هناك نوعان من الظلم يفعلان فعل المطرقة والسندان على مفارق الفضيلة الأخلاقية وماهية العدالة وهما النفعية على حساب الآخر والذات الأنوية إذ انه بالتأكيد يصعب الاهتمام بمصالح الغير إذا كنا شديدي الأنا، مع أن كل ما هو بشري ليس بالغريب عليه، لكننا نحكم في الواقع على...

في البدء وكمدخل أساس لابد لنا أن نعرف أن عقلنا يدرك إلى حد كبير حسن الأشياء من قبحها وهذا هو ما يطلق عليه العلماء اسم الحسن والقبح العقليين، ولكن لكل منا مفهومه الخاص وقناعته الخاصة حول النفعية الذاتية والمصلحية ومدى توافقها مع هاتين الصفتين، من حيث الحسن والقبح وتعاكسها، أو تقاطعها للقيمة الأخلاقية من حيث المدلول الطبيعي البشري وتركيبات المفاهيم الاجتماعية والشرعية.

لذا تعرّف هذه المفاهيم الحسية للفعل أحيانا بكون الفعل الصحيح هو ما يساوي الواجب الكامل، أو ما يسمى بالواجب الوسطي أيضا، كفعل يمكن إسناده بمسوغ مقنع ومستحسن في جميع الأحوال.

فحينما يستعد الناس لفعل شيء ما يفكرون بثلاثة أساليب، تارة وهم غير متأكدين من أن الفعل المقصود هو فعل شريف أم غير شريف. ولذا يختلف الحكم عليه من حيث التصويب والتخطيء بتنوع آرائهم ومدى بحثهم حول ما إذا سيؤدي هذا التصرف المقصود إليه من حيث الفائدة والعدم أو لن يؤدي إلى حياة هادئة سعيدة ذات مردود، كأن يحصلوا على الجاه المادي أو المعنوي لرفع مستواهم والأقرباء منهم، فخلال كل هذا التفكير تكون القضية الرئيسة هي المصلحة والفائدة، مما يسبب ذلك للتشكيك في دوافع التصرف (السلوك-الفعل) بكونه مفيدا، وهل هو على النقيض من الشرف أم لا، فالذي يبدو أحيانا، كما لو إن المنفعة هي التي تجرف الإنسان وبالعكس، كما لو إن الشرف هو المتحكم بالروح المفكرة رغم التناقض مع ذاتها، لتبدأ حيرة محرجة في التفكير الذاتي على هذين الأساسين.

ونشأ من هذا التقسيم للمفهوم وجهتي نظر عند علماء الأخلاق، علما أن إعمال أي شيء عند تقسيم المفهوم هو خطأ جسيم، وذلك لأنه في العادة، لا ينصبّ التفكير فقط على اعتبار تصرف ما شريفا كان أم لا، بل كذلك على أي من الفعلين الشريفين هو الأكثر شرفا، وكذلك أي من الفعلين المفيدين هو الأكثر فائدة، مما نجم عن هذا تقسيم مفهوم الواجب إلى خمسة أجزاء، هي البحث عن الشرف في الفعل، ولكن بالأسلوبين السابقين، ثم بالتدرج نفسه، البحث عن المصلحة بالمقارنة بين الاثنين الآخرين.

الذات المفكرة

أولا من المؤكد أن كل المخلوقات قد وهبت طبيعة غريزة حماية الذات، والحياة والنوع، وإنها تتحاشى كل ما يبدو ضارا بها، وتبحث وتحاول الحصول على كل ما تحتاجه للاستمرار بكل ما يدر عليها ذلك في الحياة، لكن اكبر فارق بين الإنسان والحيوان، هو أن الحيوان كمخلوق تحركه الغرائز يتكيف فقط بمحيطه وحاضره ولا يدرك إلا القليل من الماضي أو المستقبل، بينما الإنسان يدرك عن طريق العقل عواقب الأحداث ويميز أسباب الأشياء ويعيش شروطها وفرضياتها، ويقارن الظواهر ويربط بشدة، الماضي بالحاضر والحاضر بالمستقبل، لذا هو يستعد مقدما لتهيئة الأمور اللازمة بالضرورة.

