q
البلاد مازالت بأمس الحاجة الى مجلس اقتصادي دائم للإعمار والبنى التحتية يمتلك الصلاحيات التنفيذية لتنفيذ المشاريع الاستراتيجية العابرة للمحافظات كمشاريع الزراعة والنقل الكبرى والمياه والطاقة والاسكان والتشييد والاقتصاد الرقمي والتي جميعها تسرع في درجة التنويع الاقتصادي والانتقال الى عصر انمائي متقدم وبشكل يعجل في الرفاهية الاقتصادية...

١- تمهيد:

يخضع الوضع الاقتصادي الراهن للعراق الى معادلة متكونة من طرفين، (الطرف الموجب) فيها يتمثل بفوائض عوائد النفط على وفق مؤشرات سوق الطاقة في العالم وقدرات العراق التصديرية للنفط الخام ما يجعل التدفقات المالية الداخلة للاقتصاد بمستوى يساعد على دفع معدلات النمو الاقتصادي الى امام ما يتطلب تزايد مستوى الانفاق الاستثماري في المجالات الاستراتيجية المهمة ذات الصلة بالتنمية الاقتصادية والحفاظ على معدلات نمو مرتفعة حددتها خطط التنمية الاقتصادية بنحو ٣، ٧٪ سنويا.

اما (الطرف السالب) في المعادلة، يتمثل بمشكلات المياه والتصحر التي مازالت تخضع لدورة الجفاف العالمية لتدخل السنة الرابعة على التوالي في حين تمارس دول الجوار سياسات مائية لا تعير اي اهتمام يذكر لاحتياجات البلاد للمياه، اذ يتوقع ان تبلغ واردات المياه للعام ٢٠٢٢ بنحو ٢٦ مليار متر مكعب مقارنة بالعام ٢٠١٩ التي بلغت ٩١ مليار متر مكعب.

فالخطط الزراعية قد تقلصت الى النصف والخشية ان تتقلص الى النصف من بقايا النصف الاول في الموسم الشتوي القادم. وهذا ما يتطلب استعدادات مهمة في مجريات الامن الغذائي في بلاد مازالت تستورد ٨٠٪ من احتياجات الغذاء من الخارج حتى اللحظة. فالقطاع الزراعي بحاجة الى اولوية للنهضة به ولاسيما مشاريع السيادة الزراعية واعلان جولات تراخيص الاستزراع على الاقل ١٠٪ من أصل المساحات المتاحة غير المزروعة لتصب في تقوية امن الغذاء واستخدام وسائل تقنيات الارواء الحديثة المقتصدة للمياه وحتى زراعة المحاصيل بالمياه المالحة كما يتجه العالم اليوم، ذلك ضمن حملة استزراع وطنية وبخطط قصيرة ومتوسطة المدى.

وبخلاف ذلك فان اهمال قطاعي ادارة المياه والزراعة سيتطلب تامين الغذاء عن طريق فاتورة باهظة التكاليف وهي استيراد الغذاء من الجوار وتسمى بظاهرة (المياه الافتراضية Virtual water) لتستهلك جانب مهم من فوائض عوائد النفط بدلا من توظيفها في التنمية الاقتصادية والمشاريع الاستثمارية المنتجة. ولا ننسى ان البلاد قد استوردت مياه عذبة معبأة للشرب من بلدان الجوار (برقم متحفظ) يقال انه بلغ ٢٥ مليار دولار خلال العقدين الماضيين وكذلك لوازم توليد كهرباء بالجهد الفردي فاقت ٣٠ مليار دولار عدا استيرادات الوقود اللازم لتشغيلها.

٢- الاحتياطيات الاجنبية للعراق والديون الخارجية

ا- هناك خلط مبهم بين الاحتياطيات الاجنبية للبنك المركزي العراقي والتي تمثل اليوم ٨٥٪ من احتياطيات البلاد من العملة الاجنبية البالغة حاليا قرابة ٨٧ مليار دولار، اغلبها اصول او موجودات تقابل مطلوبات تمثلها العملة الوطنية المصدرة. اذ تمثل تلك الموجودات غطاء العملة Coverage لغرض الاستقرار الاقتصادي والحفاظ على القوة الشرائية ضمن الميزانية العمومية للسلطة النقدية من جهة وبين الوفورات المالية الحكومية المتراكمة من عوائد النفط كاحتياطي مالي غير مصروف حاليا (بسبب عدم تشريع قانون للموازنة العامة) من جهة اخرى. اذ خُصص جانب من تلك الوفورات المالية لسد نفقات القانون الطارئ للأمن الغذائي والتنمية رقم ٢ لسنة ٢٠٢٢ بمبلغ قارب ١٧ مليار دولار، ومن المتوقع ان تكون الوفورات المالية او الفوائض المتبقية في نهاية العام ٢٠٢٢ بنحو ١٥ مليار دولار.

