الشرق الأوسط ربما تكون أول منطقة ستلفظ أنفاسها الأخيرة عطشى، فيما تشتعل بموجات من الحر، وتنفد من المياه، تتجه نحو مستقبل غير بعيد يبدو أشد سخونة وجفافاً وبؤساً، لدرجة أنها ستمسي، وفق خبراء كُثر، غير صالحة للعيش ما لم تتخذ إجراءات سريعة تنتشلها من هذا المصير المشؤوم...
صحيح أنها ستكابد أقسى موجات الحر، ولكن تغير المناخ ليس العامل الوحيد الذي يكتب هذا السيناريو المخيف في بلاد تتناوشها حروب ونزاعات أهلية وينخر الفساد عظامها وتعاني أوجه قصور هيكلية عميقة تمنع الازدهار والابتكار التكنولوجي في مجال الطاقة المتجددة.
أطبق تغير المناخ على خناق العالم برُمّته، ولكن الشرق الأوسط ربما تكون للأسف أول منطقة ستلفظ أنفاسها الأخيرة عطشى، فيما تشتعل بموجات من الحر، وتنفد من المياه، تتجه نحو مستقبل غير بعيد يبدو أشد سخونة وجفافاً وبؤساً، لدرجة أنها ستمسي، وفق خبراء كُثر، غير صالحة للعيش ما لم تتخذ إجراءات سريعة تنتشلها من هذا المصير المشؤوم.
ولا يخفى على أحد أن الوضع المُزري لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ما يتصل بالاحترار العالمي، لا يُعزى فقط إلى مناخها الحار والجاف، وإنما تغذيه عوامل أخرى عدة، أبرزها الفساد، والسياسات عديمة الجدوى، وسوء الإدارة الحكومية والنزاعات الأهلية والحروب، وغيرها.
المياه تغمر البصرة؟
في دراسة نهض بها سكوت كولب وبنجامين شتراوس من منظمة "كلايمت سنترال" غير الربحية، ونشرت في "نيتشر كوميونيكيشنز" Nature Communications، من المتوقع أن تفقد دول الشرق الأوسط مدنها الساحلية الرئيسة تماماً بسبب ارتفاع مستويات سطح البحر. البصرة مثلاً، ثاني أكبر مدينة في العراق، ربما تغمرها المياه بحلول 2050. أما التداعيات الإنسانية والأمنية وربما والعسكرية التي ستترتب عن ذلك، فحدث ولا حرج.
الحر والقيظ
وفق التقديرات، يبلغ معدل ارتفاع درجات الحرارة في الشرق الأوسط حالياً ضعف المتوسط العالمي، وبحلول 2050 ستكون المنطقة أكثر سخونة بأربع درجات مئوية من الحد الأقصى الذي وضعه العلماء لإنقاذ كوكب الأرض، ويبلغ 1.5 درجة.
بالعودة إلى يونيو (حزيران) الماضي، سجلت الحرارة في الكويت 53.2 درجة مئوية، وشهدت المملكة العربية السعودية وعمان والإمارات العربية المتحدة والعراق وإيران درجات حرارة فاقت الخمسين درجة مئوية.
هذه الظروف المناخية التي تعتبر متطرفة الآن ستصبح، كما ذكر "البنك الدولي"، الحال الطبيعية، إذ ستنوء المنطقة تحت شمس حارقة من المتوقع أن تلازمها أربعة أشهر سنوياً. بناء عليه، لا يستبعد "معهد ماكس بلانك الألماني" أن تصير مدن كثيرة في الشرق الأوسط غير صالحة للسكن قبل نهاية القرن الحالي.
ومن المعهد نفسه، يذكر جوس ليليفيلد، خبير في مناخ الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، أن الشرق الأوسط قد تجاوز الاتحاد الأوروبي في بصمته من انبعاثات غازات الدفيئة، مع أنه يواجه "تداعيات خطيرة" نتيجة تغير المناخ.
موجات حر
عموماً، تضاعفت انبعاثات غازات الدفيئة في المنطقة خلال العقود الثلاثة الماضية أكثر من ثلاثة أضعاف. ويتخوف ليليفيلد من أن مدناً ستضربها موجات من الحر "تصل إلى 60 درجة مئوية، مهددة حيوات السكان الذين لا يملكون مكيفات هواء"، في بلاد مثل إيران والعراق ولبنان وسوريا واليمن.