 وهذه الطبيعة تقرب قوة العقل والفهم لدى الإنسان إلى أخيه الإنسان، نحو جماعية اللغة والحياة ثم تدفعه نحو التعايش الاجتماعي على نطاق أكبر واشمل، ولذا تراه يبحث عن الأشياء الضرورية كمصلحة نفعية خاصة لنفسه، ومن ثم يتعدى لزوجه وأطفاله والناس الآخرين الذين يودهم والذين عليه العناية بهم. وهذا الاهتمام والعناية (الهم) يحفز الروح الإنسانية فيه ويبث في كيانه الحيوية والنشاط. فمن خلال هذه الهموم، طمح لرؤية أو سماع شيء جديد يتعلمه او يتعرف عليه، ليؤمن له طبيعة عيش هادئ له ولمحيطه.

الرغبة والإرادة

الحقيقة هي أن الإنسان يختلف أساسا عن سائر المخلوقات لامتلاكه ملكة حرية الإرادة والاختيار، فمن هذا سعى مع هذه الرغبة لمعرفة الحقيقة بربط الرغبة في الاستقلال، فالروح المخلوقة طبيعيا وبصورة متوازنة، لا ترضخ لأوامر الغير عادة، عدا ذلك الشخص الذي يوجهها بإرشاداته ويعلمها بمعارفه أو من يأمره بالحق وحسب القانون أو الشرع وذلك حماية لمصلحته والمجتمع، ومن هنا تنمو عظمة الروح والترفع عن الأمور المادية البحتة. كما هناك قوة لا يستهان بها في الطبيعة البشرية العقلانية، وتكمن في كون الإنسان هو الوحيد بين المخلوقات، الذي يفهم ماهية النظام، وكيفية الحفاظ على المعايير المقبولة بإدراكه فحوى الجمال، الاستهواء والتناسق حتى أزاء الأشياء المرئية، نجد أن الإنسان الموهوب بالذات المفكرة، ينقل هذه الصفات من الأشياء عن طريق البصر إلى ردود فعل الروح، ويجتهد أكثر للحفاظ على الجمالية والاستقرار والنظام في الأفكار والأفعال، ويحتمي ويتحاشى أن لا يخطئ في شيء معيب أو جبان، وأن لا يتعامل حتى ولو بالتفكير بأمور غير نقية تخدش تلك الروح لديه.

إذاً من هذه العناصر يتكون وينمو مفهوم التعامل الشريف، الذي نبحث عنه، التعامل (التصرف- السلوك) الذي هو شريف (مشرف) حتى وإن لم يعترف به علنا، والذي يؤكد عليه الحق، انه حسب جوهره الطبيعي يستحق الاستحسان والمديح، حتى وإن لم يصرح بذلك أحد. هنا اذن يتجلى بوضوح، الوجه الحقيقي للواجب ووجه الفضيلة والقيمة الأخلاقية فيه، التي تحدثت عنها قيم السماء وعلماء الأخلاق والتربية، فكل التعامل الشريف ينبع من إحدى المكونات الأربعة:

 إما أن يتعلق بمعرفة عميقة للحقيقة، أو بالإرادة للحفاظ على مصالح المجتمع البشري، وإعطاء كل ذي حق حقه، واحترام العقود والحقوق، أو بسمو قوة الروح النبيلة والعقيدة الفاضلة أو بالحفاظ على النظام والاعتدال دوما في كل ما يبدر عنه من كلام وأفعال، التي تكمـن فيها الملائمة والتحفظات.

لغة الحكمة

هكذا نجد تصدر لغة الحكمة لتلك المفاهيم الواجب تتبعها ومع هذه المكونات الأربعة للفضيلة (متلازمة) لا فصل بينها، فمن كل منها تنشأ أنواع معينة من الواجبات. فعلى سبيل المثال، ينشأ من الحكمة والتي ترافقها العقلانية، التحليل والبحث عن الحقيقة، وهذا كواجب لصيق بهذه الفضيلة، لأن كل من يحسن تحديد حجم ومدى الحقيقة في أي شيء، يكون المع وأسرع مقدرة لرؤية وتفسير الشيء وبذلك يعد كشخص عاقل وحكيم. 