لذا فان ما يقترحه بعض الذوات لإطفاء الديون السيادية الطويلة الاجل سيجعل البلاد خالية من اي تحوط مالي اساسي ازاء مخاطر اقتصادية دولية محتملة. فاذا كانت الديون الخارجية الواجبة السداد هي بين ٢٠-٢٣ مليار دولار، فان الوفورات المالية المتوقعة هي نفسها لا تكفي لسداد اجمالي الديون الخارجية فوراً امام احتياجات وطنية عظمى يقتضيها الانفاق الاستثماري للبلاد وتعد مهمة وملحة استراتيجياً.

وبالرغم من ذلك فان موضوع الديون الخارجية وارصدتها لا تشكل تهديدا اقتصاديا للبلاد في الطرف الراهن وان نسبتها الى الناتج المحلي الاجمالي بين ٣٠-٣٥٪ مقارنة بالنسبة المعيارية الدولية البالغة ٦٠٪، خصوصا اذا ما استمرت الفوائض المالية بالتراكم جراء الفائض المتوقع في الحساب الجاري لميزان المدفوعات والذي يزيد اليوم على ٧٪ من الناتج المحلي الاجمالي، في حين ان كفاءة الاحتياطي الاجنبي للبنك المركزي العراقي قد بلغت نسب الامثلية من حيث تغطية الاشهر الاستيرادية التي تلامس اليوم قرابة ١٢ شهر مقارنة بالحد المطلوب البالغ ثالثة اشهر، كما وتمتلك تلك الاحتياطيات القدرة على تغطية خدمات الديون الخارجية او الديون القصيرة الواجبة السداد بنحو يزيد على ٢٥٠٪ مقارنة بالنسبة المعيارية والتي هي اقل من ذلك، وبالوقت نفسه تغطي الاحتياطيات الاجنبية للبنك المركزي الاساس النقدي Coverage بنحو يقارب ١٠٠٪. وان جميع هذه المؤشرات توفر للسياسة النقدية قوة داعمة للاستقرار الاقتصادي واحتواء الانشطة التضخمية وتوقعاتها.

ب- يخضع سداد القروض لآليات واتفاقات محددة في التسديد وتقع ضمن ما يسمى بإدارة الدين العام، كما تخضع مدفوعات اقساط الديون في الوقت الحاضر الى تخصيصات ضمن المصروفات الجارية الفعلية التي تغطيها الفقرة ١٣ من قانون الادارة المالية الاتحادية رقم ٦ لسنة ٢٠١٩ المعدل. وتوضع في قوانين الموازنات السنوية تخصيصات خدمات الديون المستحقة، وهناك قروض دولية غير مسحوبة تصرف سحوباتها على مشاريع محددة مثل مشاريع الوكالة اليابانية للتعاون الدولي او مشاريع ممولة من البنك الدولي وصناديق لحكومات اوروبية. لذا تعد قضايا الاقتراض الخارجي من المسائل التقليدية المتعارف عليها في التمويل الدولي، ولاسيما اذا كانت لأغراض انمائية وخالية من الاذعان والمشروطيات المختلفة.

اما اطفاء بقايا الديون الخارجية من الفوائض المالية المتوقعة فهو تفكير سابق لأوانه وهو بحاجة في الاحوال كافة الى قانون او نص في قانون الموازنة العامة المقبلة شريطة ان ال يرتبط بتوليد مخاطر لمطالبات عن مديونيات دولية شبه معدومة وتعود للنظام السابق او تستهلك تمويل التنمية المقبلة.

٣- الفوائض المالية الحالية ومستقبل التنمية الاقتصادية

ا- مازال قطاع الصناعة النفطية، المرتفع العوائد، هو اللاعب الاساسي في الامساك بالحدود المرسومة للحياة المعيشية في العراق وتطمين هواجسها المتباينة، بالرغم من وجود قيدين مؤثرين اولهما: غياب قانون الموازنة العامة للبلاد للعام ٢٠٢٢ والاخر، قيد الانغماس الواسع بالأزمة السياسية والبرلمانية الراهنة وانعكاساتها السالبة على متخذي القرار ولاسيما القطاع الخاص، الا ان الاوضاع الاقتصادية وصناعة قرارات السوق وعموم المستثمرين امامهم درجة مستقرة من درجات اليقين ولو بالحد الادنى وهي ناجمة عن حالة الاقتصاد الكلي الواعد وامكاناته الكبير وفوائضه المالية المرتفعة المعدة للتنمية مستقبلا وهو الامر الذي يساعد في تضييق حالات الضبابية والتقليل من المخاطر التي تواجه المبادرات الاستثمارية الراهنة وعموم القرارات الاقتصادية باستمرار، ولاسيما تلك القرارات التي تمتد اثارها الواعدة الى المستقبل.

