في خضمّ ظلام الحيرة، وضجيج الأفكار، ومكر الأهواء، تبقى آيات القرآن الكريم وكلمات المعصومين ومجالسهم، وتعاليمهم، هي النُّور الذي لا يخبو، وهي السِّراج الذي لا ينطفئ، لمن أراد أن يخرج من متاهات الضَّلال إلى سعة الهدى، ومن ضيق النَّفس إلى رحابة الرُّوح. لكن المشكلة أنَّ كثيرًا من النَّاس...
في هذا العصر الذي تضجُّ فيه الأصوات وتتشابك فيه الاتِّجاهات، ويجد فيه الكثيرون أنفسهم في حيرةٍ بين معالم الحقِّ وأهواء الباطل، تزداد الحاجة إلى أن نفتح قلوبنا على نسيم الوحي، ونستنير بهدي القرآن الكريم، ونقتبس من أنوار الرَّسول الأعظم محمَّد وآله الطَّاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين). إنَّها العودة التي تمنحنا الطَّمأنينة، وتعيد ثقتنا بالقيادة الربَّانيَّة التي ما تركت الإنسان وحيدًا في متاهات الحياة.
فالتيه الذي يعيشه أبناء هذا الزَّمان لا يصدر عن الجهل وحده؛ وإنَّما عن الغفلة عن منابع النُّور الإلهي، والإعراض عن أولياء الله (سبحانه) الذين جعلهم مشاعل هداية وسفن نجاة. كما يتجلَّى هذا التَّيه في الابتعاد عن الامتداد العملي لنهجهم في عصر الغيبة، المتمثِّل في المرجعيَّة الرشيدة التي أوكل الله (تعالى) إليها حفظ الشَّريعة وتوجيه الأمَّة.
ومن هنا، يصبح لزامًا أن نعيد ضبط البوصلة على الاتِّجاه الصحيح، فنتمسك بالقرآن العظيم، ونعرف حجج الله (سبحانه) على خلقه، ونضع المعصوم (عليه السلام) في مقامه الذي جعله الله (تبارك وتعالى) فيه، ونوالي من أُمرنا بموالاتهم، ونعادي من أُمرنا بمعاداتهم. وبذلك نتحرر من هيمنة الفكر المستبد، لنصغي إلى صوت الحقيقة بقلوب مطمئنة وعزيمة راسخة.
في هذه الصَّفحات، سنبحر معًا في معالم الهداية وسط أمواج التَّيه، فنقف عند الفوارق بين المعصوم وغيره، ونتأمَّل في معنى الموالاة والبراءة، ونكشف أثر الاستبداد الفكري، ونستضيء بمكانة الصَّلاة، ونرتوي من بركة مجالس الذِّكر، ثمَّ نتأمَّل في دور المرجعيَّة بوصفها صوتًا أصيلًا في زمن الضَّوضاء، وراية هدى تلوح في ليل الفتن.
النَّافذة الأولى: القرآنُ الكريم نور لا يُطفأ.
حين تتلاطم أمواج الفوضى الفكريَّة ويعتري الإنسان تيه لا يُحتمل، يظلُّ القرآن الكريم مرسىً آمنًا، ومنبعًا صافيًا لا تعرف مياهه الجفاف. هو ذلك الكتاب الذي لا ينفد نوره، ولا تخفت شعاعاته، نصٌ يتجاوز الزَّمان والمكان، ليحمل بين طيَّاته هديًا لا ينقضي، وطمأنينةً لا تتبدد.
لكن أين ينحني المرء ليستقي من هذا النَّبع؟
كيف يفتح أبواب فهمه التي لا حدود لها، من دون أن يضل في زوايا التَّأويل والخلاف؟
إنَّ الطَّريق إلى فهم القرآن الكريم لا يكتمل إلَّا بمرجعيَّة تعلو على الأهواء، وتصحح المسار بين الغث والسَّمين، وبين الحقِّ والزَّلل.
