الكلمات التي نلفظها هي مستودع لآثار تمتد إلى الآخرة؛ حيث يُحاسب كلُّ إنسان على ما نطق به لسانه؛ لذا علينا أن نحرص على استخدامه بما يرضي الله، ولا نسمح له بالانزلاق إلى الفحش والفضول، ونوجهه نحو الخير، ونعوده على الكلام الطيِّب. وما أحوجنا إلى استحضار هذه الحكمة السجَّادية...
قال الإمام عليُّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام): "وَحَقُّ اللِّسَانِ إِكْرَامُهُ عَنِ الْخَنَا، وَتَعْوِيدُهُ الْخَيْرَ، وَتَرْكُ الْفُضُولِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ لَهَا، وَالْبِرُّ بِالنَّاسِ، وَحُسْنُ الْقَوْلِ فِيهِمْ"(1).
حين خلق الله (سبحانه وتعالى) الإنسان، وهبه أعضاءً متعدِّدة، وجعل لكلٍّ منها وظيفة مميزة تؤدِّي دورًا مهمًّا في حياته؛ فالعين ترى جمال الكون، والأذن تصغي لنغمات الحياة، والأنف يشتم عبيرها، والقدمان تسيران به في دروب الخير، وأمَّا اللسان، فهو عضو صغير؛ لكن أثره عظيم؛ فهو أداة التَّعبير، ومفتاح المحبَّة، وجسر التَّواصل بين القلوب؛ به يُحرز الإنسان رضا الله (تعالى) أو ينال سخطه (سبحانه)، فهو إمَّا منبعٌ للخير أو سبيلٌ إلى الشَّر، واللسان مرآةٌ لما في القلب، إن صلح، صلح الجسد بأكمله، وإن فسد، أفسد ما حوله؛ لذا، جاءت النصوص الشرعيَّة تُحذِّر من إطلاقه بلا وازع، وتدعو إلى تهذيبه بالحكمة والصَّمت الجميل؛ فما أجمل أن نستخدمه في الذِّكر الطيِّب، والكلام النَّافع، ونبتعد به عن الغيبة والنميمة؛ لأنَّ كلَّ ما يخرج منه سيسجل وسيسأل عنه، قال الله (سبحانه): (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (2).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): "إِنَّ هَذَا اللِّسَانَ مِفْتَاحُ خَيْرٍ ومِفْتَاحُ شَرٍّ فَاخْتِمْ عَلَى لِسَانِكَ كَمَا تَخْتِمُ عَلَى ذَهَبِكَ ووَرِقِكَ"(3)، فكما يحفظ الإنسان ماله وذهبه من السَّرقة والضَّياع، ويغلق عليه الصناديق، عليه كذلك أن يُحكم غلق لسانه، فلا يفتحه إلَّا لحاجة أو حكمة؛ لأنَّ الكلمة قد تُداوي، وقد تُدمي، وقد تفتح أبواب الرَّحمة أو أبواب النَّدامة.
يا له من تشبيه بليغ، يجعلنا نتأمَّل:
هل نزن كلماتنا كما نزن أثمن أشيائنا؟
وهل نعي أنَّ الكلمة قد تُكتب علينا كما يُكتب الدَّين في الذِّمة؟
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قلَبْهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قلَبْهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لسِاَنهُ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللهَ وَهُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ"(4)، ومن ظنَّ أنَّ لسانه لا يؤثِّر على إيمانه فقد غفل عن لُبِّ الدِّين؛ قال الشَّهيد ابن السكيت (رفع الله مقامه):
يصاب الفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ --- وَلَيْسَ يصاب المَرْءُ مِنْ عَثْرَة الرِّجْلِ
فعَثْرَتُهُ في القول تذهب رأسه --- وعثرته في الرِّجل تبرأ عن مَهْلِ (5).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "زَلَّةُ اللِّسَانِ تَأْتِي عَلَى الْإِنْسَانِ"(6)؛ أي أنَّ خطأً صغيرًا في القول قد يُسقط الإنسان، ويجرُّ عليه من النَّدم والمصائب ما لا يتوقّعه؛ إذ اللسان قد يسبق الفكر، ويهوي بصاحبه في مواطن لا يُحمد عقباها. وفي موضع آخر قال: (عليه السلام): "اللِّسَانُ سَبُعٌ إِنْ خُلِّيَ عَنْه عَقَرَ"(7)؛ وقد شبَّه فيه اللسان بالسبع المفترس، الذي إن تُرك من دون ضبط أو حبس، انقضَّ على صاحبه وأرداه؛ لأنَّ الكلام إذا لم يُوزن، يصبح أداة فتك، وقد يجرح جرحًا لا يُشفى، أو يهدم بيتًا، أو يقطع رحمًا.
