (AFTCOR) مطلع فبراير عام 2020 للمساعدة على تحقيق تلك الأهداف المُتَّفق عليها.

وفي بداية مارس عام 2020، بالتزامن مع انتشار حالات «كوفيد-19» في جميع أنحاء القارة، سارعت الدول الإفريقية باتخاذ إجراءات فورية وصارمة، شملت إنفاذ تدابير الإغلاق العام وفرض قيود أخرى تهدف إلى تقليل احتمالات انتشار العدوى. وقد استمر هذا التعاون على مستوى دول القارة. فمنذ مارس عام 2020، عقد فريق العمل الإفريقي لمكافحة فيروس كورونا اجتماعات كل أسبوعين. كما عقد مكتب مؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي (وهو هيئة تضطلع بشؤون الاتحاد الإفريقي بين القمم السنوية للاتحاد) اجتماعات شهرية لأعضائه لتقييم الاستجابة الإفريقية للجائحة، مسترشدًا بالتوجيهات الفنية التي طرحتها هيئة المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها.

وقد كان للتنسيق بين كل تلك الجهات الفضل في إطلاق 12 مبادرة حتى الآن، نذكر منها ثلاث مبادرات هي: «الشراكة الرامية للتعجيل بإتاحة اختبارات كوفيد في إفريقيا» Partnership to Accelerate COVID-19 Testing in Africa، والتي أسهمت في توفير الأدوات اللازمة لتشخيص المرض، و«المنصة الإفريقية المعنية باللوازم الطبية» Africa Medical Supplies Platform، وهي منصة أفسحت المجال لشراء إمدادات طبية مهمة، و«فريق العمل الإفريقي المعني باقتناء اللقاحات» (AVATT)، الذي تأسَّس في نوفمبر عام 2020 ليخدم كوكيل شراء مركزي منوط بتيسير تأمين احتياجات دول الاتحاد الإفريقي من اللقاحات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفريق المذكور ضمن المبادرة الثالثة نجح حتى الآن في إتاحة 400 مليون جرعة من اللقاحات على مستوى القارة.

وفي غضون كل ذلك، حققت مراكز الدراسات الجينومية في إفريقيا نجاحات باهرة في مجال مراقبة انتشار الأمراض. ويعود الفضل في ذلك إلى التنسيق بين هيئة المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها والمؤسسات الوطنية المعنية بالصحة العامة، مثل المركز النيجيري لمكافحة الأمراض الكائن بالعاصمة النيجيرية أبوجا. ففي مارس عام 2020، على سبيل المثال، شهدت نيجيريا لأول مرة إجراء تحليل للتسلسل الجينومي لفيروس «سارس-كوف-2» بسواعد إفريقية، تحقق بعد 48 ساعة فقط من وصول عينة (تعود لمريض كان قادمًا من إيطاليا) إلى المركز الإفريقي للتميز في أبحاث الجينوم الخاصة بالأمراض المعدية (ACEGID) الكائن مقره بمدينة إيدي النيجيرية، إذ ظهرت نتائج تحليل العينة بعد 72 ساعة (انظر: go.nature.com/3ywdobt). وفي أكتوبر من العام نفسه، اكتُشِفت السلالة المتحورة «بيتا» Beta 2 في غضون أيام من وصول عيّنة إلى الاتحاد التابع لـ«شبكة مراقبة الجينوم في جنوب إفريقيا» Network for Genomic Surveillance South Africa، وهو اتحاد منبثق عن تعاون في ما بين مختبرات وباحثين ومؤسسات أكاديمية من جميع أنحاء البلاد. كذلك، في نوفمبر من عام 2021، تعرَّف باحثون من جنوب إفريقيا على السلالة المتحورة «أوميكرون» Omicron، التي تحتوي على نسبة كبيرة من الطفرات الجينية، بعد رصدها من خلال بيانات واردة من بوتسوانا ومستمدة من تحليلات التسلسل الجيني.