القرآن الكريم الذي يحمل الأمان من التَّيه ليس مجرَّد كلمات تردّدها الألسن؛ بل هو ما يُحكَم تفسيره وتُفتَح أسراره عبر أهل البيت (عليهم السلام)، الذين هما ورثة العلم والحكمة، وحرَّاس الفهم العميق، أوَّلهم المرتضى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وآخرهم مهدي آل محمَّد (عليهم السلام).
من يلتزم بهم يُمسك بحبل النَّجاة، ومن يبتعد عنهم يغرق في بحر التَّأويلات التي لا تنتهي. فبهم يكتمل الوعي، وبهم يحيا القرآن الكريم حقًا في القلب والوجدان.
قال الله (عزَّ وجلَّ) في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (1).
وحين يُقال: إنَّ التَّفسير والتَّأويل منحصر بأهل البيت (عليهم السلام)، فإنَّ المقصود هو أنَّهم الأصل الأوثق في بيان معاني القرآن الكريم، والمنهج الأصدق في فهم دلالاته. وكل من سار على نهجهم (عليهم السلام)، إنَّما يستقي من هديهم ويسترشد بما أسَّسوه من قواعد راسخة في التَّفسير والبيان والتَّأويل.
النَّافذة الثَّانية: بين المعصوم (عليه السلام) وغير المعصوم.
من المهم أن ندركَ الفرق الجوهري بين المعصوم (صلوات الله عليه) وغير المعصوم؛ إذ المعصومون الذين اختارهم الله (تعالى)، هم من يحملون العلم الكامل والهداية التَّامة، وقد حفظهم (تبارك وتعالى) من الخطأ والزَّلل، وهم المصدر النَّقي للشَّرع والتَّشريع، ومساواة غير المعصوم بالمعصوم (عليه السلام) تعني المساواة بين من أختاره الله (تعالى) واصطفاه لحمل رسالة الدِّين وبين منْ قد يقترف الخطأ بطبيعته البشريَّة.
إنَّ الضَّرر النَّاتج عن هذه المساواة عظيم؛ لأنَّه ينتهي إلى تشويش المفاهيم، ويضع الحقائق الإلهيَّة في موضع الشَّك؛ قال الله (تعالى) في كتابه الكريم: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (2)، وهو دليل على خصوصيَّة المعصومين (عليهم السلام) في الطَّهارة والعصمة، وحين نضع المعصوم في مصاف غيره، فإنَّنا ننتقص من المقام الذي اختصهم الله (تعالى) به، ونمهّد لالتباس الأحكام فيختلط عليهم الحقُّ بالباطل.
إنَّ مساواة غير المعصوم بالمعصوم (عليه السلام) تقود إلى الأخطاء في الفكر والتَّطبيق؛ لأنَّ غير المعصوم قد يكون عرضة للتَّأويل الشَّخصي والهوى، بينما المعصوم (صلوات الله عليه) هو من يوحى إليه أو يتلقى العلم الإلهي بطريق يختلف فيه عن جميع الخلق؛ لذلك من الضَّروري أن نضع المعصومين (عليهم السلام) في مكانتهم الحقيقيَّة التي اختارها الله (تعالى) لهم، ونتبع ما جاء عنهم؛ لأنَّهم الحبل المتصل بالله (تبارك وتعالى)، وهم السِّراج المنير الذي يضيء لنا الطَّريق نحو الحقِّ.
عَنْ الإمَامِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: "نَحْنُ أَهْلَ اَلْبَيْتِ لاَ يُقَاسُ بِنَا أَحَدٌ فِينَا نَزَلَ اَلْقُرْآنُ وَفِينَا مَعْدِنُ اَلرِّسَالَةِ" (3).
وقال (عليه السلام): "لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) مِنْ هَذِه الأُمَّةِ أَحَدٌ، ولَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْه أَبَدًا، هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وعِمَادُ الْيَقِينِ، إِلَيْهِمْ يَفِيءُ الْغَالِي وبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي، ولَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ، وفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ والْوِرَاثَةُ" (4).