فكم من كلمة قالت لصاحبها: دعني!
وكم من صمتٍ كان خيرًا من حديثٍ ندم عليه صاحبه عمرًا!
اللَّهم سلَّم رأسي
نقل أنَّ لصًا دخل بيت حائك فإذا به يحوك بزة قشيبة (8) وهو يقول أبان حياكته: أللَّهم سلِّم رأسي من حصيد لساني، ولمَّا أتمَّ الحياكة أخذ البزة، وجاء بها إلى بيت الملك فتبعه السَّارق علَّه يحصل فرصة يسلب منه البزة، فأعجب الملك بها واستشار وزرائه عمَّا تصلح له، فأشار كلٌّ بما يرتئيه، وحين ذاك قال الملك: إنَّ أعلم النَّاس بما تصلح له الحائك نفسه، ولمَّا استشاره عن ذلك، قال: إنَّها تصلح للإلقاء على جنازة الملك، فتغيَّر الملك، واستشاط غيظًا، وأمر بقتل الحائك. وإذا بالسَّارق يستمهل الجلَّاد، ويبيِّن قصَّته، وما كان يتكلَّم به حين الحياكة، فعفا عنه الملك بعدما علم أنَّه لم يقل ذلك عن عمد (9).
وامتلاك اللسان لا يتمُّ إلَّا بأداء حقوقه، وهذه الحقوق لا تتحقَّق إلَّا بمعرفتها أوَّلًا، ثمَّ الالتزام بها ثانيًا؛ فمن يجهل ما ينبغي عليه تجاه لسانه، عجز عن ترويضه وضبطه، وكان معرضًا للخطأ والزلل؛ وأهمُّ هذه الحقوق هي:
أوَّلًا: إكرامه عن الخنا
الخنا لغةً: "هو الفحش من القول"(10).
ويعرف الفحش اصطلاحًا بأنَّه: "التَّعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارة الصَّريحة، ويجري أكثر ذلك بألفاظ الوقاع، وما يتعلَّق به، فإنَّ لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها فيه، وأهل الصَّلاح يتحاشون التَّعرض لها؛ بل إذا أرادوا التحدُّث عن الوقاع تناولوه بالرموز كما كنَّى الله (تعالى) الوقاع باللمس، والدُّخول، وما شابه ذلك، وهذه الكنايات ليست بفاحشة، والباعث على الفحش أمَّا قصد الإيذاء، وأمَّا الاعتياد الحاصل من مخالطة الفسَّاق، وأهل الخبث، واللؤم والذين من عادتهم السَّب"(11).
ولا يُستبعد أن يكون الفُحش – في جوهره– كلَّ لفظٍ يُهلك الإنسان، سواء أكان ظاهرًا في البذاءة، أم خفيًّا في صور الاستهزاء والسخرية والتحقير، وغيرها من الألفاظ التي تجرح الكرامة، وتهدم النفوس، وتُكدِّر القلوب؛ وليس الفُحش محصورًا في الكلمات البذيئة فقط، وإنَّما يشمل كلَّ تعبير يُنقص من قدر الآخرين، أو يُشيع بينهم البغضاء والعداوة؛ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ"(12)، وعنه (صلى الله عليه وآله): "إِنَّ الْجَنَّةَ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ فَاحِشٍ أَنْ يَدْخُلَهَا"(13) ، وعنه (صلى الله عليه وآله): "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ عِبَادِ اللهِ مَنْ تُكْرَهُ مُجَالَسَتُهُ لِفُحْشِهِ"(14).
وعلاج هذه يُلخص في ثلاث نقاط:
1. الابتعاد عن مجالس الفساق وأهل البذاءة.