ولا شكَّ أن مراكز أبحاث الجينوم الأفضل تجهيزًا من ناحية الموارد لم تدعم بلدانها فحسب، بل قدَّمت يد العون لعديد من البلدان الأخرى أيضًا. ومثال على ذلك المركز الإفريقي للتميز في أبحاث الجينوم الخاصة بالأمراض المعدية (الذي يديره كريستيان تي. هابي)، الذي حلَّل حتى الآن التسلسل الجيني لعينات جرى جمعها من نحو 30 دولة إفريقية. كما اضطلع الباحثون العاملون بالمركز أيضًا بتدريب أكثر من 1300 من علماء الوراثة والعاملين والمسؤولين في مجال الصحة العامة الوافدين من دول أخرى، في مجالي تشخيص الأمراض المعدية وإجراء الأبحاث الجينومية المتعلقة بها، ليعود أولئك المتدربون إلى بلدانهم الإفريقية بعد ثلاثة أسابيع ويطبِّقوا ما تعلَّموه رغم بساطة معدّاتهم مقارنة بالمعدات التي تدرَّبوا على استخدامها في المركز.

كل هذه الجهود المبذولة في مجال تحليل التسلسل الجيني لا تزال تلعب دورًا في إرشاد سبل التصدي لأزمات الصحة العامة على الأصعدة المحلية والإقليمية والوطنية والدولية. ففي الفترة ما بين أبريل ويوليو من عام 2020، على سبيل المثال، كشفت معلومات جُمِعت في نيجيريا، وأسفرت عنها جهود تحليل التسلسل الجيني هناك، أن الأفراد يلتزمون باتباع تعليمات تدابير الإغلاق خلال النهار أكثر مما يفعلون خلال الليل. وفي الآونة الأخيرة، كانت الجهود التي نبَّهَت العالم إلى وجود السلالة المتحورة «أوميكرون» سببًا في تكثيف جهود مراقبة انتشار المرض في إفريقيا، وظهور عدد كبير من الأبحاث الجديدة في علم المناعة ومجال تحليل التسلسل الجيني، فضلًا عن إحداث تغييرات في السياسة العامة التي تتبناها دول النصف الشمالي من العالم.

إن مثل هذه الإنجازات على صعيد التنسيق والتعاون المتبادلَين -وهي إنجازات كان لها الفضل في تمكين عديد من الدول الإفريقية من تحقيق الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة لها- تتناقض كل التناقض مع التعنّت الذي شهدناه في مناطق أخرى من العالم.

ولا شكَّ أن الإنجازات التي حقّقتها القارة السمراء، خاصة تلك التي أحرزتها في بداية جائحة «كوفيد-19»، تعد على أقل تقدير أحد العوامل التي أسهمت في تخفيف وطأة الموجة الأولى، ونوعًا ما في تقليص حدّة الموجة الثانية من الجائحة في إفريقيا (انظر: شكل توضيحي بعنوان "القوة المُستمدَّة من الخبرة"). وتجدر الإشارة هنا إلى أنه، حتى الثالث عشر من ديسمبر عام 2021، جرى الإبلاغ عن ظهور نحو 8.9 مليون حالة إصابة بمرض «كوفيد-19»، ووقوع نحو 225 ألف حالة وفاة من جرائه على مستوى إفريقيا (انظر: https://africacdc.org/covid-19)، وهو ما يخالف النماذج التصوُّرية الأولى التي وضعها خبراء الصحة العامة وعلماء الأوبئة، وتوقعوا بموجبها إصابة ما يصل إلى 70 مليون إفريقي بفيروس «سارس-كوف-2» بحلول يونيو عام 2020، ووفاة أكثر من 3 ملايين شخص على مستوى القارة.

