الإصلاح يبدأ بالاعتراف بالمشكلة، فالإنسان عليه أن يسأل نفسه بصدق إن كان يسيء للناس أو يتسرع في الغضب أو يجرح الآخرين بكلماته، أو يشعر بأنهم يبتعدون عنه، ومن ثم عليه مراقبة سلوكه اليومي، والتأمل في طريقة حديثه وانفعالاته ورده على المواقف المختلفة وكيفية اعتذاره عند الخطأ. ويعد ضبط...
في احدى روائع امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) البلاغية التي قال فيها: "سوء الخلق وحشة لا خلاص منها"، اعطى حكمة علوية لخص فيها جملة من الاثار المهمة والمعاني الخطيرة التي توصل صاحبها الى الندامة والخسارة المادية والمعنوية في حال عاش في دوامة سوء الاخلاق التي لا خلاص منها ولا يمكن تجاوزها بسهولة.
فالشخص سيء الخلق يعيش في حالة من الضيق والوحشة الدائمة، حتى لو كان بين الناس، فطباعه السيئة تنفر الآخرين منه وتجعله وحيداً، وهكذا اشار امير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: "سوء الخلق يوحش القريب، وينفر البعيد"، وعلى عكس ما قد يظن البعض أن سوء الخلق قوة أو وسيلة لتحقيق المكاسب، فإنه في الحقيقة سجن نفسي ابدي لا يجد صاحبه فيه طمأنينة أو سلاماً داخلياً، اذ ان "سوء الخلق يوحش النفس، ويرفع الأنس".
ان هذه الوحدة والوحشة هي النتيجة الطبيعية والحتمية لسوء تعامل الفرد مع من حوله، فكما يزرع سيء الخلق يحصد وقد قيل لرسول الله (صلى الله عليه واله) إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها، فرد بقوله: "لا خير فيها هي من أهل النار"، وعندما دفن الصحابي المعروف (سعد بن معاذ) قال رسول الله (صلى الله عليه واله): "قد أصابته ضمة، فسئل عن ذلك فقال (صلى الله عليه وآله): نعم، إنه كان في خلقه مع أهله سوء".
ان غاية الصعوبة تكمن في التخلص من الاخلاق السيئة بحد ذاتها، ففي عبارة "لا خلاص منها" والتي تشير إلى مدى تجذر سوء الخلق في النفس وصعوبة التخلص منه إلا بجهد جهيد ومجاهدة مستمرة للنفس، وهذا بحد ذاته قد يضيف هماً اخر الى همومه، وأنه لا يوجد مفر سهل وسريع من عواقب هذه الصفة الذميمة، اذ ان "سوء الخلق نكد العيش وعذاب النفس"، وهي حالة نفسية سيئة مستمرة لا تعرف الاستقرار او الراحة.
ان الاخلاق الحميدة والحسنة من أهم مكونات شخصية الإنسان السوي الصالح، بل هي الجسر الذي يعبر من خلاله إلى كسب قلوب الآخرين، وهي المرآة الحقيقية التي تظهر معدنه وقيمته في عيون الاخرين، وقد عبر الصلحاء والحكماء عبر العصور عن خطورة سوء الخلق ومخاطرة، لما يتركه من آثار مدمرة على النفس والمجتمع، ولأنه يحول حياة الإنسان إلى دائرة من التوتر والعزلة والمشاكل المتكررة داخليا ومع الاخرين، فالإنسان قد يحرم من المال أو الجاه، لكنه لا يزال قادرا على كسب احترام الناس، أما سيئ الخلق فيكفيه طبعه الرديء ليخسر كل شيء دون حاجة إلى عدو يخذله.
وقد اشار القران الكريم الى اهمية تربية النفس وتهذيبها على الاخلاق الحسنة ونبذ الاخلاق السيئة، ونبه الى الخلق العظيم الذي يتحلى به الرسول الاعظم محمد (صلى الله عليه واله) وانه الاسوة الحسنة للأخرين في حسن الخلق وعظمة النفس وعلو الهمة، كما اشار الى مخاطر معاملة الاخرين بسوء الخلق بقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). [آل عمران:159]
ماهية سوء الخلق واثاره
سوء الخلق ليس فعلاً عابرا، بل حالة مستمرة تعكس خللًا في بناء النفس، يظهر سوء الخلق في الغلظة وقسوة اللسان، وفي الغضب السريع وردود الفعل الانفعالية، وفي التكبر واحتقار الآخرين، كما يظهر في كثرة الشكوى والتذمر، وفي الأنانية وعدم مراعاة مشاعر الناس، وفي الاستعلاء أو الحقد أو الحسد.
