إن فكرة عجز العامة عن التعامل بكفاءة مع الحقيقة المُرَّة تُعرقِل عملية إدارة الجائحة؛ ذلك أنها تؤدي إلى استخدام السُلطات طُرقًا دفاعية وانهزامية في التواصل. ويوضِّح البحث الذي أجرته مجموعتي البحثية أن رسائل القادة في أثناء الأزمات لا بدَّ أن تبُث في الناس شعورًا بالكفاءة الذاتية...
بقلم: مايكل بانج بيترسن

عندما تفترض الحكومات أن الجائحة ستصيب الناس بالهلع، فإن الجائحة ستتفاقم. أثارت جائحة «كوفيد» مخاوف عديدة، كان بعضها أكثر ضررًا من بعضها الآخر، كما في حالة خوف الحكومات من مواطنيها. على سبيل المثال، اعترف الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، بانتهاجه سياسة التهوين من مخاطر فيروس كورونا بُغية "الحدّ من الذعر". أمَّا الرئيس البرازيلي، جايير بولسونارو، فقد ألقى اللوم على الصحافة، متهمًا إيَّاها بخلق حالة من "الهستيريا". وفي المملكة المتحدة، عمَدَت الحكومة إلى تأخير فرض الإغلاق على مستوى البلاد، مخافة أن تُرهق الإجراءات الاحترازية الصارمة الشعبَ البريطاني. وفي بلادي، الدنمارك، سَعَت السُلطات لصَرْف انتباه العامة عن عمليات الإعداد للتصدّي للجائحة في بداية عام 2020؛ تفاديًا لـ"إثارة الخوف بلا داعٍ".

بيد أن الدنمارك غيَّرَت خطتها فيما بعد، واتَّبَعت استراتيجية تقوم على مبدأ الثقة في قدرة مواطنيها على التعامل مع الحقائق المُرَّة. وبالفعل، سادت إثر ذلك حالةٌ من التقبُّل في ما بين المواطنين تجاه سياسات الحكومة، مما أدَّى إلى انخفاض معدلات الوفيات، ومَهَّد لوصول نسبة مُتلقي اللقاح من المواطنين الذين تبلغ أعمارهم 50 عامًا فما فوق إلى 95% (فضلًا عن وصول نسبة تلقي اللقاح بين أفراد الشعب في العموم إلى 75%). ومن هنا، أعلنت بلدي، الدنمارك، في سبتمبر 2021، أن «كوفيد-19» لم يَعُد يُصنَّف على أنه "تهديد بالغ الخطورة".

قبل الجائحة، عكفتُ على دراسة ردود فعل الدنماركيين في أوقات الأزمات، بما في ذلك الأزمة التي رافقت وقوع هجوم إرهابي دامٍ في عام 2015، حينما نفَّذ شخص مُسلَّح واحد، ينتمي إلى التيار الإسلامي المتطرِّف، هجومين استهدف بهما إحدى فاعليات حرية التعبير بالإضافة إلى معبد يهودي. وتوصلتُ أنا وزملائي القائمين على الدراسة نفسها، إلى أن أغلب الدنماركيين لم ينقلبوا ضد المسلمين، ولم ينادوا بقمع حقوقهم في أعقاب تلك الأحداث، وهو رد الفعل الذي يُعزَى جزئيًا إلى وضوح الرسائل التي مرَّرها السياسيون للجمهور في هذا الشأن. لا ينفي هذا الاستنتاج الذي توصَّلنا إليه حقيقة أنه من الوارد وقوع حوادث تنطوي على سلوكيات هوجاء ومؤذية على خلفية أزمة ما، ولكنه يشير إلى أن احتمال اندلاع حالة من الذعر الجماعي في هذه الظروف هو احتمال مبالغ فيه، خاصةً إذا كانت السلطات وأجهزة الإعلام ملتزمة بضبط النفس.

وفي مارس 2020، بدأتُ في دراسة ردود فعل الجائحة في الداخل والخارج، كما أصبحتُ مستشارًا للحكومة الدنماركية أيضًا. وكان مضمون الرسالة التي أردتُ إيصالها هو: لا تحسَبَنَّ العامة سيفزعون؛ فذلك الافتراض يأتي بنتائج عكسية، كما أنه ليس مدعومًا بالأدلة البحثية. 