وسبق أن تابعنا خلال الصيف الماضي تظاهرات كبيرة شهدتها تلك البلدان احتجاجاً على نقص الخدمات الأساسية في ظل ارتفاع درجات الحرارة والجفاف.
ولكن الطبقة السياسية في لبنان مثلاً أصرت على التمسك بالسلطة ضاربة بعرض الحائط الشروع بأي إصلاحات لتجديد قطاع الكهرباء، على الرغم من أنه وفق الخبراء يملك لبنان إمكانات هائلة لتوليد الطاقة وتحقيق أرباح، والاستفادة من الرياح والشمس.
هكذا، رسمت تلك التحركات واللامبالاة تجاهها لمحة عن المستقبل المحزن للمنطقة، وفق "فورين بوليسي".
شح المياه
نظراً إلى وجود نهري دجلة والفرات في الشرق، ونهر النيل في الغرب، تقع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منطقة غنية بالمياه. على الرغم من ذلك، تعتبر ندرة المياه مشكلة ملحة فيها. فالمساحات المائية الكبيرة، من قبيل بحيرة أورميا [بإيران] ودجلة، التي تجري في أوصال كثير من بلدان الشرق الأوسط تفقد تدريجياً المزيد من تدفقها السنوي، نتيجة النقص في هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة ومعدلات التبخر بفعل تغير المناخ.
وكما حذرت الأمم المتحدة في 2017، أسهم الجفاف الشديد في أسوأ أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، طارحاً آثاراً وخيمة على السكان، الذين سيحرمون ربما من المياه الصالحة للشرب وتلك الضرورية للزراعية. من جهة أخرى، ليس مستبعداً أن يتسبب تغير المناخ أيضاً في هطول أمطار غزيرة تكون توطئة لنشوب فيضانات على شاكلة ما مرت به الصين وألمانيا وبلجيكا العام الحالي.
ضرورة وضع سياسات حديثة
بغض النظر عن التأثيرات التي يخلفها تغير المناخ، يسهم عامل آخر مهم في ندرة المياه ويجعل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منطقة غير صالحة للعيش، إلا وهو الافتقار إلى السياسات الحديثة المتعلقة بالأمن المائي.
بالنظر إلى المستقبل، يتعين على صانعي السياسات أن يأخذوا في الاعتبار الموقع الجغرافي لبلادهم وإمداداتها من المياه. لما كانت غالبية دول الشرق الأوسط تشترك في إمدادات واحدة للمياه على أقل تقدير مع الدول المجاورة لها، سيكون من الحكمة أن تتضافر جهود المسؤولين الحكوميين وصناع السياسات لتصحيح هذه المشكلات.
يرى يوهان شار، زميل أول مشارك في "معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام"، أن في مقدور التعاون الإقليمي التخفيف من أزمة المياه وخفض انبعاثات الكربون في المنطقة. قال في هذا الصدد إن العنصر "الأهم بالنسبة إلى التعاون الإقليمي الاتفاق على استخدام وإدارة موارد المياه المشتركة التي ستصبح أكثر ندرة بسبب الحوادث المناخية القاسية، سواء الأنهار أو المياه الجوفية"، مضيفاً أن "مجلس وزراء المياه" التابع لجامعة الدول العربية وضع اتفاقية إقليمية حول الموارد المائية المشتركة قبل بضع سنوات، لكنها لم تنل التصديق عليها مطلقاً".
مواجهة الفساد
الفساد والتقاعس عن الإصلاحات وعدم الكفاءة مشاهد مألوفة في حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولطالما ارتبطت الإدارة الحكومية السيئة بسوء الإدارة البيئية، وأدى ذلك إلى إنشاء بنى تحتية عاجزة عن الصمود، وعدم الالتفات إلى تعزيز الابتكار التكنولوجي في مجال الطاقة المتجددة والاستدامة البيئية. كذلك كانت استجابات الحكومات لأزمات المياه ضعيفة غالباً. وللأسف، تترك المشكلات المحلية تأثيرها على اهتمام الحكومة بوضع استراتيجيات لمعالجة القضايا الخدماتية والبيئية الملحة. مثلاً، نجد أن العراق لا يرقى إلى مستوى البلاد الأخرى في قطاعه الزراعي بسبب عدم تحديثه أساليبه للري، إذ كانت الحكومة العراقية منشغلة بمحاربة الإرهاب والتصدي للميليشيات المتحالفة مع إيران.
