إن تحقيق هذا التوازن ليس باليسير، فهو يتطلب وعيًا عميقًا بذاتنا وباحتياجات مجتمعنا، كما يستدعي شجاعة أخلاقية لمواجهة نوازع الأنانية من جهة، ورفض الذوبان الكلي في الجماعة من جهة أخرى. إن القادة والمصلحين الذين ذُكروا في المقال هم خير دليل على أن العزلة...

صورة الانسان تتجلى في محوريته في الوجود بين ان يعيش الانسان الفردية بكل ما تحمل، وبين ان يعيش مع مجتمعه ويشارك الاخرين، فالانسان إنسان بشكله الفردي وتعاطيه الجماعي، حيث الفردية تتجلى بحبه لذاته واظهار تمايزه عن غيره وتعنونه بعناوين يحتاجها في مسيرته الفردية ليرضي غروره ويلبي طموحاته وسعيه الحثيث لتحقيق كل المكتسبات وتطوير المنجزات وتمكين ذاته من الاستحواذ على كل شيء، عندها لا يكون همه الا تحقيق الانا باعلى مراتبها واجلى صورها.

وفي الطرف الاخر نجد من يعيش الجماعية من خلال الاسرة، كالزوجة والاولاد، وكذلك الاصدقاء وشركائه في الحياة، فهنا تبرز العقلانية والقدرة على تحقيق المطلبين بين الفردية وما تحمل وبين الجماعية بكل معطياتها، فهل يستطيع ان يذوب في الجماعة؟ أم يكون مستقلا؟ أو يعيش التردد والتذبذب؟ أم يحاول ويصارع ان يكون وسطيا، ويتمكن من تحقيق رغبات النفس ورغبات المجتمع؟ هل يمكنه ان يكون فردا ويسعى إلى تحقيق ذاته وان يكون جزء من مجتمع يساهم في بناء حضاري؟ هل يملك القدرة على التفكير ثم العمل وفق منظومة معرفية رصينة تضمن حقوقه وحقوق مجتمعه؟ انه الصراع في عالم الوجود بين الانا والانخراط مع الاخر.

وظائف الانسان متعددة قد ترتبط به كفرد تارة، وتارة اخرى مع المجتمع، والذي هو جزء مهم واساسي فيه. انها قناة تحتاج إلى بذل الجهد وفيها العناء، ان الفردية كما هي مذمومة، فكذلك هي ممدوحة، ولكن لكل مرحلة ظروفها وحيثياتها، عندما يعجز الانسان عن ايجاد شركاء له، يتوجه إلى العزلة بكل ما فيها من الم وحسرات، يعيش القيود والانكسار، ويستشعر الغربة وان كان في وسط الملايين من الناس.

ومثل هكذا انسان يحتاج إلى الشجاعة والقوة والصلابة في مواجهة التحديات بكل ما يملك، لكي لا يسقط في امتحان الحياة، فالكثير من القادة والمصلحين لم يجدوا لهم شركاء، فعاشوا العزلة، لكن العزلة بجانبها الايجابي، فكانوا مثال للتعامل وفق مفهوم المدارات والصبر والعمل الحثيث، ولم يستسلموا او يضعفوا، بخلاف غيرهم الذي سقط في اول اختبار، وعاش الكآبة والبؤس والتشرد والضياع، وقد ينهي وجوده. 

وفي المقابل من يعيش مع شركائه ويتعاطون معه، وهو كذلك يواجه المشكلات معهم ويساهم في حلها وتجاوزها، بل يمكنهم ان يؤسسوا لبناء امة متراصة ومتكاتفة، لذا لا بد من تحقيق القدر المتيقن من الوسطية بين هذا وذاك، وهو امر قد يكون صعبا، ولكنه ممكنا، وان خلافة الانسان تتطلب ان يكون اجتماعيا يعيش مع الاخر، ويسعى لذلك قدر الامكان. ان هذا في زماننا اليوم صعب وعسير، والله المستعان.

إن الصراع الأزلي بين الفردية والجماعية الذي يشهده الإنسان في كل عصر ومصر، يزداد تعقيدًا في زمننا الراهن الذي تتسارع فيه وتيرة التغيرات وتتداخل فيه المصالح. فبينما تدفعنا طبيعتنا البشرية لتحقيق ذواتنا وتطلعاتنا الشخصية، فإن غريزة الانتماء والتعاون مع الآخرين تظل محركًا أساسيًا لبقائنا وتطورنا. إن التحدي الحقيقي يكمن في إيجاد تلك النقطة المحورية، ذلك التوازن الخلاق الذي يسمح للفرد بالازدهار ضمن نسيج المجتمع، وأن يكون مساهمًا فعالًا في بناء الحضارة الإنسانية.

إن تحقيق هذا التوازن ليس باليسير، فهو يتطلب وعيًا عميقًا بذاتنا وباحتياجات مجتمعنا، كما يستدعي شجاعة أخلاقية لمواجهة نوازع الأنانية من جهة، ورفض الذوبان الكلي في الجماعة من جهة أخرى. إن القادة والمصلحين الذين ذُكروا في المقال هم خير دليل على أن العزلة، وإن كانت مؤلمة في ظاهرها، قد تكون محطة لتكوين الذات وتجلي العبقرية، شريطة أن تُوجّه نحو خدمة الهدف الأسمى، لا الانكفاء الذاتي.

وعلى الجانب الآخر، فإن القدرة على التعاون والتكاتف هي المحرك الأساسي لأي تقدم مجتمعي حقيقي. فالأمم لا تنهض إلا بتضافر جهود أفرادها، وتضحية كل منهم بجزء من "الأنا" في سبيل "النحن". لذا، فإن مسعى الإنسان المعاصر نحو بناء مجتمعات متراصة ومتكافلة يتطلب منا جميعًا إعمال العقل، والتفكير في منظومة متكاملة تضمن حقوق الفرد وتحافظ على كيان الجماعة. إنها دعوة للتأمل في جوهر إنسانيتنا، والبحث عن تلك الوصفة السحرية التي تمكننا من أن نكون أفرادًا فريدين ومميزين، وفي ذات الوقت، جزءًا لا يتجزأ من كيان أكبر وأكثر شمولية. إن المستقبل يتوقف على مدى قدرتنا على تحقيق هذا التوازن، وتجاوز ثنائية "الأنا والآخر" نحو مفهوم أشمل يضمن ازدهار الجميع.

اضف تعليق