وقال (عليه السلام): "أَلاَ تَرَى -غَيْرَ مُخْبِر لَكَ، لكِنْ بِنِعْمَةِ اللهِ أُحَدِّثُ- أَنَّ قَوْمًا اسْتُشْهِدُوا في سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْمُهاجِرينَ، لِكُلٍّ فَضْلٌ، حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وَخَصَّهُ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلاَتِهِ عَلَيْهِ!
أَوَ لاَ تَرَى أَنَّ قَوْمًا قُطِّعَتْ أَيْديِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ -وَلِكُلّ فَضْلٌ- حَتَّى إذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا كمَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ، قِيلَ: الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَذُو الْجَنَاحَيْنِ!
وَلَوْ لاَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً، تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ.
فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِه الرَّمِيَّةُ، فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا، وَالنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا" (5).
النَّافذة الثَّالثة: الموالاة والمعاداة.
إنَّ الله (سبحانه وتعالى) قد أمرنا بالولاء لأوليائه والمعاداة لأعدائه، فهل لنا أن نجمع بين المحبَّة لهؤلاء والمعاداة لأؤلئك؟
إنَّ الحبَّ الصَّادق لأولياء الله (تعالى) لا يمكن أن يجتمع مع محبَّة أعداء الله (سبحانه)؛ لأنَّ من يعادي الله (تعالى) وأولياءه (عليهم السلام) يعادي القيم والمبادئ التي جاء بها الدِّين؛ قال الله (تعالى) في كتابه الكريم: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (6).
وما ذاك إلَّا لأنَّ المحبَّة الصَّادقة لأولياء الله (تعالى) هي التزامٌ عمليٌّ بمنهجهم، وسعيٌ للاقتداء بهم في الأخلاق والإيمان والعمل الصَّالح. ومن الطَّبيعي أن يقترن هذا الحبُّ بالموقف الصَّريح من أعدائهم؛ فمعاداة أعداء الله (تعالى) تعني رفض الظُّلم والفساد والانحراف عن شرعه، والبراءة من كلِّ من سعى في خلاف سبيله.
فأنت إذا أردت أن توالي الله (سبحانه) وتكون قريبًا منه، فعليك أن توالي من يواليه، وتعادي من يعاديه؛ لأنَّ الولاء والمعاداة هما من أسُس العقيدة الصَّحيحة، ومِعيار من معايير الإيمان الذي يتجسَّد في الموقف والاتِّباع والسُّلوك. فمن يوالي أعداء الله (تعالى) إنَّما يسلك طريقًا يخالف طريق الحقِّ، وتضيع منه فرصة القرب من ربِّه (سبحانه)؛ لذلك، اختر طريق الحقِّ، وكن على يقين بأنَّ الولاء لأولياء الله (سبحانه) هو السَّبيل إلى الفلاح في الدُّنيا والآخرة.
قيل للإمام الصَّادق (عليه السلام): "إنَّ فلانًا يواليكم إلَّا أنَّه يضعفُ عن البراءةِ من عدوِّكم، فقالَ: هيهات كذبَ من ادَّعى محبَّتنا ولم يتبرأْ من عدونِا" (7).
وعن أبي حمزة الثمالي قال: "قالَ أبو جَعفَرٍ (عليه السلام): يا أبا حَمزَةَ، إِنَّما يَعبُدُ اللّهَ مَن عَرَفَ اللّهَ، فَأَمّا مَن لا يَعرِفُ اللّهَ كَأَنَّما يَعبُدُ غَيرَهُ هكَذا ضالًّا. قُلتُ: أصلَحَكَ اللّهُ، وما مَعرِفَةُ اللّهِ؟
قالَ: يُصَدِّقُ اللّهَ ويُصَدِّقُ مُحَمَّدا رَسولَ اللّهِ (صلَّى الله عليه وآله) في مُوالاةِ عَلِيٍّ وَالائتِمامِ بِهِ، وبِأَئِمَّةِ الهُدى مِن بَعدِهِ، وَالبَراءَةِ إِلَى اللّهِ مِن عَدُوِّهُم، وكَذلِكَ عِرفانُ اللّهِ" (8).
النَّافذة الرَّابعة: الامتداد النَّابض لخطِّ المعصوم (عليه السلام).