التطورات التالية

في الأشهر الأولى من الجائحة، فرض أكثر من 70 دولة قيودًا على تصدير المواد الطبية، بما في ذلك المواد الخام اللازمة لإنتاج أدوات تشخيص المرض. من ثَمَّ، لم تتمكن إفريقيا من بدء شراء الإمدادات الطبية بوتيرة تواكب حجم الطلب عليها إلا بعد إطلاق الاتحاد الإفريقي المنصة الإفريقية المعنية باللوازم الطبية في يونيو عام 2020.

واليوم، يسعى قادة الدول الإفريقية للوصول إلى لقاحات «كوفيد» بكل ما أوتوا من قوة. فقد تلقى نحو 47% من السكان على مستوى العالم جرعتين من اللقاح، بل ومنحت بلدان عديدة سكانها جرعة (معززة) أخرى. أمّا إفريقيا فلا تزال تعاني. إذ تقتصر نسبة مَنْ اكتمل تطعيمهم فيها على قرابة 7% فقط من الأشخاص المُؤهَّلين للتطعيم (أي أولئك الذين يبلغون من العمر 18 عامًا أو أكثر، وفقًا لشروط التطعيم الحالية).

يأتي هذا على الرغم من الوعود التي قطعتها جهات مانحة بتوفير ملياري جرعة من اللقاحات للأشخاص الذين يعيشون في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط بحلول نهاية عام 2021، عبر مبادرة «إتاحة لقاحات كوفيد-19 على الصعيد العالمي» (COVAX)، وهي مبادرة أطلقتها في إبريل عام 2020 منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع التحالف العالمي للقاحات والتحصين (Gavi)، وتحالف ابتكارات التأهب الوبائي (CEPI).

وهذا النوع من انعدام المساواة الذي يشوب إدارة جائحة «كوفيد-19» يذكِّرنا بكارثة أخلاقية وقعت في أثناء جائحة فيروس نقص المناعة البشرية المسبب لمرض العوز المناعي المكتسب «الإيدز» في منتصف التسعينيات، وهو ما سبق أن نوَّه به أحدنا (جون إن. نكينجاسونج) عبر صفحات دورية Nature قبل أكثر من عام4. فقبل إطلاق برامج مثل «خطة الرئيس الأمريكي الطارئة للإغاثة من الإيدز» (PEPFAR) و«الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا» Global Fund to Fight AIDS, Tuberculosis and Malaria، لقي أكثر من عشرة ملايين إفريقي حتفهم دون داعٍ لأنهم لم يتمكنوا من الحصول على الأدوية المضادة لفيروسات النسخ العكسي، التي كانت متوافرة ويمكن الحصول عليها بكل سهولة في الدول الغنية.

وينبغي أن يكون ما مرَّت به إفريقيا منذ بداية جائحة «كوفيد-19» عبرة وتذْكِرة للقادة الإفريقيين بمدى هشاشة روابط التعاون الدولي والمقاربات القائمة على أطراف متعددة4. بل إن الموقف يحمل دروسًا أخرى أعمق لإفريقيا.

«سينتينل»: حارس ضد المرض

يمكن لأحد نظم الإنذار المبكر التي يجري حاليًا تطويرها في إفريقيا أن يخدم كنقطة تحول في إمكانية منع تفشي الأمراض والتصدي لها في جميع أنحاء العالم.

يعمل أحدنا (كريستيان تي. هابي) في مبادرة تبني العمل بنظام «سينتينل»6، بالتعاون مع برديس سابيتي، عالمة الوراثة من معهد برود بمدينة كامبريدج، بولاية ماساتشوستس الأمريكية، منذ يناير عام 2020. ولهذا المشروع ثلاثة أهداف.