من الحكمة والبصيرة أن يبتعد الإنسان عن مخالطة الفسَّاق وأهل البذاء، فإنَّ للبيئة أثرًا عظيمًا في تشكيل الطباع، وللأُنس بأهل السُّوء وقعٌ خفيّ يسري في النفس من دون الانتباه له؛ والإنسان بطبعه كائنٌ اجتماعي، يتأثَّر بمن حوله، ويأنس بما يراه ويعتاده. وإنَّ كثرة الجلوس مع أصحاب الألسن البذيئة، والمجاهرين بالمعاصي، تُضعف في القلب وازع الحياء، وتُميت النُّفرة من القبيح، حتَّى يُصبح المنكر مألوفًا، والفاحش عاديًّا، واللسان يردد ما كان يستهجنه بالأمس؛ وقد قيل: "الصاحب ساحب"، فإمَّا أن يسحبك إلى الخير، أو يجرَّك إلى موارد الهلاك، ومن أراد لصدره الصفاء، ولسانه الطهر، وقلبه السلامة، فليختر لنفسه مجالس الصالحين، وأهل الأدب، والناصحين؛ فإنَّ الجليس الصالح مثل حامل المسك، يُعطِّر روحك وإن لم يمنحك شيئًا، والبعد عن أهل الفسق والبذاءة هو وقاية للقلب، وحفظٌ للدِّين، وصيانة للمروءة.
2. استخدام الكناية عند الحديث عن الأمور التي يُستقبح التصريح بها.
الكناية تُضفي على الكلام أدبًا، وتحفظ للسامع كرامته، وتجنِّبه الشعور بالنفور أو الحرج، وقد استخدم القرآن الكريم الكناية في مواضع كثيرة؛ منها قوله (تعالى): (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ)(15)، كناية عن العلاقة الخاصَّة، احترامًا لحياء الإنسان وطهارة الأسلوب؛ والكناية ليست مجرَّد تجميل لغوي؛ وإنَّما هي خلق إسلامي رفيع، يُعبّر عن احترام السَّامع، وحُسن أدب المتكلم، وحرصه على ألَّا يُشوّه المعاني بالألفاظ الجارحة، وفيها تربية على الستر، والستر من شيم النبلاء، وهو باب من أبواب الرَّحمة، يُقوّي المجتمع ويُبقي القلوب صافية والعلاقات راقية، ومن أتقن فنَّ الكناية، جمع بين الصِّدق واللطف، وبين الحكمة والحياء.
3. كبح النَّفس إذا دعتك إلى الفُحش.
وهذا العمل من أعلى درجات المجاهدة، وأصدق علامات التَّقوى، فإنَّ النَّفس تميل بطبعها إلى الانفلات، واللسان أحد أكثر أعضائها استجابةً للغضب والانفعال؛ لكن المؤمن، حين يشعر بأنَّ نفسه تندفع إلى قولٍ قبيح أو لفظٍ جارح، يُسارع إلى ردعها، ويذكِّرها بعواقب الفُحش في الدنيا والآخرة، وأنَّ الفُحش كلمات خارجة عن الذوق، تدلُّ على سوء الخُلق وضعف الإيمان؛ لذلك ينبغي للإنسان حين تمتلئ نفسه بالغضب، وتوشك على الانفجار بكلمات لا ترضي الله (تعالى)، أن يوقفها للحظة، ويقول لها:
ماذا لو كانت هذه الكلمة هي آخر ما ينطق به لساني؟
أما علمتِ أن الفاحشين هم أبعد الناس عن رحمة الله (سبحانه)؟
وبالتزام الصمت أو بالكلام الطيب، يحقق المؤمن توازنًا بين غضب نفسه ورضا الله (تعالى)، ويُحافظ على قلبه ونفسه من الهلاك.
ثانيًا: تعويد الخير.
التَّعويد إمَّا مأخوذ من العَوْد: "وهو الرجوع إلى الشَّيء بعد الانصراف عنه"(16)؛ فيكون المعنى أنَّ الإنسان لا يخرج من لفظ الخير حتَّى يرجع إلى خير آخر.