في غيبة الإمام المعصوم (عليه السلام)، لم يُترك النَّاس بلا راعٍ، ولا تُرك الدِّين نهبًا للاجتهادات الشَّاردة والأهواء المتقلِّبة؛ وإنَّما أقام الله (عزَّ وجلَّ) في هذه الأمَّة من يُرشد إليها، ويحفظ شريعتها، ويصون دماءها، ويقيم حجَّته بها، وهم مراجع الدِّين، الذين نذروا أعمارهم لحفظ الشَّريعة، والذَّبِّ عن حياضها، والسَّهر على مصالح الأمَّة. وأقرب وصف لها أنَّها الامتداد النَّابض لخطِّ المعصوم (صلوات الله عليه)، وهي الحصن الذي يأوي إليه المؤمنون حين تشتدُّ العواصف، ويضطرب الزَّمان.
في زمن التيه، تتكاثر الأصوات المتطاولة على المقدَّسات، وتُشوّه معاني الطَّاعة والاتباع، فتصبح المرجعيَّة العالمة والعادلة، هي الملاذ الذي يُعيد ترتيب الأولويات، ويضيء درب الحائرين.
إنَّ طاعة المرجعيَّة انقياد للحقِّ الذي ورثوه عن الأئمة الطَّاهرين (عليهم السلام)، والتفاف حول القيادة التي تمثِّل العقل الواعي للأمَّة. وقد بيَّن أهل البيت (عليهم السلام) هذا الدَّور العظيم في كلماتهم الواضحة؛ فعن الإمام الصَّادق (عليه السلام): "فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، صَائِنًا لِنَفْسِهِ، حَافِظًا لِدِينِهِ، مُخَالِفًا لِهَوَاهُ، مُطِيعًا لأَمْرِ مَوْلاهُ، فَلِلْعَوَامِ أَنْ يُقَلِّدُوهُ"(9).
وفي هذا دلالة صريحة على أنَّ النَّاس ليسوا مخيَّرين في أخذ دينهم من كلِّ أحد؛ وإنَّما من الفقيه الورع، المتقي، العالم، القادر على استنباط الحكم من منابعه، الممسك بوعي المرحلة، والمتسلِّح ببصيرة تكشف مسالك الفتنة وتضيء دروب الهداية. وبهذه الشَّرائط ستكون هي الضَّمان لبقاء النَّهضة على المسار الصَّحيح.
فلا يخدعنّك من يسعى إلى تشويه صورة المرجع، أو التَّغطيَّة على مكانته، فإنَّ مقامه أرفع من أن تنال منه الأوهام أو تحجبه الشُّبهات، فإنَّ من لا مرجعيَّة له، ستتخطفه الأهواء، وتتلاعب به الألسن الفارغة، ويضيع في سراب الجهل بلا نور.
في زمن التَّزييف، كن قريبًا من المرجعيَّة، فإنَّها بصيرتك حين تعمى العيون، وهي يد المعصوم (عليه السلام) وإن غاب وجهه.
النَّافذة الخامسة: إلى أصحاب الفكر المستبد.
منح الله (عزَّ وجلَّ) العقول لنفكِّر بها بحريَّة ونتأمَّل في خلقه، كما دعانا إلى الحوار والتَّفاهم لا إلى القمع والاستبداد؛ والفكر المستبد يقتل روحَ الإبداع ويكبل العقولَ عن البحث والنِّقاش. وهو عائق أمام التَّقدُّم والنَّجاح؛ قال الله (تعالى): (فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (10)؛ فهذه الآية الكريمة تدلُّ على قيمة الحوار وتعدد الآراء، وأنَّ الحكمة في اتِّباع الأحسن، لا في فرض الرَّأي الواحد.
إنَّ الاستبداد بالفكر هو علامة ودليل على الضَّعف والخوف من النِّقاش، بخلاف الأفكار الحقيقيَّة والمفيدة التي تصمد أمام النَّقد وتزدهر في بيئة من الانفتاح والتَّفاعل.