أولًا، رصد الأمراض: تتمثل الفكرة هنا في استخدام ثلاث تقنيات تشخيصية جديدة لرصد الأمراض. أولى هذه التقنيات هي تقنية التحرير الجيني المعروفة باسم «كريسبر كاس 9»CRISPR-Cas9، التي تكتشف الفيروسات المعروفة بإجراء اختبار بسيط وغير مُكلّف لرصد مسببات الأمراض ذات الأولوية القصوى في منطقة ما. ويمكن استخدام هذه التقنية في أي مكان يتلقَّى فيه المريض الرعاية، حتى إن كان ذلك في منزله. وحال فشل هذا الاختبار في اكتشاف العامل الممرض، تؤخذ عينة دم من المريض في إحدى منشآت الرعاية الأولية، ثم تُرسَلإلى مستشفى محلي لتخضع لاختبار أكثر تكلفة، وهو ما يساعد على الكشف عن مئات الفيروسات والسلالات الفيروسية في الوقت نفسه. وحال فشل هذه الطريقة أيضًا في اكتشاف عامل ممرض معروف، تُرسـَل عينة إلى أحد المراكز الإقليمية القائمة بتحليل التسلسل الجيني كي يجري تحليلًا للتسلسل الميتاجينومي. وهناك، يمكن رصد كل الفيروسات -سواء كانت معروفة أم غير معروفة- ويمكن تعقب انتشارها بتحليل التسلسل الجيني لكل الحمض النووي الموجود في العينة.

حتى الآن، نجح باحثون من معهد برود والمركز الإفريقي للتميز في أبحاث الجينوم الخاصة بالأمراض المعدية، في التحقق من صحة ثلاثة تشخيصات، أحدها بالإصابة بفيروس «الإيبولا»، واثنان منها بالإصابة بحمي «لاسا»، وفيروس «سارس-كوف-2»، جرى التوصل إليها باستخدام تقنية «كريسبر» (انظر المرجع 7). وقد أُدمجت أيضًا هذه التقنيات الثلاث في اختبار واحد يُمكنه رصد ما يصل إلى 169 فيروسًا في وقت واحد في عينة واحدة7 ،8.

ثانيًا، الدمج بين مصادر البيانات: إلى جانب تطوير أدوات أفضل لرصد الأمراض ومراقبة انتشارها، يعمل الباحثون في معهد برودو المركز الإفريقي للتميز في أبحاث الجينوم الخاصة بالأمراض المعديةعلى تصميم أدوات تسمح بالدمج بين مصادر البيانات بجميع أنواعها، بداية من البيانات التشخيصية والإكلينيكية التي يجمعها العاملون في قطاع الرعاية الصحية، ووصولًا إلى بيانات المراقبة الجينومية التي يجري جمعها على مستوى القارة، والهدف من ذلك جعل كل مصادر البيانات هذه متاحة (ومترابطة آنيًا) من خلال تخزينها سحابيًا ضمن قاعدة بيانات خاصة بالقارة أو المنطقة. ونظرًا إلى محدودية الموارد في إفريقيا، ولدى عديد من المناطق الأخرى التي يمكن أن يعمل فيها نظام «سينتينل»، فإن عديدًا من هذه الأدوات يجري حاليًا تصميمه على نحو يراعي العلماء وموظفي المختبرات والعاملين في مجال الصحة العامة الذين قد تكون خبرتهم الحاسوبية محدودة أو يعاني موقع عملهم من نقص في الموارد اللازمة من الأجهزة.

ثالثًا، التمكين: إن تقنيات التشخيص ونُظم المعلومات ليست لها جدوى إلا إذا وُظِّفت في مجال توجيه الرعاية الإكلينيكية وتدخّلات الصحة العامة. ومن هذا المنطلق، تُعد فاعلية نظام «سينتينل» مرهونة بمدى التمكين الذي يوفره للأطراف المعنية كافة، سواء كانوا من الحكومات ومسؤولي الصحة العامة، أو العاملين في مجال الرعاية الصحية في الخطوط الأمامية للتصدي للأمراض، أو العلماء، أو المجتمعات المحلية والمرضى أنفسهم.

