التعليم الوحيد الحقيقي يتمثل في اكتشاف الذات وفي التعليم المناسب للذات. إن وظيفتي لا تعني القيام بتعليمك أي شيء، وإنما كيفية خلق الجو المناسب الذي تستطيع من خلاله أن تعلِّم نفسك. إن إحدى المهارات الضرورية في أيامنا هذه المليئة بالأساطير البالية والمفرطة في العنف، هي...

سألني شخص ما ذات مرة أثناء الحديث عن السبب وراء إصراري على ذكر الجوانب الإيجابية عند الحديث مع طلبتي، رغم أنني ناقد بلا حدود لأولئك المشرفين على إدارة أمورنا الثقافية الذين يقتلون كل شيء جميل في كوكبنا، فأجبت في الحال قائلًا: القوة، إذا ما امتلكت القوة أو السلطة التي تستطيع بها السيطرة على الناس، فإن مسئوليتي عندئذٍ تجبرني على استخدام هذه القوة في مساعدتهم فقط، ويصبح من واجبي أن أقبلهم وأثني عليهم وعلى ما هم عليه، لكنني إذا رأيت شخصًا يسيء استخدام القوة ويقوم بإيذاء شخص آخر فإنه من صميم مسئوليتي في مثل تلك الحالة أن أعمل على إيقافه باستخدام كل الوسائل الممكنة والضرورية.

سارعنا بعد فترة وجيزة بالانتشار داخل الفصول الخالية من الطلبة، وقمنا بنزع كل ما أمكننا رؤيته من إعلانات أو ملصقات، كما قام الطلبة على مدى أسابيع تالية بغلق المغلفات البريدية؛ تمهيدًا لإعادتها إلى أصحاب الإعلانات، وفي النهاية امتلأت سلات المهملات عن آخرها.

بعد سنوات كثيرة، عندما دخلت الفصل بصفتي مدرسًا حقيقيًّا، وليس تابعًا، في جامعة واشنطن الشرقية، قمت بتغيير اسم المنهج من «مبادئ التفكير والكتابة» إلى «التحرر الروحي والفكري والفلسفي واكتشاف أروع ما في الإنسان»، ثم عملنا على تغيير نظام المقاعد وقمنا بترتيبها على شكل دائرة بدلًا من الصفوف المتراصة، وكنت كلما مشيت في الفصل لا أتوقف عن سؤال الطلبة والطالبات عن الأشياء التي يحبونها، وقد أخبروني عن حكايات تخص عائلاتهم، وحكوا لي عن الزراعة وعن الفن وعن حبهم للرياضة، فتعلمت أكثر مما تعلمت من تفاصيل حياتهم أنهم حكاءون ورواة بطبعهم، فلم يكونوا حقًّا في احتياج لتعليمهم كيفية الحكاية، لكنهم كانوا بالأحرى في حاجة لمن يساعدهم في أن يكونوا ما هم عليه بالفعل، ولقد أدركت أيضًا، وبسرعة، أن طلبتي ممن يدرسون الكتابة لا يحتاجون كثيرًا لمن يعلمهم فن الكتابة بقدر احتياجهم أن يصبحوا ما هم عليه داخل أنفسهم.

 إنهم يعرفون كيف ومتى يبدعون القصة، وكيف يسردون التفاصيل المناسبة في الوقت المناسب، كما يعرفون أهمية أن تثمر القصة بعض النتائج والأفكار، وكل ذلك كان واضحًا في حكاياتهم الأولى التي أخبروني بها عن الأشياء أو الأشخاص الذين أحبوهم. وكان من الواجب أن يدركوا المواهب التي يمتلكونها، وأنا لم أستطع اكتشاف مواهبهم من فراغ، ولكن يمكنني القول بكل بساطة وعن يقين أنهم موهوبون بالفعل، ولم تكن مساعدتي لهم سوى نوع من التوجيه.

في أول يوم أعمل فيه بالتدريس، بصفتي محترفًا، أخبرت الطلبة عن مدرس الاقتصاد الذي كان يدرس لي في يوم من الأيام، وعما أخبرنا به قائلًا: «لا تصدق أبدًا أي شيء تقرؤه، ولا تصدق إلا النادر جدًّا مما تفكر فيه.»