أو مأخوذ من العادة: "اسم لتكرير الفعل، والانفعال حتَّى يصير ذلك سهلًا تعاطيه كالطبع"(17)؛ والمعنى هنا يختلف عن المعنى السابق بأنَّه تكرار الخير، والتلفظ به حتَّى يصير طبعًا.
والخير اسم جامع لسائر المندوبات والقربات؛ فيكون المعنى تعويد اللسان على كلِّ أمر يجلب المنفعة، والنور والإيمان؛ فالكلام الطيِّب خير، وتلاوة القرآن الكريم خير، والصلاة على الحبيب المصطفى محمَّد وآل محمَّد (صلوات الله عليهم) خير، والنصيحة خير، وكلُّ هذه الأعمال باب إلى الفلاح (18).
قال الله (سبحانه): (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (19)، وقال (تعالى): (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (20).
وقال أحد الحكماء: "كلُّ كلام لا يسخط ربَّك إلَّا أنَّه يرضى به جليسك فلا تكن به بخيلًا فلعلَّ الله يعوضك به ثواب المحسنين"(21).
أن تُربّي لسانك على الخير يعني أن تُعلِّمه كيف يكون رفيقًا لطيفًا، وكيف ينطق صدقًا، ويبثُّ طمأنينة، ويمنح نورًا في مجالس النَّاس؛ وهذا يحتاج إلى تدريبه برفق، وتعويده الخير كلَّما ابتعدنا عنه، وتكراره حتَّى يصبح عادة وطبعًا لا يفارقنا، ومتى صار لسانك مطبوعًا على النطق بالحسن، أصبح قلبك أكثر نقاء، وصارت روحك أكثر طمأنينة؛ فإنَّ الكلمة الطيِّبة لا تذهب سدًى، وإنَّما تعود إليك بطمأنينة، وتُحيطك بنور، وتُثمر في صدور من يسمعونك، ولو بعد حين.
ثالثًا: ترك الفضول التي لا فائدة فيها.
فضول الكلام: "هو التَّكلم بما لا فائدة فيه أصلًا، لا في الدِّين ولا في الدُّنيا، والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة"(22)؛ أي إنَّ الإنسان العاقل إذا كان يستطيع أن يُعبِّر عن مراده، ويقضي حاجته بكلمة واحدة واضحة تحقق المعنى، ثمَّ تجاوزها إلى كلمة ثانية لا ضرورة لها، فقد دخل في باب الفضول في الكلام؛ أي أنَّ ما زاد على الحاجة هو فضلٌ لا حاجة له فيه، وقد يكون هذا الفضل سببًا في التكلُّف، أو سوء الفهم، أو حتَّى في فتح أبوابٍ من الخطأ والنَّدم؛ فالقول الزائد، وإن بدا بسيطًا، قد يجرُّ إلى ما لا يُحمد عقباه؛ فربما يُفسّر خطأً، أو يُحرّك حسدًا، أو يُثير شبهة، أو يُظهر ما ينبغي ستره، والكلمة الزائدة التي لا حاجة إليها، قد تضعف أثر الأولى، وتُفقدها وقعها، وتُثقِل السامع من دون طائل.
والبلاغة الحقيقية تكمن في إصابة المعنى بأقصر طريق، والاقتصاد في اللفظ مع غِنى المعنى، وليس في كثرة القول، وقد قيل: "خير الكلام ما قلَّ ودل".
ومن صفات الحكماء أنهم يتخيَّرون من الكلام أنفعه، ومن الألفاظ أوجزها؛ فإذا تكلَّموا تركوا في النفس أثرًا، من دون أن يُسرفوا في العبارة، أو يثقلوا الأذهان بأمور لا تظهر المعنى؛ فالقول إذًا كالسراج، إن زاد زيته أكثر من حاجته انطفأ نوره أو أحرق ما حوله، وإن وُضع باعتدال أنار الطريق من غير هدر، فليكن لسانك موزونًا، لا يزيد إلَّا لحاجة، ولا ينقص عن بيان، ولا يتجاوز المقصود إلَّا إن كان في تجاوزه خيرٌ بيِّن.