وسيتبين مدى أهمية تدريب الكوادر البشرية على الممارسات المرتبطة بتحليل التسلسل الجينومي والتشخيص ونظم المعلومات الحيوية والمراقبة الجينومية المتقدمة (أي دراسات التسلسل الميتاجينومي) لإبقاء نظام «سينتينل» فعالًا على المدى الطويل. ولذا، حتى الآن، أسهم الباحثون في المركز الإفريقي للتميز في أبحاث الجينوم الخاصة بالأمراض المعدية ومعهد برود في تدريب أكثر من 1300 شخص من العاملين المحليين في قطاع الرعاية الصحية والعلماء على استخدام أدوات التشخيص ومراقبة انتشار الأمراض باستخدام نظام «سينتينل». مع ذلك، ففي نهاية المطاف، سيتطلب الأمر تدريب عشرات الآلاف من الكوادر.

مساوئ المساعدات

على مدى التاريخ، كانت الجهود المبذولة لمساعدة إفريقيا منفصلة إلى حد كبير عن واقع القارة، وكأنها تأتي من برج عاجي؛ إذ اضطلعت بصناعة القرارات هيئة مركزية ما من خارج القارة بدلًا من أن تصدر عن مؤسسات إفريقية وخبراء إفريقيين. كما ركّزت تلك الجهود في الأغلب على إدارة الأزمات على المدى القصير، بدلًا من الاهتمام بإرساء نظم مستدامة، من النوع الذي قد يساعد إفريقيا على تحمُّل مسؤولية أمنها الصحي في المستقبل، مثل النظم التي من شأنها تمكين القارة من صناعة الأدوات اللازمة لتشخيص الأمراض بنفسها.

ويبرز وباء «الإيبولا» الذي انتشر في الفترة ما بين عامي 2014 و2016 بوصفه شاهدًا على المساوئ الموضَّحة أعلاه، إذ لم يُصنَّف تفشي ذلك المرض رسميًا على أنه حالة طوارئ صحية عالمية إلا بعد الإبلاغ عن ما يقرب من ألفي حالة إصابة به وقرابة ألف حالة وفاة من جرائه في غرب إفريقيا، في حين أنه كان بالإمكان إنقاذ عديد من الأرواح لو أن القارة تضمَّنت مؤسسات تعمل على الأرض جنبًا إلى جنب مع مَن يقفون على خط الدفاع الأول في معركة التصدي للوباء، أي مؤسسات تتمتع بالصلاحيات التي تخولها بإصدار تحذير حال رصدها أزمة صحية وشيكة. بيد أنه عندما وصلت المساعدات الدولية إلى إفريقيا من بلدان كثيرة، كانت المنظمات العديدة التي قدمت هذه المساعدات سببًا في زيادة اختلاط الأمور على الإفريقيين في ما يخص منشأ الفيروس وأفضل السبل لمكافحته؛ إذ بعثت كل منظمة برسالة مختلفة، وتباينت ممارسات العمل بين هذه الكيانات.ومن هنا، يتبين أن اعتماد إفريقيا على العالم الخارجي لا يُسفر في نهاية المطاف إلا عن ترسيخ انعدام الثقة في قدرات القارة، سواء كان ذلك داخل القارة أو خارجها. ويتجلى ذلك بلا شك في تواني وسائل الإعلام الرئيسية عن تغطية النجاحات الإفريقية في التصدي لجائحة «كوفيد»، وهو ما حال دون استفادة العالم من تلك النجاحات؛ إذ تمحور الخطاب الإعلامي حول ما إذا كانت المشكلات المتعلقة بجمع البيانات أو التركيبة الديموغرافية للقارة أو مناخها أو عوامل أخرى قد أسهمت في قلة أعداد المصابين والوفيات التي جرى الإبلاغ عنها مقارنة بما توقَّعه علماء الأوبئة وغيرهم3 ، 5. خمس خطواتإن تبنّي نهج قائم على أطراف متعددة سيظل دومًا ضروريًا في سياق الوقاية من الأوبئة والجوائح والتصدي لها، بيد أن إفريقيا لن تتمكن من الاستفادة من التقدم الذي أحرزته في مجال مراقبة انتشار الأمراض إلا بتعديل النهج الذي تتبناه في إدارة شؤون الصحة العامة ليصبح أكثر ميلًا لتعزيز الاعتماد على الذات، وهو ما يمكن تحقيقه باتباع خمس خطوات نستعرضها في ما يلي.