يضاف إلى ذلك التهرب من المسؤولية وإلقاء اللوم على الآخرين، وسوء الظن وتفسير النيات بغير حق، هذه الصفات لا تبقى في داخل النفس، بل تخرج إلى الواقع لتنعكس على علاقة صاحبها بالأسرة، والعمل، والمجتمع، والأصدقاء، بل وحتى على علاقته بنفسه.
ان الإنسان سيئ الخلق يعيش في صراع داخلي دائم، إذ تتولد بداخله حالة من التوتر المستمر، ويظل غضبه يشعل في داخله نارًا لا تهدأ، وهو يشعر بالعزلة، لأن المجتمع بطبيعته يبتعد عن الطباع المؤذية، فينشأ بداخله شعور بالوحدة وبأنه غير محبوب أو غير مفهوم، ومع تراكم الانفعالات، يضعف تقديره لذاته، فحين يعجز عن ضبط تصرفاته أو السيطرة على غضبه، تبدأ صورته عن نفسه بالتشوه، ويشعر بأنه أقل من الآخرين، وتؤدي هذه الحالة إلى تراكم الضغط النفسي، حيث يدخل الإنسان في دوامة من المشاكل والغضب والندم والقلق بشكل متواصل، وسأل امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) "عن أَدْوَمِ الناس غمًّا، فقال: أسوأهم خُلقًا"، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): "من ساء خلقه عذّب نفسه".
طبعا سوء الخلق يترك آثارا اجتماعية مباشرة، فالإنسان سيئ الخلق يخسر علاقاته تدريجيا، إذ يبتعد الأصدقاء، وتنفر منه العائلة، وتختنق علاقته بزوجته، ويتحاشاه زملاء العمل، كما يفقد ثقة الناس به، لأنهم لا يطمئنون لمن يجرحهم بالكلام أو يسيء إليهم أو يتقلب في مزاجه، وهذا النوع من الناس ينشر أجواء مشحونة بالتوتر، فتكثر المشاجرات داخل بيته، وتظهر المشكلات في عمله، ويصبح وجوده سببا للقلق، ومع مرور الوقت، تتشوه سمعته، لأن الناس يتذكرون طباعه السيئة أكثر مما يتذكرون إنجازاته.
كما أن سوء الخلق يعوق الترقي الوظيفي، فالمؤسسات لا تمنح المناصب القيادية لمن يسبب التوتر أو يخلق المشاكل، ويضعف أداؤه العملي، لأن الغضب والتوتر يستهلكان جزءا كبيرا من طاقته، فتقل إنتاجيته ويتراجع عطاؤه، كما يجد صعوبة في العمل ضمن فريق، نظرا لعدم قدرته على التعاون أو قبول النقد أو ضبط أعصابه، وفي كثير من الحالات، يكون سوء الخلق سببا مباشرا لفقدان العمل، ليس بسبب ضعف الكفاءة، بل بسبب كلمة جارحة أو موقف عدائي أو إساءة لزميل أو مدير، فعن الإمام علي بن ابي طالب (عليهما السلام) قوله: "من ساء خلقه ضاق رزقه"، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): إن "سوء الخلق لَيُفسِد العمل كما يُفسد الخلّ العسل".
الطريق الى الاصلاح
الإصلاح يبدأ بالاعتراف بالمشكلة، فالإنسان عليه أن يسأل نفسه بصدق إن كان يسيء للناس أو يتسرع في الغضب أو يجرح الآخرين بكلماته، أو يشعر بأنهم يبتعدون عنه، ومن ثم عليه مراقبة سلوكه اليومي، والتأمل في طريقة حديثه وانفعالاته ورده على المواقف المختلفة وكيفية اعتذاره عند الخطأ.
ويعد ضبط اللسان خطوة أساسية، إذ يحتاج الإنسان إلى التريث قبل الكلام والتفكير في أثر عباراته والامتناع عن السخرية أو التجريح واختيار ألفاظ لطيفة حتى في لحظات الغضب، كما ينبغي له إدارة غضبه بوسائل عملية مثل الانسحاب من الموقف، أو تأجيل الرد، أو تغيير الوضعية، أو الوضوء، أو التسبيح وذكر الله.