لذا يكون الجوهر الذي يتعامل به هو الفضيلة والتي تحقق فيها حقيقة الفضائل الثلاث المنتجة الأولى لحماية التعايش في المجتمع البشري، والثانية تضاعف قوة إرادة الإنسان ليعنى بمصلحته ومصلحة الآخرين، والأكثر من ذلك انه في الوقت نفسه يعلم كيفية الترفع على الممتلكات المادية. والثالثة الحس بالنظام والعزيمة والعدل وغيرها من الصفات التي تأخذ مكانها في الممارسة هناك حيث إن الهدف هو النشاط العملي والنشاط الروحي معا، لأننا في الممارسة الحياتية نحتاج عند اتباعنا الوسطية والنظام للمحافظة على الكرامة والشرف، ومن الطبيعي إن كل امرئ لابد أن يعرف في قرارة نفسه بهذه الحقيقة وهي إن وجود النظام دليل على إن وراءه عقلا مفكرا ومخططا هادفا يخضع لقوانين الإدراك الوجداني وحكمة الحاجة إليه.

من هنا تتضح ان أقسام الشرف الحقيقي على القاعدة النفعية الذاتية المنطلقة على أسس الأخلاق وذلك بـ:

 المعرفة الحقيقية

 ويتعلق هذا الأمر أكثر بالطبيعية التكوينية بين البشر من جهة معرفية. لأننا جميعاً منقادون ومنجذبون برغبة شديدة للمعرفة والتعلم، مما قد يبرع احدهم في تقصي العلم والاستفادة منه ويخفق آخر في ذلك، مما يجر للشك والخطأ والجهل والخديعة، فتعد شرا وأمرا معيبا. إنها ظاهرة طبيعية ومشرقة لكننا يجب أن نتحاشى هنا خطأين، أولا أن نعد غير المؤكد على انه أكيد ولا نعترف به دونما تفكير وتحليل.

 العدالة

هي تلك الصفة الخاصة بوضع الأشياء في مواضعها والتي تحقق بها الفضيلة أعظم تألقها، والتي تضمن للإنسان نعت (الرجل الأمين)، ومعها مرتبطة صفة (عمل الخير - الإحسان). وأول رسالة للعدالة هي، أن لا يضر الإنسان أنسانا آخرا أو نفسه، إلا إذا كان ضحية ظلم، ثم وان يستخدم الملكية العامة كملكية مشتركة، والخاصة كملكية خاصة. لذا يجدر هنا أن يعرف الإنسان أن الملكية الخاصة ليس لها أصل حقيقي، فهي إما استيطان قديم عن طريق التأهيل أو عن طريق الغزو، كاغتصاب الأراضي بالحروب أو بقانون وعقد واتفاق أو بالقرعة، لذا فأن الأراضي توصف بعائديها، وهكذا يتم التمييز في الملكية الخاصة التي كفلتها الشرائع والقوانين.

إن كل ما هو على الأرض هو مخلوق لفائدة الناس جميعا، يحكمهم في ملكيتها النظام والقانون والأخلاق وقد تكاثر الناس من اجل الناس، كي يتمكنوا من تبادل المنافع فيما بينهم بعدالة الشرع والقانون، فلا بد من اتباع نهج الطبيعة البشرية وجعل الأشياء ذات طابع المنفعة خاصة وعامة، وتقديم الخدمات للناس وتقبلها وتدعيم التكافل الاجتماعي بكل إمكانياتنا وأعمالنا وبكل ما نمتلك من وسائل مادية.

الإخلاص

الأمانة (الإخلاص) أساس العدالة، وهو ما يعني الثبات والصدق في الوعود والعقود،، ولنثق بأن الثبات قد اخذ تعبيره من أنه سيحدث ما قد قيل وأتفق عليه، أما إنعدام العدالة فيظهر على صورتين. إما أن يقوم بعض الناس بالاعتداء على احد ما، أو أن لا يحموا ويدافعوا عن مَنْ نالهم الظلم، حتى عندما يكون ذلك في مقدورهم. فحينما يهاجم احدهم آخر بدون حق سواء في حالة غضب أو دفاع أو من جراء دافع ما مثلا لكن إن لم يمنع احدهم هذا الاعتداء أو عرقلته، مع قدرته على ذلك، فانه يقترف خطيئة قد تلاصق البشرية عامة. 