أولًا، الاستثمار في تعزيز القطاع الصحي ومكافحة الأمراض. يجب على القادة الإفريقيين أن يفوا بما قطعوه من تعهدات بالالتزام بتخصيص ما لا يقل عن 15% من ميزانية بلدانهم السنوية لدعم قطاع الصحة، بموجب اتفاقهم على ذلك في اجتماع عام 2001 في العاصمة النيجيرية أبوجا، والذي ناقشوا فيه سبل التصدي لوباء فيروس نقص المناعة البشرية، وعدة أمراض أخرى. والواقع اليوم هو أن الإنفاق على القطاع الصحي في إفريقيا يُشكِّل نسبة تتراوح ما بين 0.1% و2% من الناتج المحلي الإجمالي في كل دولة من دول القارة.إن تأكيد ذلك الالتزام من جانب القادة يُعد ملحًا، لا سيّما اليوم وقد بدأت الأهداف المرسومة في «أجندة 2063» تُترجم إلى حقيقة. على سبيل المثال، تُسهم اتفاقية «منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية» African Continental Free Trade Area، التي دخلت حيَّز التنفيذ في يناير من هذا العام، في خلق منطقة تجارية قوامها 1.3 مليار شخص يتوزعون على 55 دولة حول القارة. كذلك، فإن «بروتوكول الاتحاد الإفريقي بشأن حرية تنقل الأشخاص في إفريقيا» African Union’s Protocol on Free Movement of Persons in Africa سيتيح لأشخاص بعينهم فرصة السفر عبر أنحاء القارة دون الحاجة إلى استخراج تأشيرة. غير أن أهمية كلتا الخطوتين لا تكمن في كونهما من ضرورات تحقيق التنمية الاقتصادية بالقارة فحسب، إذ تحملان أيضًا تداعيات كبيرة في مجال الصحة العامة.

ثانيًا، إرساء دعائم السيطرة على انتشار الأمراض وبناء القدرات الذاتية اللازمة لتحقيق ذلك على المستوى الإقليمي. وهذا يعني تعزيز المؤسسات الوطنية المعنية بالصحة العامة، مثل المركز النيجيري لمكافحة الأمراض، ومعهد زامبيا الوطني للصحة العامة الكائن في العاصمة لوساكا، كما يعني أيضًا تعزيز هيئة المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، ومراكز التعاون الإقليمي الخمسة التابعة لها، مع تمكين كل منها. إذ تلعب هذه "المؤسسات المملوكة لإفريقيا"، دورًا بالغ الأهمية في منع وقوع أي تهديدات تستهدف الصحة العامة، وفي رصدها متى وقعت، ومن ثَمَّ التصدّي لها. وفي جميع الأحوال، ينبغي أن تصبح المؤسسات الوطنية المعنية بالصحة العامة ومراكز التعاون الإقليمي التابعة لها مراكز قيادة منوطة بالإشراف على عمليات السيطرة على تفشي الأمراض.

ثالثًا، إسراع عجلة البحوث الانتقالية وتطويرها. إذ تتراوح نسبة واردات إفريقيا من الأدوية حاليًا ما بين 70% و90%، وهو ما يعني أنها تخلو تقريبًا من قطاع للتكنولوجيا الحيوية. وبالمقارنة، فإن دولتين مثل الصين والهند، وهما دولتان تضاهيان القارة من ناحية تعداد سكانهما، لا تتجاوز نسبة وارداتها من الأدوية 5% و20% على الترتيب. وتعاني إفريقيا كذلك نقصًا حادًا في الموارد البشرية؛ إذ لا يوجد بها حاليًا سوى قرابة 1900 متخصص في علم الأوبئة بالقارة، وهو رقم أقل بكثير من الستة آلاف خبير الذين يجب توافرهم وفقًا لما نصَّت عليه «أجندة الأمن الصحي العالمي» Global Health Security Agenda. (يمكن تعريف «أجندة الأمن الصحي العالمي» على أنها مبادرة انبثقت عن جهود دولية ترمي للتعجيل بتنفيذ اللوائح الصحية، لا سيّما في البلدان النامية، وهو ما سيسهم بدوره في الارتقاء بمستوى القدرة على الوقاية من التهديدات التي تفرضها الأمراض المعدية والتصدي لها).