لا بدَّ أن يعلم المستبد حينما يفرض رأيه على الآخرين ويمنعهم من التَّفكير بحرية، فإنَّه يعزل نفسه عن التَّطور ويحرم المجتمع من التَّقدُّم، والتَّاريخ مليء بالأمثلة عن المجتمعات التي تأخَّرت وسقطت بسبب الاستبداد الفكري، وفي المقابل، فإنَّ الحضارات التي ازدهرت هي التي احتضنت التَّعدديَّة الفكريَّة، وفتحت أبوابها للنقاش والحوار.
فلنتأمل قليلًا في أساليبنا ونسلط الضَّوء على أهميَّة الحريَّة الفكريَّة في تأسيس مجتمع مزدهر؛ فالعقول المنفتحة هي القادرة على تشكيل مستقبل أفضل للجميع، والآراء المتنوعة تساهم في إضاءة الطَّريق نحو الحقيقة.
قال الله (تعالى): (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (11).
وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): "لا تستبد برأيكَ فمن استبدَ برأيهِ هلَكَ"(12).
النَّافذة السَّادسة: إقامة الصَّلاة.
الصَّلاة هي فرصة للقرب من ربِّنا الرَّحيم (سبحانه وتعالى)، وهي رجوع إلى الله (جلَّ جلاله) في كلِّ يوم، واستجابة لندائه الذي يدعونا فيه إلى الطَّمأنينة والنُّور.
إنَّ الله (تعالى) يغفر لكلِّ من تاب إليه بصدق، ويفرح بعودة عبده التَّائب فرحًا لا يشبهه شيءٌ؛ فعن أبي عبيدة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: "إنَّ اللَّهَ تعالى أشَدُّ فَرَحًا بتوبةِ عبدِهِ مِن رجُلٍ أضَلَّ راحِلَتَهُ وزادَهُ في ليلةٍ ظَلْماءَ فوجَدَها، فاللَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بتَوبَةِ عبدِهِ مِن ذلكَ الرّجُلِ براحِلَتِهِ حِينَ وجَدَها" (13)، فإذا كانت التَّوبة تُدخل هذا الفرح على ربِّ العالمين، فكيف بمن يعود إليه خمس مرَّاتٍ في اليوم، بقلبٍ خاشع، ونفسٍ منكسرة، ولسانٍ يلهج بالتَّسبيح والدُّعاء؟ أليس هو أحقُّ بأن يُفتح له باب القرب والمغفرة والنُّور؟
تأمَّل كم من النِّعم يغدقها الله (تعالى) عليك في كلِّ لحظة: صحَّة، ورزق، وستر، وهداية... ألا يستحقّ هذا الكريم العظيم أن ترفع يديك إليه في كلِّ يوم، وتخصَّه بدقائق من وقتك تعبيرًا عن الامتنان، وطلبًا للقرب، وطلبًا للثبات؟
تخيَّل لو أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قرر أن يحرمك نعمة التَّنفس لثوانٍ فقط، كيف سيكون حالك؟
لذلك عد إلى صلاتكَ، وسترزق راحة وسعادة لا مثيل لها في الدُّنيا والآخرة؛ لأنَّها اتصال مباشر بينك وبين خالقك (تبارك وتعالى)، وهي سلاحك في الدُّنيا وشفيعتك في الآخرة.
لا تجعل الحياة تسرق منك هذه الفرصة العظيمة، وبعد ذلك ستقف بين يدي الله (تعالى) يوم القيامة ويسألك: لماذا تركت صلاتك؟
ماذا سيكون جوابك؟
تذكَّر أنَّ الحياة قصيرة، والموت يأتي بغتة؛ لذلك عُد إلى الله (سبحانه) قبل أن يُغلق باب التَّوبة، فهو ينتظرك ليغفر لك كلَّ ما فات؛ فإنَّ صلاتك هي نجاتك، فلا تضيعها.
ربما تشعر أنَّ الدُّنيا تستحوذ على وقتك، لكن تيقن أنَّ الصَّلاة هي التي تهدي النَّفس وتطهر القلب من الهموم والذُّنوب وتمنحك القوَّة لتواجه كلَّ صعوبات الحياة.