فالخطايا التي يقترفها الناس بعضهم ضد بعض، بغرض الإضرار المتعمد، غالبا ما يكون مصدرها- أما الظلم أو الخوف، فالإنسان الذي يفكر بإيذاء الآخر، إنما يندفع في هذا خوفا من أن يتحمل هو نفسه ضررا ما، إن لم يقدم على ذل، لكن في أكثر الأحيان يقرر الناس اقتراف الخطيئة كي يحققوا بعض المكاسب والرغبات واكبر حصة في هذا الإثم تعود للأنانية والجشع.

إذ يحلم كثير من الناس و الدول بالثراء فتارة لإشباع حاجات معيشية، وتارة لهفة لامتلاك الثروة والنفوذ على حساب الآخر والتمتع بها لكن أولئك الذين ترنو أرواحهم نحو العلا، فيطمحون إلى الأجر والتسامي على المال بإحقاق الحق وإبطال الباطل، لكي يحظوا بقدرة كسب ود الناس من خلال الإحسان وفعل الخير العام، فغالبا ما ينحرف الناس إلى هذا الاتجاه لتكديس الثراء متناسين او متعامين عن العدالة، فعند كل فعل ظالم لابد من التمييز وبعناية، ما إذا يجري فعل الظلم نتيجة نوبة طارئة لنزعة ما، والتي تكون عادة قصيرة الأمد.

إن حماية الآخرين ومد يد العون لهم واجب جميل ذو قيمة كبيرة وفضيلة كبيرة لا يمكن إن يهمل لأي سبب من الأسباب، فالتعرض لاضطراب ما، أو لخسارة مالية، أو أن يتأخروا في حياتهم بسبب تردي مصالحهم أو همومهم الخاصة، لا يمنع أن يترك المنكوبون دون عون، وأولئك الذين عليهم الدفاع عنهم والوقوف إلى جانبهم، يجب أن لا يكفي لكونهم عادلين ومنشغلين ببحث الحقيقة ويتعالون على الأشياء التي يتهافت عليها الآخرون لأنهم هم أنفسهم يتحرون الحكمة والعدالة ولا يعيرون هذه الأشياء أية قيمة على رفع الضرر وإفادة بني جنسهم المظلومين، أنهم بذلك يتوصلون إلى تحقيق نوع واحد من العدالة بالتأكيد، ذلك لأنهم هم أنفسهم لا يظلمون أحدا، ولا يقترفون الظلم لأنهم منهمكــون بالرعاية لأولئك المظلومين الذين يجب عليهم حمايتهم والدفاع عنهم.

لأن السلوك الصحيح، هو دوما عادل فعلا حينما يكون طواعية، وهناك من الناس، من يجتهد للعناية بما يملك أو لعدم ارتياحه للآخرين يعلن بأنه مهتم بشؤونه الخاصة فقط، ومن الواضح انه لا يؤذي أحدا في هذه الحال. ومثل هؤلاء الناس، مع أنهم متنصلون من احد أنواع الظلم، لكنهم يقعون ضحية نوع ثان، فهم بالأحرى ظالمون لأنفسهم يخونون جماعية الحياة، بكونهم لا يضحون من اجلها، سواء بجهودهم ومحاولاتهم او بأعمالهم وإمكانياتهم.

الخلاصة

هناك نوعان من الظلم يفعلان فعل المطرقة والسندان على مفارق الفضيلة الأخلاقية وماهية العدالة وهما النفعية على حساب الآخر والذات الأنوية إذ انه بالتأكيد يصعب الاهتمام بمصالح الغير إذا كنا شديدي الأنا، مع أن كل ما هو بشري ليس بالغريب عليه، لكننا نحكم في الواقع على الناس الآخرين بغير ما نحكمه على أنفسنا، لأننا نعي سعادتنا وتعاستنا الخاصة قبل ما هي للآخرين، والتي نراها من مسافة بعيدة جدا، لذا كان النصح بحق أولئك الذين يطلبون منا أن لا نقدم على إي شيء، نشك فيه صحيحا كان أم خاطئا، أن يعرضوا فعلنا على العدل، فالعدل بحد ذاته وبجوهره هو واضح لا يقبل الشك، بينما تفشي أية شكوك يعني أن الإنسان يفكر بالظلم، وبما أن العدل هو أساس الفعل وهو الأرض الصلبة لاقتلاع الظلم وتحقيق الأمن والرفاه وجب علينا أن نمارس العدل ونأمر به.

* نشر في شبكة النبأ المعلوماتية- ايلول 2006- شعبان 1427

اضف تعليق