قلت لهم أيضًا بأنه كان واحدًا من أفضل المدرسين الذين تعلمت منهم، ثم توقفت لحظة وسألتهم: هل قام أحدكم طوال عمره بنزهة فوق خطوط السكك الحديدية؟ وهل واصل السير حتى عرف بأنه بعيد جدًّا عن المدينة؟ وهل أخرج ساعته بعد ذلك من جيبه ووضعها فوق الطريق؟ وهل -بعد أن خطا خطوات كثيرة- ما زال يسمع تكات الساعة بينما يتدفق الدم من أذنيه؟ وهل يتنحى جانبًا عندما يقترب القطار تاركًا للرياح فرصة العبث بشعره دون أن يتوقف عن الارتعاش من شدة الخوف وعدم القدرة على التنفس حتى تمضي آخر عربة من القطار؟

هل رأيت النجوم أو القمر في الصحراء؟ هل نمت عاريًا فوق الأرض المبللة؟ ومتى كانت آخر مرة سِرْت فيها حافي القدمين فوق الجليد وأنت تراقب تساقط النجوم، أو وأنت تستحم في نهر بارد وسريع الجريان؟ متى كانت آخر مرة استمعت فيها إلى المزمار في لحظات الفجر، كان أصحاب تلك الأسئلة هم أمهر وأفضل المدرسين الذين قابلتهم.

لكنني سأخبرك بالأفضل، لقد اعتدت أن أصطحب معي كلبًا صغيرًا مدللًا، كان الكلب سريع الحركة، وكانت أذناه ترفرف ولسانه يتحرك أثناء جريه الدائم في كل مكان، ولم يكن ذيله يتوقف عن الحركة أبدًا مهما كان يفعل، ولقد اعتاد على أن يتجاهلني. وكان الدرس الذي تعلمته من الكلاب هو الاعتراف بصحة القواعد، ثم تجاهلها وعدم الالتزام بها، إن كل شيء يفعله الكلب إنما يفعله بحيوية وحماس، وبطريقة مبهجة ومفعمة بالحياة، حتى إنني لا أستطيع أن أتخيل مدرسًا أحسن من ذلك.

التقط الطلبة أنفاسهم بعمق بعد أن استمعوا لي، ولم يستطيعوا التأكد من استيعاب ما سمعوه مني، كما أنني أيضًا لم أستطع أن أفهم ردود أفعالهم.

قلت: إن العاطفة والحب والكراهية والخوف والأمل هي المصادر الرئيسية التي تثمر كتابة أفضل، كما أن الحياة نفسها تتشكل من تلك المعاني والانفعالات، وهكذا فإننا نستطيع أن نتساءل قائلين: وماذا تعني الكتابة بدون الحياة؟ الكتابة والحياة والحياة والكتابة، كلاهما يشكل المادة التي تصنع الآخر.

كنت كذلك أحذرهم قائلًا: إذا كنتم قد جئتم إلى هنا من أجل السمعة الطيبة، ولأجل الافتخار بانتمائكم للجامعة، وللبحث فقط عن الجمل البلاغية والنقاط الفاصلة، ومجرد تدوين المقالات القصيرة، فلتعلموا أن هذا الفصل سيكون مصدرًا كبيرًا للتخلف لي ولكم، وعائقًا لأي نوع من التقدم، وإذا لم يكن لديكم الاهتمام الكافي والرغبة في الوصول إلى حافة الخيال الصعبة، حيث الموهبة والشعور بالنشوة، فلن تقدروا على التحرر من قيود الزمن ومن الأوهام المترسبة داخل وعي وإدراك كلٍّ منكم، وفي هذه الحالة فإنه يمكنني القول بكل أمانة إنه من الأفضل لكم أن تبحثوا عن فصل آخر، وإذا حدث هذا يكون كلانا قد قدم خدمة كبيرة للآخر، ولكنني أرجوكم ألا تسارعوا بالذَّهاب إلى مكتبِ رئيسي؛ لأنني متفق معه على السماح لي بأن أفعل ما أريد داخل الفصل، على أن يضمن لي نقلكم إلى فصل آخر إذا لم تعجبكم طريقتي في التدريس، أعرف أن طريقتي لا تروق لكل شخص، والحقيقة أن كونها كذلك لا يعني بالضرورة أنها تمثل انعكاسًا لحالتي أو لحالتكم، وإنما الأمر لا يتعدى كونه مثل امتلاكك لكتابين فوق رف المكتبة؛ أحدهما أحمر اللون، والآخر أخضر، إنهما فقط غير متناسقين، ولكن إذا أردت أن تركب الموجة، وإذا سمحت للموجة أن تركبك، وإذا أردت أن تكتب من أعماقك ومن داخل روحك، فعليك أن تمد يدك بعمق إلى فراء النمر والإمساك به بقوة؛ لأننا جميعًا في حاجة لجولة مليئة بالمخاطر.