في ظل أي جائحة، دائمًا ما يكون التعجيل بتبنّي سلوكيات جديدة، ترتقي لخطورة الوضع، أمرًا مصيريًا. ومن ثَمَّ، فلا يمكننا تحت تلك الظروف أن نُطالب الناس بـ"التزام الهدوء ومواصلة العيش"، وكأن شيئًا لم يكن، بل علينا مكاشفة الناس بمعلومات جليَّة لا مواربة فيها، إذا أردنا منهم التعامل مع الأزمة بجديّة تؤهِّلهم لأن يُنصِتوا للنُصح ويُحسِنوا التصرف. تلك كانت رسالتي التي وجَّهتها أوائل مارس 2020 عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، وحملتها إلى الحكومة الدنماركية في نهاية المطاف.

على سبيل المثال، عندما أعلنتْ رئيسة الوزراء الدنماركية، ميتي فريدريكسون، بدء الإغلاق في الحادي عشر من مارس 2020، تغيَّر خطاب الحكومة لتسوده درجة باهرة من الوضوح والشفافية والإقرار بعدم التيقُّن. كما استخدمت الحكومة أيضًا الرسم البياني المُصاحِب لوسم «تسطيح المنحنى» #FlattenTheCurve (الذي نشرته مجلة «ذي إيكونوميست» The Economist قبل أيام قليلة من الإغلاق) لتوضيح ما قد يترتَّب على التراخي في التعامل مع الجائحة من استنزافٍ لقدرة المستشفيات. استنهض ذلك النوع من الخطاب شعورًا بخطورة الموقف واعترافًا بالأزمة من جانب المواطنين، ولكنه لم يبث الهلع في النفوس. وبكل وضوح، أقرَّت فريدريكسون بعدم تيقُّن الحكومة من أبعاد الموقف، فقالت: "إن الموقف الذي نحن بصدده اليوم أشبه بالنزول بأرض جديدة لم تطأها أقدام بشر من قبل، فهل سنرتكب الأخطاء في خضم استكشافنا لها؟ نعم، سنرتكبها".    

وقد يُقال إن السُلطات الدنماركية لم تجرؤ على الثقة في مواطنيها إلّا بناءً على يقينها بثقة المواطنين فيها؛ إذ إن الدنمارك غالبًا ما تتصدَّر تصنيفات الدراسات الدولية المعنية بالثقة على أي حال. غير أنني أعتقد أن هذه التجربة تسري على أماكن أخرى غير الدنمارك؛ فنتائج الأبحاث تخلُص باستمرار إلى أن الناس يتآزرون، ولا يفزعون، عند مواجهة كارثة ما. مثلًا، أظهرت دراسة أُجريت عقب زلزال ضرب الصين أن الناس أصبحوا أكثر استعدادًا لتقاسم الموارد مع الأغراب، وأكثر رغبةً في القيام بالأعمال الخيرية (L.-L. Rao et al. Evol. Hum. Behav. 32, 63–69; 2011). كما تُحاكي النماذج المأخوذة من تجارب البلدان التي تعرَّضت لهجمات إرهابية، كفرنسا وغيرها، النموذج الدنماركي من ناحية العلاقة بين رد فعل السياسيين ورد فعل الشعب؛ فإذا تصرَّف القادة السياسيون باعتبارهم مثالًا يُحتذَى به، لن ينقلب المواطن العادي ضد الحقوق المكفولة للأقليات العرقية. وحتى في غِمار تكديس الناس للسلع، وهي الظاهرة التي افترض بعضهم أنها نموذج مثالي للهلع السائد نتيجة الجائحة، وقف معظم الناس ملتزمين بدورهم في الصف بصبر وأناة للحصول على عبوات ورق المرحاض.