وعليه لابد للسياسة الاقتصادية من تحريك الاستثمارات الحكومية بالسرعة والكفاءة المطلوبة التي يوفرها قانون الادارة المالية للمشاريع الاستثمارية المستمرة وكذلك القانون الطارئ للأمن الغذائي والتنمية فيما يخص تحريك المشاريع المتوقفة والتي يتصدى اليها القانون الجديد، حيث ان القانونين الماليين يشكلان بلا ريب صمام الامان في تنشيط الدورة الاقتصادية ويمنحان في الوقت نفسه قوى السوق (بكونها الشريك الاساسي في التنمية) اطارا تفاعليا مهما اكثر واقعية في رسم التوقعات المستقرة وضمان نجاح الاستثمارات وفرص التشغيل المقبلة قبل ان يشرع قانون للموازنة العامة يحمل الشق الاستثماري فيها مستقبل للتنمية الاقتصادية بشكل اكثر وضوحاً.

ب -اعادة تنظيم ادارة التنمية الاقتصادية

يبقى المعيار الاساس والرئيس الذي تعتمده الحكومة في رسم السياسة الاقتصادية (خارج الدورات السياسية) ولاسيما ذات المساس بالتنمية الاقتصادية هي خطة التنمية الخمسية، وهي الاداة والمرتسم الذي يؤشر غايات جوهرية في مقدمتها رفاهية الشعب وتوفير فرص العمل له، ليتم تمويلها على وفق استراتيجية الموازنة السنوية واهدافها الكمية التي تمتد تقديراتها لثلاث سنوات بالاقل وتجدد سنويا بشكل متواصل مع آليات اعداد الموازنة العامة الاتحادية السنوية وتشريعها.

اذ تقسم المشاريع الاستثمارية قطاعياً على وفق معايير جوهرية اهمها مقدار مساهمتها في النمو الاقتصادي السنوي الذي تؤشره خطة التنمية وحسب اولوية المشروع الاستثماري في تحقيق التنوع الاقتصادي والتكامل القطاعي وقدرته في تشغيل الطاقات البشرية والامكانات والموارد المحلية الاخرى المختلفة وضروراتها الانسانية دون اغفال جغرافيتها التي ينبغي ان تمس أكثر المناطق حرماناً في البلاد.

وبناء على ما تقدم، فان الشق التمويلي والمهم من الموازنة العامة السنوية (بعد الموازنة التشغيلية) هو الانفاق الاستثماري السنوي الحكومي وسبل تمويله، اذ تفرد سنويا نسبة لا تقل عن ٢٠٪ من اجمالي الانفاق العام المخطط لتمويل الاستثمارات الحكومية، ناهيك عن النشاط الاستثماري الذي يتولاه القطاع الخاص والذي تؤشره خطة التنمية الخمسية من بين مؤشراتها والذي يؤخذ حيز لا يقل في الاستثمار السنوي في بعض القطاعات عن ٣٥٪ ويصل الى اكثر من ٥٠٪ في قطاع السكن على سبيل المثال ذلك من اجمالي الاستثمار الكلي السنوي المستهدف في البلاد.

وبالرغم من ذلك فان البلاد مازالت بأمس الحاجة الى: ((مجلس اقتصادي دائم للإعمار والبنى التحتية)) يمتلك الصلاحيات التنفيذية لتنفيذ المشاريع الاستراتيجية العابرة للمحافظات كمشاريع الزراعة والنقل الكبرى والمياه والطاقة والاسكان والتشييد والاقتصاد الرقمي والتي جميعها تسرع في درجة التنويع الاقتصادي والانتقال الى عصر انمائي متقدم وبشكل يعجل في الرفاهية الاقتصادية، فضلاً عن دور المجلس المذكور في متابعة استدامة التمويل والتنفيذ لتلك المشاريع حسب التوقيتات وبأولوية دون تعثر او تأجيل ويكون تحت يد المجلس صندوق سيادي للثروة موجه نحو الاستثمارات الحقيقية الداخلية المعظمة للناتج المحلي الاجمالي والمشغلة لقوة العمل، منوهين ان الوسيط العمري median للسكان في بلادنا اليوم هو بنحو ٢٠ عام، وستبلغ نسبة الشباب في تركيب السكان عام ٢٠٣٧ قرابة ٦٠٪، كما ان قوة العمل البالغة اليوم ١٠ ملايين عامل ستتضاعف خلال عقد من الزمن، وان بلادنا هي واحدة من الامم الشابة في العالم التي تستحق استدامة التنمية الانسانية و الاقتصادية فيها لامحالة.

* باحث وكاتب اقتصادي أكاديمي، مستشار رئيس الوزراء العراقي للشؤن المالية
المقال نشر في شبكة الاقتصاديين العراقيين

اضف تعليق