ولكي يكون التَّعريف واضحًا أضرب لك بعض الأمثلة:
1ـ إذا سألت صديقك عن عبادته فتقول له: هل أنت تصلي صلاة الليل؟
فإن قال: نعم، كان مظهرًا لعبادته، وقد يدخل عليه الرياء، وإن لم يدخل عليه الرياء خرجت العبادة من ديوان السِّر إلى ديوان العلن، وعبادة السِّر تفضل عبادة الجهر بدرجات، وإن قال: لا، كان كذبًا، وإن سكت كان مستحقرًا إيَّاك وتأذيت به، وإن احتال لمدافعة الجواب افتقر إلى تعب وجهد؛ وبهذا فقد عرَّضته بالسُّؤال أمَّا إلى الرِّياء، أو الكذب، أو الاستحقار، أو التَّعب لدفع الجواب.
2ـ سؤالك بدون ضرورة لشخص: ما هو رأيك بفلان؟
3ـ إذا كان هناك مطلبًا علميًا سئلت عنه؛ فإذا كنت تستطيع أن تبيِّن الجواب بخمس كلمات فإنِّ السَّادسة فضول كلام، وقد تؤدِّي أحيانًا إلى ضياع الجواب الصَّحيح، والهدف المقصود؛ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يا أبا ذَرّ: اتْرُكْ فُضُولَ الكَلامِ، وَحَسْبُكَ مِنَ الْكَلامِ ما تَبْلُغُ بِهِ حاجَتَكَ. يا أبا ذَرّ: كَفى بِالمَرْءِ كِذْباً أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِعَ. يا أبا ذَرّ: أنَّهُ ما مِنْ شَيءٍ أحَقُّ بِطُولِ السِّجْنِ مِنَ اللِّسانِ. يا أبا ذَرّ: إنَّ اللَّهَ عِنْدَ لِسانِ كُلِّ قائِلٍ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ امْرُؤٌ، وَلْيَعْلَمْ ما يَقُولُ"(23).
من مفاسد فضول الكلام
وعندما نطالع النصوص الشريفة، نجد أنَّها تحذِّر من هذا الآفة وتحثُّ على الابتعاد عنه؛ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ"(24).
وعنه (صلى الله عليه وآله): "طُوبى لمنْ أمسكَ الفضلَ من لسانِهِ، وأنفقَ الفضلَ من مالِهِ"(25). وعنه (صلى الله عليه وآله): "يا بنَ مسعود، دعْ عنكَ ما لا يعنيكَ، وعليكَ بما يعنيكَ فإنَّ اللهَ تعالى يقول: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (26) "(27).
والسبب في ذلك هو أنَّ فضول الكلام يورث ما يسوء الإنسان في الدُّنيا والآخرة، ومن تلك المساوئ:
1ـ التورط في المشاكل.
الإنسان الجامع لشروط التَّكليف مسؤول عن كلِّ لفظٍ يخرج من فمه، صغيرًا كان أم كبيرًا، ظاهرًا أم خفيًّا؛ وليس حرًّا في كلماته كما يظن، والكلمة ليست صوتًا عابرًا في الهواء، وإنَّما لها أثر ووزر، أو أجر؛ هي إمَّا شاهد له، أو حجَّة عليه، وكلُّ كلمة هي إمضاءٌ في سجل العمر، إمَّا أن يكون في رصيدك، أو ضدّك، أو لا لك ولا عليك... لكنَّها تحسب؛ لذلك، تيقَّن أنَّ الكلمة دينٌ في عنقك، وكلُّ قول يُعرض غدًا بين يدي الله (تعالى)، فزن ألفاظك بميزان الحكمة، ولا ترسلها بدون مراجعة، فإنَّ الكلمة الطائشة سهمٌ قد يجرح، أو تهوي بصاحبها إلى دركات الغفلة.
قالوا في الكلام
"قيلَ أنَّه اجتمع أربعة ملوك فتكلَّموا:
فقال ملك الفرس: ما ندمت على ما لم أقل مرَّة، وندمت على ما قلت مرارًا.
وقال قيصر: أنا على ردِّ ما لم أقل أقدرُ منِّي على ردِّ ما قلت.
وقال ملك الصين: ما لم أتكلَّم بكلمة ملكتها؛ فإذا تكلَّمت بها ملكتني.
وقال ملك الهند: العجب ممن يتكلَّم بكلمة إن رفعت ضرَّت، وإن لم ترفع لم تنفع"(28).