لا تجعل الشَّيطان يقنعك أنَّ الوقت تأخَّر أو أنَّ الله (تعالى) لن يقبل منك؛ فالله (عزَّ وجلَّ) يقول في القرآن الكريم: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (14). فباب التَّوبة مفتوح، والصَّلاة هي طريق العودة، فلا تؤخرها، فربما يكون اليوم هو اليوم الذي تقلب فيه حياتك إلى الأفضل بإذن الله (تبارك وتعالى). وإيَّاك أن تتهاون بصلاتك، وإلَّا ستبتلى بالكثير من المصاعب: رُوِيَ عَنْ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ فَاطِمَةَ ابْنَةِ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَعَلَى أَبِيهَا، وَعَلَى بَعْلِهَا، وَعلَى أَبْنَائِهَا الْأَوْصِيَاءِ)، أَنَّهَا سَأَلَتْ أَبَاهَا مُحَمَّدًا (صلَّى الله عليه وآله).
فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهْ، مَا لِمَنْ تَهَاوَنَ بِصَلَاتِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؟
قَالَ: "يَا فَاطِمَةُ، مَنْ تَهَاوَنَ بِصَلَاتِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً، سِتٌّ مِنْهَا فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَثَلَاثٌ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَثَلَاثٌ فِي قَبْرِهِ، وَثَلَاثٌ فِي الْقِيَامَةِ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ.
فَأَمَّا اللَّوَاتِي تُصِيبُهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا:
فَالْأُولَى: يَرْفَعُ اللَّهُ الْبَرَكَةَ مِنْ عُمُرِهِ.
وَيَرْفَعُ اللَّهُ الْبَرَكَةَ مِنْ رِزْقِهِ.
وَيَمْحُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سِيمَاءَ الصَّالِحِينَ مِنْ وَجْهِهِ.
وَكُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ.
وَلَا يَرْتَفِعُ دُعَاؤُهُ إِلَى السَّمَاءِ.
وَالسَّادِسَةُ: لَيْسَ لَهُ حَظٌّ فِي دُعَاءِ الصَّالِحِينَ.
وَأَمَّا اللَّوَاتِي تُصِيبُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ:
فَأُولَاهُنَّ: أَنَّهُ يَمُوتُ ذَلِيلًا.
وَالثَّانِيَةُ: يَمُوتُ جَائِعًا.
وَالثَّالِثَةُ: يَمُوتُ عَطْشَانًا، فَلَوْ سُقِيَ مِنْ أَنْهَارِ الدُّنْيَا لَمْ يَرْوَ عَطَشُهُ.
وَأَمَّا اللَّوَاتِي تُصِيبُهُ فِي قَبْرِهِ:
فَأُولَاهُنَّ: يُوَكِّلُ اللَّهُ بِهِ مَلَكاً يُزْعِجُهُ فِي قَبْرِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ.
وَالثَّالِثَةُ: تَكُونُ الظُّلْمَةُ فِي قَبْرِهِ.
وَأَمَّا اللَّوَاتِي تُصِيبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ:
فَأُولَاهُنَّ: أَنْ يُوَكِّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا يَسْحَبُهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَالْخَلَائِقُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِيَةُ: يُحَاسَبُ حِسَابًا شَدِيدًا.
وَالثَّالِثَةُ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَلَا يُزَكِّيهِ، وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (15).
النَّافذة السَّابعة: مجالس الخير.
هل تعلم أنَّ في كلِّ كلمةٍ تُنطق في مجالس أهل البيت (عليهم السلام) شفاءٌ للنُّفوس؟
إنَّها دواءٌ لكلِّ داء، وراحةٌ لكلِّ قلبٍ حزين؛ فهي مجالس أنوار، تُحيي الأرواح وتطهِّر القلوب وتُقرِّب العبد من ربِّه (سبحانه).