ويجب على الحكومات، والجهات الخيرية، ومؤسسات القطاع الخاص، مثل البنك الإفريقي للتصدير والاستيراد، وبنك التنمية الإفريقي، توفير تمويل مستدام وتسخيره لخدمة البحث العلمي والتطوير، مع الاهتمام بتقنيات التشخيص والأدوية واللقاحات في سياق التصدي للأمراض المعدية وغير المعدية. إذ إن استثمارًا مثل هذا سيلعب دورًا مهمًا في جذب الآلاف من أبناء القارة من العلماء والأطباء والعاملين بالتمريض، وغيرهم من العاملين المَهَرة بالقطاع الصحي، ممن سافروا إلى خارج القارة بحثًا عن عمل أو للحصول على التدريب، وتشجيعهم على العودة إلى بلادهم. وبالإضافة إلى ذلك، سيتطلب إسراع عجلة البحوث الانتقالية ضخ الاستثمارات بصورة متواصلة لدعم مراكز التميز الأكاديمي في مجال أبحاث الجينوم في إفريقيا.

رابعًا، الاستثمار في أنظمة الإنذار المبكر. لا شك في أن إفريقيا، بل العالم أجمع، يحتاج في نهاية المطاف إلى نظام مراقبة فعَّال لاكتشاف مسببات الأمراض الفتاكة وتحديد سماتها قبل أن تنتشر في جميع أنحاء العالم.

ومن هذا المنطلق، يجري العمل حاليًا على تأسيس عدد من المبادرات الواعدة في إفريقيا، مثل مبادرة تبني نظام «سينتينل» SENTINEL (انظر الشكل التوضيحي بعنوان "«سينتينل»: حارس ضد المرض")، التي يقودها أحدنا (وهو كريستيان تي. هابي). ولكي تظل تلك المبادرات فعَّالة على المدى الطويل، يجب أن تصبح جزءًا من واقع العمل في مؤسسات الصحة العامة في إفريقيا. والحال أن عديدًا من المشروعات المعنية بالصحة والأمراض في إفريقيا تُدار بمعزل عن واقع تلك المؤسسات. كما أن فترة تمويل هذه المشروعات ترتهن كليًا بقدرة الباحث الرئيسي الذي يقودها على إقناع المستثمرين بمواصلة ضخ أموالهم في ذلك المشروع.

وكانت هيئة المراكز الإفريقية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها قد أطلقت في عام 2017 الشبكة الإقليمية المتكاملة للمختبرات ومراقبة انتشار الأمراض (RISLNET) بهدف التعجيل برصد أي تهديدات جديدة في ما يخص الصحة العامة والوقاية من تلك التهديدات. وقد أنشِئت بالفعل شبكات تختص بمراقبة انتشار الأمراض في وسط إفريقيا، وهي شبكات تقوم على التعاون بين مختبرات الأبحاث الجينومية ومختبرات الصحة العامة الوطنية، وثمة جهود جارية حاليًا لتوسعة تلك الشبكات لتمتد إلى جنوب وشرق وغرب إفريقيا أيضًا. ويمكن من ناحية المبدأ دمج النظم المشابهة لنظام «سينتينل» في واقع عمل الشبكة الإقليمية لضمان تماشي تلك النظم مع الرؤية التي وضعها أعضاء الاتحاد الإفريقي للقارة، وللتأكد من أنها تلقى دعمًا مؤسسيًا وسياسيًا.