2ـ هدم العقل والدِّين.
عن الإمام الكاظم (عليه السلام): "يَا هِشَامُ مَنْ سَلَّطَ ثَلَاثاً عَلَى ثَلَاثٍ فَكَأَنَّمَا أَعَانَ عَلَى هَدْمِ عَقْلِه؛ مَنْ أَظْلَمَ نُورَ تَفَكُّرِه بِطُولِ أَمَلِه، ومَحَا طَرَائِفَ حِكْمَتِه بِفُضُولِ كَلَامِه، وأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِه بِشَهَوَاتِ نَفْسِه؛ فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاه عَلَى هَدْمِ عَقْلِه، ومَنْ هَدَمَ عَقْلَه أَفْسَدَ عَلَيْه دِينَه ودُنْيَاه"(29).
3ـ عدم الانتفاع.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "كَثْرَةُ الْكَلَامِ تَبْسُطُ حَوَاشِيَهُ وَتَنْقُصُ مَعَانِيَهُ فَلَا يُرَى لَهُ أَمَدٌ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ"(30).
وإليك عزيزي القارئ بعضًا من الوصايا المستلهمة من نصوص المعصومين (عليهم السلام) لعلاج هذا الدَّاء:
1ـ الذكاء في عالم الكلمات، ليس في كثرة الحديث، وإنَّما في معرفة متى يكون الكلام حكمة، ومتى يكون الصمت أبلغ؛ إذ التروي قبل النطق دليل على رجاحة العقل واتِّزان النَّفس، وبُعد النَّظر؛ وليس كلُّ ما يُعرف يُقال، ولا كلُّ ما يُقال يُناسب كل وقت أو مقام، والإنسان الحكيم من يجعل بين الفكرة ولسانه وقفة لأجل المحاسبة:
– هل في هذا القول نفع؟
– هل فيه خير لنفسي أو لغيري؟
– هل الكلمة ترضي الله (تعالى) وتصلح ما بيني وبين الناس؟
فإن وجد فيه الفائدة، قاله بهدوء، وثقة، وإخلاص، وإن لم يجد فيه خيرًا، أو وجد فيه ريبةً، أو إيذاءً، أو لغوًا... تركه، وكأن لم يخطر بباله أبدًا؛ فما أجمل أن تُدرّب نفسك على هذا الوقوف قبل كلِّ لفظ، وأن تجعل التأمل حاجزًا بينك وبين العجلة، وأن تختبر كلماتك كما يُختبر الذهب بالنَّار؛ وفي ذلك صونٌ للكرامة، ووقارٌ في المجالس، وحسن ظنٍّ من الناس، ورضا من الله (عزَّ وجلَّ).
2ـ جعل الموت أمام العينين، وأنَّ المتكلِّم مسؤول عن كلِّ كلمة يقولها؛ قال الله (سبحانه): (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَامًا كَاتِبِينَ) (31). وعن سيد الشهداء الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قال: "مَرَّ أميرُ المُؤمِنينَ عَلِيُّ بنُ أبي طالِبٍ (عليه السلام) بِرَجُلٍ يَتَكَلَّمُ بِفُضولِ الكَلامِ، فَوَقَفَ عَلَيهِ، ثُمَّ قالَ: إنَّكَ تُملي عَلى حافِظَيكَ كِتابًا إلى رَبِّكَ، فَتَكَلَّم بِما يَعنيكَ ودَع ما لا يَعنيكَ"(32).
3ـ من فنون التهذيب النَّفسي أن يُلزم الإنسان نفسه السكوت؛ فاللسان بطبعه جريء، يندفع بالكلام قبل أن يُفكَّر، ويهوى الفضول، ويستسهل الخوض فيما لا يعني؛ وهنا يأتي دور المجاهدة: أن تزجر نفسك حين تهمّ بكلامٍ لا نفع فيه، وتمنعها من أن تنطق بلفظٍ لا يزيدك قربًا من الله (تعالى)، ولا ينفع سامعيك، ولا يصلح حالًا.
إنَّ إلزام النفس بالسكوت عند الحاجة إليه، قوَّة لا ضعف، وتهذيب لا تكلُّف، وهو علامة على وعي الإنسان بقيمة وقته، وقيمة حضوره، وقيمة أثره على من حوله.