لم يتحرك أحد من مكانه.

عرَفت من خلال خبرتي، وكما كتب «كارل روجرز»، أن التعليم الوحيد الحقيقي يتمثل في اكتشاف الذات وفي التعليم المناسب للذات. إن وظيفتي لا تعني القيام بتعليمك أي شيء، وإنما كيفية خلق الجو المناسب الذي تستطيع من خلاله أن تعلِّم نفسك.

إن إحدى المهارات الضرورية في أيامنا هذه المليئة بالأساطير البالية والمفرطة في العنف، هي اكتساب القدرة على التفكير الناقد، ومساءلة السلطات، والشك في كل شيء.

قالت صديقتي جانيت أرمسترونج: «لدينا جميعًا أنظمة من السلوك الثقافي المكتسب قد أصبحت مع مرور الوقت جزءًا لا يتجزأ من اللاوعي عندنا، وتلك الأنظمة تلعب دورًا مهمًّا في الطريقة التي ننظر بها إلى العالم، كما أنها تؤثر في تصرفاتنا، وفي طريقة كلامنا، وفي لغة أجسادنا، والكلمات التي نستخدمها، وأيضًا في الطريقة التي نستجمع بها أفكارنا. ولا بد لنا من العثور على طرق عديدة للوقوف أمام استمرار ذلك الدور الذي تلعبه أنظمة السلوك هذه، لكن أصعب الأشياء التي يجب أن نفعلها هو أن نرى الأشياء من منظور مختلف.»

استطردت صديقتي قائلة: «يجب أن أعلِّم نفسي باستمرار تفكيك وتحليل ما أعتقد فيه، وجعله على الطريقة التي يجب أن يكون عليها، وأن أعمل باستمرار على تحرير عقلي مما أعتقد فيه، ويجب دومًا ألا تتوقف معلوماتي عند حد معين حتى تزيد رقعة المعرفة والإدراك عندي. وأستطيع القول بكلمات أخرى إنك لن تكون راضيًا أبدًا لأنني راضية، مما يجعلني أبدو مستاءة، لكن الأمر لا يعني ذلك، وإنما يعني أنك لن تكون راضيًا أبدًا وأنت تفكر بأنك عرَفت نتيجة الأشياء، وأن تسأل دائمًا ما يدور في رأسي أنا. إنني دائمًا أقول لطلبتي الذين يدرسون فن الكتابة أن يبدءوا، بل ويتمسكوا بموقفهم عندما يقولون كلمة «هراء» للتعبير عن استيائهم، بأي شيء، وأن يكونوا فرحين وسعداء وهم يعبرون عن أنفسهم بترديد تلك الكلمة؛ لأنه في معظم الأوقات يصبح من المخيف أن نتبنى التصرفات والسلوكيات القديمة أو الخلافات القديمة التي يجب ألا نعمل بها ونعتقد فيها، وإنما علينا معرفتها، وهكذا نتواصل مع تلك الأنماط والسلوكيات لأنها مألوفة.»

قلت: من المقبول جدًّا والرائع أن تختلف معي، ومن الجميل أن تختلف مع أي شخص، وعليك فقط أن تكون مقبولًا ومحبوبًا وتحظى بالاحترام طوال الوقت بالطريقة التي توافق أنت عليها، يجب أن تكون رأسك مليئة بالأفكار، وأن تكون حكيمًا في رفضك.

* مقتطف بتصرف من كتاب: (السير فوق الماء: القراءة والكتابة والثورة)، لمؤلفه: ديريك جنسن، ترجمة: سمير عبد ربه، الناشر: مؤسسة هنداوي


اضف تعليق