ويجب أن تسلك هذه الأنظمة نهجًا متكاملًا في مراقبة انتشار الأمراض، فترصد تفشّيها لدى البشر والحيوانات وفي البيئة. وقد سعى المشاركون في برنامج «وان هيلث» One Health التابع لهيئة المراكز الإفريقية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها لتعزيز هذا النهج المتكامل منذ فبراير عام 2020، بالاعتماد بالدرجة الأولى على تحقيق التقارب بين العاملين في تلك المجالات المختلفة.

خامسًا، تأسيس سلطة مركزية لحوكمة الجهود المعنية بالصحة. إن تأسيس كيان مثل الهيئة الإفريقية المعنية بالتأهب والاستجابة للأوبئة، والتي اقترح الاتحاد الإفريقي إنشاءها في أكتوبر عام 2021، قد يسمح لهيئة المراكز الإفريقية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها بتنسيق جهود التصدي للجوائح على امتداد القارة. كما يمكن الاحتذاء في تدشين هذه الهيئة بنموذج على غرار الهيئة الأوروبية للتأهب والاستجابة للطوارئ الصحية (HERA)، ليجري تأسيسها بموجب معاهدة تحمل توقيع قادة الدول المشاركة فيها، وهو ما يعني ضمان التعاون وتبادل البيانات وما إلى ذلك. وعلى نحو مماثل، يمكن للقارة الاستفادة من الممارسات والأدوات التي انبثقت عن أزمة «كوفيد-19». على سبيل المثال، أتاح صندوق الاتحاد الإفريقي للاستجابة لـ«كوفيد-19»، الذي أسسه الاتحاد في مارس عام 2020، للبلدان أن تجمع الأموال اللازمة لشراء السلع الطبية، مثل معدات الحماية الشخصية. غير أن صندوقًا كهذا يمكن من ناحية المبدأ تطويره ليصبح صندوقًا مُخصَّصًا للتصدي لخطر الأمراض في القارة. وبالأسلوب نفسه، يمكن الاستفادة من مبادرة «فريق العمل الإفريقي المعني باقتناء اللقاحات» عن طريق جعلها منصة يمكن من خلالها تأمين لقاحات أخرى للقارة.

نظرة مستقبلية

على عكس فاشيات الأمراض السابقة، شهدت جائحة «كوفيد-19» بزوغ دور إفريقيا لتصبح طرفًا فاعلًا في حشد المعرفة العلمية التي استرشد بها العالم في التصدي للجائحة.

ولمدة عامين، عكف المئات من علماء الوراثة في جميع أنحاء القارة على العمل طوال أيام الأسبوع، ولفترات كثيرًا ما امتدت طوال الليل، بهدف تحليل التسلسل الجيني لسلالات فيروس «سارس-كوف-2». وقد وظَّفت شركات من جميع أنحاء العالم البيانات الناتجة عن هذه الجهود (ومعظمها متاح في مستودعات بيانات عامة، مثل قاعدة بيانات «المبادرة العالمية لمشاركة بيانات إنفلونزا الطيور» GISAID) بهدف تطوير لقاحات وعلاجات لمرض «كوفيد-19». ولذا، من المحزن أن يشهد مَن شارك مشاركة بذلك الحجم في الجهود العالمية للسيطرة على هذه الجائحة استمرارَ معاناة إفريقيا من أجل الحصول على لقاحات «كوفيد-19» وتوزيعها على مواطنيها.

لكن قد يختلف المستقبل الذي يلوح في الأفق الإفريقي إذا تبنَّت إفريقيا النهج الجديد الذي طرحناه هنا، للتعامل مع أزمات الصحة العامة. فتبنّي هذا النهج يُعَد ضرورة مُلحّة لضمان أمن إفريقيا وبقائها الاقتصادي، فضلًا عن كونه يفيد العالم ككل، كما ثبت لنا بقوة في نوفمبر عام 2021 من خلال قصة اكتشاف السلالة المتحورة «أوميكرون».

اضف تعليق