زجر النفس
ينقل النراقي في معراج السعادة هذه القصة يقول:
طرق أحد الخيار باب أحد أصحابه فسمع صوتًا يسأل صاحبه: من الطَّارق؟
قال: فلان موجود؟
فقال صاحب الصوت: نعم؛ ولكنه نائم.
قال: الآن ليس وقت النوم. قال هذا وذهب، في الطريق أخذ يفكر مليًّا بقوله: لماذا اعترض على فعل مؤمن دون طائل؟
لن اشرب ماءً باردًا لمدَّة سنة كاملة حتَّى أزجر نفسي فلا تعود، وتدخل في شؤون النَّاس"(33).
رابعًا: البرُّ بالناس.
"البرُّ: التوسُّع في فعل الخير"(34).
والمعنى أن يستغل اللسان فيما فيه الخير والصلاح دائمًا، وأن يرشده إلى الكلام الذي يعود بالنفع على النَّفس والآخرين، وأن يكون وسيلة للتواصل الطيِّب الذي يعمق المحبَّة والتعاون.
إنَّ من جميل الخُلق وكمال العقل، أن يُستغل اللسان فيما فيه صلاحٌ ونفعٌ دائم؛ فيكون أداة لنشر الحكمة، وبثّ الطمأنينة، وتقديم النصح، وذكر الله (تعالى)، والدعوة إلى المعروف، والتثبيت على الخير؛ فالكلمة الطيبة قد تُواسي بها قلبًا منكسرًا، أو تُوقظ بها ضميرًا غافلًا، أو تُلهم بها من ظنَّ أنَّ الخير قد انقطع من الحياة؛ فاجعل لسانك جسرًا يصل بين القلوب، لا سيفًا يقطعها، وجِّهه حيث النفع، والبركة، والبناء، ودرّبه على ألَّا ينطق إلَّا بما يُرضي الله (تعالى) ويُسعد الناس؛ فإن لم تجد في الكلام خيرًا تُقدّمه... فالصمت خير، وهو أيضًا كلام العقلاء.
خامسًا: حسن القول فيهم.
من أسمى الأخلاق التي يُبنى بها المجتمع السَّليم، أن يحفظ الإنسان لسانه عن أذية الآخرين، فلا يغتاب، ولا ينمّ، ولا يُسيء؛ والعلَّة في ذلك أنَّ الغيبة والنميمة والإساءة هي معاول تهدم جسور الثقة بين الناس، وتُضعف روابط الإخوّة، وتنشر الظنون والفتن، حتَّى يتحوَّل الصَّفاء إلى حقد، والمحبَّة إلى فرقة؛ ولذلك من أراد السلامة لقلبه، والبركة في علاقاته، فليُطهّر لسانه من ذكر الناس بسوء، وليجعل الحديث عنهم دعاءً، أو مدحًا بصدق، أو سكوتًا فيه أدب ورحمة؛ ومن أحسن إلى الناس بلسانه، أحسن الله (تعالى) إليه في قلوبهم، وجعل له وُدًّا ومكانة لا تنالها الكلمات البذيئة؛ عن الإمام الحسين (عليه السلام) في وصيَّته لابن عباس: "وَلَا تَقُولَنَّ فِي أَخِيكَ الْمُؤْمِنِ إِذَا تَوَارَى عَنْكَ إِلَّا مِثْلَ مَا تُحِبُّ أَنْ يَقُولَ فِيكَ إِذَا تَوَارَيْتَ عَنْهُ"(35).
إنَّّ الكلمات التي نلفظها هي مستودع لآثار تمتد إلى الآخرة؛ حيث يُحاسب كلُّ إنسان على ما نطق به لسانه؛ لذا علينا أن نحرص على استخدامه بما يرضي الله (سبحانه)، ولا نسمح له بالانزلاق إلى الفحش والفضول، ونوجهه نحو الخير، ونعوده على الكلام الطيِّب. وما أحوجنا إلى استحضار هذه الحكمة السجَّادية في حياتنا اليوميَّة، لنكون قدوة في حسن استخدام اللسان.
اضف تعليق