ومن المهم تطوير مهارات التواصل، كالاستماع الجيد، واحترام الرأي الآخر، واختيار الوقت المناسب للنقاش، والتفريق بين الشخص والمشكلة، ويعد الاعتذار الصادق أداة إصلاح قوية، لأنه يمحي الكثير من أثر الأخطاء ويلين القلوب القاسية، ويحتاج الإنسان أيضا إلى اختيار الصحبة الحسنة، لأن المرء يتأثر بمن حوله، فالأصحاب الطيبون يساعدونه على ضبط سلوكه وتقويم نفسه، كما تنفعه القراءة في كتب الأخلاق والسير، فهي تنمي الوعي وترشده إلى المعاني الرفيعة، ويبقى الدعاء أساسا في تزكية النفس، لأن تهذيب الطبع توفيق من الله (عز وجل).
حين يبدأ الإنسان رحلته في إصلاح طباعه، يكتشف تغيرات عميقة تحدث داخله، فيجد هدوء نفسي لم يعرفه من قبل، وتزداد قدرته على التفكير الحكيم، وتتحسن علاقاته مع أسرته وأصدقائه وزملائه، ويكسب احترام الآخرين، وتفتح له أبواب جديدة في العمل والحياة، والأهم من ذلك أنه يستعيد سلامه الداخلي الذي لا يقدر بثمن، ويملأ حياته نورا وصفاء بدل التوتر والعزلة اللذين كانا يسيطران عليه، ومن هذه الابواب نذكر البعض منها:
1. كمال الايمان: فعن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً".
2. الاثر الاخروي لحسن الخلق: عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "ما يوضع في ميزان امرئٍ يوم القيامة أفضل من حُسن الخُلق".
3. التقرب من الله (عز وجل): عن عنبسة العابد قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): "ما يَقدِمُ المؤمن على الله عزّ وجلّ بعملٍ بعد الفرائض أحبَّ إلى الله تعالى من أن يسع الناسَ بخُلقه".
4. غفران الذنوب: قال الإمام أبو عبد الله (عليه السلام): "إنّ الخُلق يُميتُ الخطيئة كما تُميت الشمسُ الجليد".
5. عمران الديار وزيادة الاعمار: عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "البرّ وحُسن الخلق يعمّران الدِّيار، ويزيدان في الأعمار".
التوصيات
إن سوء الخلق ليس قدرا محتوما، بل هو حالة قابلة للإصلاح، والإنسان القادر على مواجهة نفسه بصدق يستطيع أن يتحول تدريجيا إلى شخصية أفضل، إن الحياة قصيرة جدًا لنقضيها في توتر ووحشة، وطويلة بما يكفي لنصنع منها تجربة جميلة إذا أحسنا أخلاقنا وتعاملنا مع الناس، فسلام النفس لا يمنح إلا لمن أصلح قلبه وهذب طباعه وسعى إلى أن يكون إنسانا أفضل، وفي ضوء ما تقدم، يمكن وضع مجموعة من التوصيات التي تساعد الإنسان في بناء خلق حسن وتجنب آثار سوء الخلق:
1. الاستمرار في محاسبة النفس يوميا ومراجعة المواقف التي يظهر فيها انفعال أو رد غير لائق، بهدف تصحيح السلوك في حينه.
2. تعويد اللسان على الكلمة الطيبة، لأن تهذيب اللسان هو المدخل الأكبر لتهذيب باقي الطباع.
3. تعلم مهارات التواصل الفعال مثل الاستماع، والتعبير الهادئ، واحترام اختلاف الآراء، لأنها تصنع علاقات صحية ومستمرة.
4. التحلي بالأخلاق الفاضلة من خلال معرفة السيرة الاخلاقية للرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) واهل بيته الكرام (عليهم السلام) واصحابهم الابرار والاقتداء بهم، فأن له اثر كبير في نفس الانسان وهدايته نحو طريق الصلاح الاخلاقي.
5. تخصيص وقت للقراءة والتأمل وتطوير الذات، خصوصا في كتب الأخلاق والسير، مما يعزز الوعي ويغذي الجانب الروحي والفكري.
6. الإحاطة بالصحبة الصالحة التي تشجع على الأخلاق الحسنة وتكون نموذجا يحتذى به في التعامل والسلوك، وترك السيئين والاشرار، اذا ان "شبيه الشيء منجذب اليه".
7. الالتزام بالاعتذار عند الخطأ بروح صادقة، لأن الاعتذار يبني الثقة ويزيل أثر كثير من المواقف السيئة.
8. الاهتمام بالدعاء والجانب الروحي، لأن تهذيب النفس يحتاج إلى مدد معنوي من الله (عز وجل) يعين الإنسان على الاستقامة ويمده بالصبر والقوة والثبات على هذا النهج القويم.
9. الابتعاد عن البيئات المثيرة للتوتر والخصام ما أمكن، واختيار الأجواء الهادئة التي تساعد على السكينة وضبط النفس.



اضف تعليق