إن فكرة عجز العامة عن التعامل بكفاءة مع الحقيقة المُرَّة تُعرقِل عملية إدارة الجائحة؛ ذلك أنها تؤدي إلى استخدام السُلطات طُرقًا دفاعية وانهزامية في التواصل. ويوضِّح البحث الذي أجرته مجموعتي البحثية أن رسائل القادة في أثناء الأزمات لا بدَّ أن تبُث في الناس شعورًا بالكفاءة الذاتية؛ فالأشخاص الذين يشعرون بأنهم على دراية بالتصرف الصحيح في ظل موقفٍ ما وبكيفية القيام بهذا التصرف، على الأرجح سيمتثِلون لما يُمليه عليهم الموقف (F. Jørgensen et al. Br. J. Health Psychol. 26, 679-696; 2021). وعلى النقيض من ذلك، نجد أن الحكومات التي تُقلِّل من شأن مواطنيها لا تُركِّز إلا على ما يعجَز العامةُ عن فعله.كما تعمل السُلطات التي لا تثق في مواطنيها على التقليل من أهمية الحقائق السلبية والمعقدة. ومن هنا، فبدلًا من أن تستعرض السُلطات ذات الطابع الأبوي كل ما يظهر من دلائل جديدة تتعلق بضعف المناعة أو بالسلالات الجديدة، على سبيل المثال، فهي تلجأ إلى أساليب الطمأنة المبهَمة. وفي هذا الصدد، يُظهر بحثُنا أن الغموض يُعرقِّل تقبُّل اللقاحات ويُحبِط الثقة في السُلطات (M. B. Petersen et al. Proc. Natl Acad. Sci. USA 118, e2024597118; 2021).

ومن هذا المنطلق، كان تعزيز الثقة أمرًا لا غنى عنه؛ فالثقة أفضل مؤشر يمكنه التنبؤ بمعدلات تقبُّل اللقاح لدى مجتمع ما، وهي الترياق المضاد لسموم المعلومات المضللة. عندما أوقفت السُلطات الصحية في الدنمارك، على سبيل المثال، استخدام لقاحات بعينها، تحدَّثَت بكل وضوح عما لتلك اللقاحات من آثار جانبية حادة، على الرغم من أن هذه الآثار بالغة الندرة. وتُبيِّن أبحاثي -أنا وغيري- أن هذا القرار، أي القرار الذي اتخذته السُلطات بمكاشفة المواطنين بعمليات المفاضلة  بين اللقاحات ومقدار كفاءة كل منها، لم يضر بمستويات تأييد  تلقي اللقاحات، ولم يؤثِّر بالسلب في معدلات الثقة بالسُلطات الصحية (K. M. Sønderskov et al. Dan. Med. J. 68, A03210292; 2021).      

وكانت إلينور أوستروم، العالِمة السياسية الحائزة على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية، قد حذَّرَت، في عام 1997، من أن صُنَّاع القرار السياسي كانوا بصدد إنتاج "مواطنين ساخرين سوداويين لا يثقون كثيرًا في بعضهم"؛ إذ إنهم يتصرفون وكأن الناس ليست لديهم القدرة على التفكير بصورة مستقلة. ولعل السبب في أن هذه المشكلات ما زالت قائمة اليوم أن الحكومات لطالما اعتمدت اعتمادًا متزايدًا على المعلومات السلوكية المُستقاة من أبحاث علم النفس المعنية بالتحيّزات. وعلى الرغم من أن تلك الأبحاث لا تهدف إلى الترويج لفكرة نقص العقلانية لدى المواطنين، فإنها كثيرًا ما تُسلِّط الضوء على أخطاء الإنسان في صناعة القرار، الأمر الذي يُهوِّل من الرؤى السلبية الشائعة بالفعل لدى أفراد النخبة السياسية. إذًا، ما الذي يمكن فعله لتخفيف هذا الشك المتبادل بين السُلطات والمواطنين؟ بحسب لغة نظريات الألعاب، وحدها السُلطات يمكنها المبادرة باتخاذ الخطوة الأولى حيال أي مشكلة. ومن هنا، إذا لم تجرؤ السلطات على الثقة بالمواطنين، فلن يثق المواطنون بها.

اضف تعليق