حرب ونزاعات أهلية
تعم الحروب والنزاعات الأهلية منطقة الشرق الأوسط. مع ندرة وسائل الراحة مثل مياه الشرب والكهرباء، يعتري محللون كثر قلق من نشوب صراعات أخرى في المستقبل.
كذلك يؤثر الإرهاب في مدى توافر مياه الشرب للسكان داخل المنطقة، لأن أنظمة البنية التحتية للمياه تعتبر أهدافاً أساسية تسعى هذه المجموعات إلى تعطيلها. مثلاً، معلوم أن "داعش" استهدف أنابيب النفط ومشاريع الري والسدود وقام بتفجير مخازن المياه في الماضي. في 2014، أفادت تقارير بأن التنظيم الإرهابي قد أغرق تسع قرى في منطقة شروين في العراق من طريق تحويل مياه الأنهار القريبة إليها.
لا يسعنا أن نغض الطرف أيضاً عن تكلفة الحرب. كما الحال في الحروب كافة، لن تتكبد البلاد خسائر في أرواح الناس وفي الأموال فحسب، بل ستكون التكلفة البيئية ضخمة جداً أيضاً. وفق "مشروع تكاليف الحرب"، خلفت "الحروب في العراق وأفغانستان وباكستان تأثيراً خطيراً على البيئات الطبيعية لهذه البلدان"، التي إلى جانب تدهور الموارد الطبيعية فيها فقدت غطاءها الحرجي، وأعداداً كثيرة من الحيوانات والطيور.
إصلاحات
يبعث على الخوف التفكير في المصير الذي ستؤول إليه المنطقة مع استمرار تغير المناخ، إذ يتوقع أن تتفاقم الأزمات المعيشية إذا بقيت معايير الحكم والإدارة على حالها. في تعقيبه على هذه المسألة ذكر جوس ليليفيلد أن "تغير المناخ وما يترتب عليه من تفاقم الظواهر الجوية المتطرفة، يضاف إلى التحديات التي تفرضها الصراعات الإقليمية، ما يمثل دافعاً إضافياً يحمل أعداداً إضافية من الناس نحو الهجرة".
ولكن على الرغم من أننا ربما نبدو بعيدين عن تصحيح المشكلات البيئية التي يعتقد أنها ستحدث في المستقبل المنظور، تتوفر خطوات ستخفف في حال تنفيذها من وطأة معاناة الناس والتكلفة البيئية في آنٍ. وأبرز هذه الخطوات وفق "إيرث دوت أورغ:
تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية لتشجيع الأعمال التجارية وتعزيز المؤسسات الصديقة للبيئة التي تدعم العيش المستدام.
وضع سياسات حديثة تعزز التعاون الإقليمي لأن أنظمة المياه الفردية تشكل المصدر الرئيس للمياه في بلدان كثيرة. سيحتاج صانعو السياسات إلى أخذ هذا الواقع في عين الاعتبار عند صياغة استراتيجياتهم وتنفيذها، وعلى المسؤولين مناقشة هذه القضايا في المؤتمرات المتعلقة بالتنوع البيولوجي والمناخ مستقبلاً.
الحد من الفساد، الذي قد ينطوي على محاسبة الفاسدين في الحكومات.
توظيف الأموال في التثقيف حول خطورة هدر المياه وأهمية التنوع البيولوجي، ذلك أن الافتقار إلى المعرفة لدى سكان البلاد سيبقيهم، لا ريب، على المسار عينه الذي يسيرون عليه اليوم.
ترشيد استخدام المياه للري، إذ تستخدم كثير من بلدان المنطقة مياهها لأغراض الري، ومع تزايد مستويات تركيز الملح في مصادر المياه، يمكن أن تكون النتيجة المباشرة استخدام المزيد من المياه في زراعة المحاصيل وتربية الماشية. لذا لا بد من أن تكون الخطوة الاستباقية زراعة محاصيل قادرة على التكيف مع المناخ الحار.
اضف تعليق