تخيَّل أنَّك تجلس في مجلس يُذكر فيه الرَّسول الأعظم محمَّد وآل محمَّد (صلوات الله عليهم)، وتُتلى فيه أحاديثهم، وتُروى فيه سيرتهم، وتُستعرض فيه مواقفهم، أليس ذلك موضعًا تنزل فيه الرَّحمة، وتحفّه الملائكة، ويُذكر فيه اسمك في السَّماء؟
في زحمة الحياة؛ حيث تتراكم الهموم وتضيع الأولويات، تأتي مجالس أهل البيت (عليهم السلام) لتعيد ترتيب القلب، وتضعنا مجددًا على الصِّراط المستقيم، وتُذكِّرنا من نحن، وأين نحن، وإلى أين نسير؛ فهذه المجالس هي الهويَّة التي لا تندثر، والنَّبض الذي يبقينا أحياء في زمن التيه؛ حين تغيب المعايير وتخفت الأصوات الصَّادقة.
فهل فكَّرت يومًا أن تكون جزءًا من هذا النُّور؟
وهل تدري كم من القلوب تغيَّرت، وكم من الأرواح هُدِيت، وكم من الدُّموع غسلت ذنوبًا ثقيلة، في مجلسٍ ذُكر فيه الحبيب المصطفى محمدٌ وآله الطَّيبين (صلوات الله عليهم)؟
إنَّ بركة هذه المجالس بالإضافة إلى أثرها على النَّفس والرُّوح، هي موردٌ لغفران الذُّنوب، وسببٌ لمغفرة عظيمةٍ من الله (تعالى)، كما عبَّر الإمام الصَّادق (عليه السلام) عن ذلك حين قال: "إِنَّ تِلْكَ الْمَجَالِسَ أُحِبُّهَا فَأَحِبُّوا أَمْرَنَا إِنَّهُ مَنْ ذَكَرَنَا وَذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِثْلُ جَنَاحِ الذُّبَابَةِ غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ" (16).
لذا، لا تخسر هذه النِّعمة، ولا تتهاون في حضور مجالسهم (عليهم السلام)؛ فإنَّها سفينة النَّجاة، وبوَّابة الفرج؛ ففيها نتزوَّد بالقوَّة، ونجد أنفسنا، ونتعلَّم كيف نعيش، وكيف نموت، وكيف نلقى الله (تبارك وتعالى) على بصيرة.
كن شريكًا في هذا الخير، ولا تدع مجلسًا يمضي من دون أن تترك فيه بصمة، أو تظفر منه بقبس من نور يهديك طريق الجنَّة.
وإذا فتحت هذه النوافذ، ونظرت بعين البصيرة، ستنكشف لك حقيقة جليَّة لا يشوبها شك:
في خضمّ ظلام الحيرة، وضجيج الأفكار، ومكر الأهواء، تبقى آيات القرآن الكريم وكلمات المعصومين (عليهم السلام)، ومجالسهم، وتعاليمهم، هي النُّور الذي لا يخبو، وهي السِّراج الذي لا ينطفئ، لمن أراد أن يخرج من متاهات الضَّلال إلى سعة الهدى، ومن ضيق النَّفس إلى رحابة الرُّوح.
لكن المشكلة أنَّ كثيرًا من النَّاس اليوم غابت عنهم هذه البصيرة؛ ففي زمنٍ تُسوّى فيه المقامات، وتُنسى الحدود، ويُقدَّم غير المعصوم على المعصوم (عليه السلام)، تصبح الحاجة ماسَّة إلى التَّذكير بالحقِّ الخالص، وتحصين النُّفوس من التَّهاون في الصَّلاة، والاستسلام لاستبداد الرَّأي والتَّشويش الفكري.
فليكن لنا وقفة صادقة مع هذه المعالم التي عرضناها، وقفة تأمُّل لا قراءة عابرة، وقفة مراجعة لا تكرارًا مألوفًا، وقفة عودة إلى الذَّات وإلى الله (تعالى)، نبحث فيها عن الصِّدق مع الله (سبحانه) ورسوله (صلَّى الله عليه وآله) وأوليائه (عليهم السلام)، ونُعيد ترتيب أولوياتنا في هذا العالم الذي يمضي سريعًا.
اضف تعليق