q
إنها مشكلة أمضّ وأمرّ من مشكلة التطرّف الناتجة من تصور البعض بالأفضلية والتفوق متعكزاً على أدلة وبراهين يراه صحيحة في الفكر والعقيدة، بينما التعصّب؛ تطرّف من دون أدلة ولا براهين، مع الاعتماد على أدوات ليست من صنف الحوار والمنطق والقيم...

((كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً))

إنها مشكلة أمضّ وأمرّ من مشكلة التطرّف الناتجة من تصور البعض بالأفضلية والتفوق متعكزاً على أدلة وبراهين يراه صحيحة في الفكر والعقيدة، بينما التعصّب؛ تطرّف من دون أدلة ولا براهين، مع الاعتماد على أدوات ليست من صنف الحوار والمنطق والقيم، كما كان منهج المشركين في مكة في التعامل مع رسالة خاتم الانبياء والمرسلين، فقد كانوا متعصبين للقبيلة والاعراف، بل وحتى للجهل نفسه حتى النخاع دفاعاً عن عبادة الأصنام، ولم يكونوا يسمحوا بأي معارضة او تغيير تحت تهديد السلاح كما فعلوا مع النبي والمؤمنين، وحتى مع ظهور الدولة الاسلامية تحت راية رسول الله، فانهم لم يتخلّوا عن تعصّبهم الجاهلي، فظهرت في سلوكهم وسياساتهم في حالات وأزمان متعددة كانوا حينها يمثلون رموزاً للدولة الاسلامية، فتركوا بصمات "فتنوية" ما نزال نلاحظ آثارها حتى اليوم، ليس أقلّها؛ العنصرية، والقومية، وعبادة الذات.

أما بالنسبة لنا في الوقت الحاضر، يبدو القضية معكوسة، فقد ابتلي البعض بهذا التعصّب لفكره، او قوميته، او حتى لشخص ما يعده رمزاً ملهماً، فراح يمجّد ويروج من خلال إلغاء الآخرين وتسقيطهم معنوياً، وعندما تحول هذا البعض الى السلطة حاملاً معه هذا الداء الوبيل، راح يسقّط من يخالفه مادياً وجسدياً!

غريبة هذه العاقبة والنتيجة لعمل يبدو صغيراً يصدر من شخص نصفه بالمنغلق على نفسه، لا يرى سوى نفسه، ثم لا يجد للآخرين حقاً بالوجود سواه!

(كُلاًّ نُمِدُّ) سنّة إلهية جميلة

هذه القاعدة الوجودية في الحياة (السنّة) طالما أثارت إعجاب المفكرين والفلاسفة والعلماء حول العالم، فهي تداعب الفطرة السليمة، وتحاكي المنطق والعقل الداعي لأن تكون الحياة للجميع على ظهر هذا الكوكب، بيد أن البعض ولأسباب مختلفة يعجز، او يرفض تفهّم هذه السنة الإلهية رغم إنها لا تلحق به ضرراً رغم تعصبه لما يراه صحيحاً، فالماء والهواء وأشعة الشمس، والنمو، والتناسل، كلها متاحة للجميع بعيداً عما يكونوا عليه من تعصّب، او تسامح، او حتى كفر او جحود، ولعل في هذه السنّة تحديداً ثمة درساً بليغاً لنا بخطل التعصّب بالأساس، وان على الانسان أن يتعلم العيش مع الآخرين والانفتاح عليهم كما يهطل ماء المطر النقي والجميل على البساتين، و يروي الحقول، ويطمئن البشر من هاجس الجفاف. وهو نفسه يهطل ايضاً على المستنقعات الآسنة والأرض السبخة، إنما الانسان هنا محظيٌّ بالإرادة والعقل والقدرة على فعل اشياء كثيرة دون سائر الكائنات الحيّة، ولذا نجد طريقة استثمار مياه الامطار –في إطار هذا المثل البسيط- تتفاوت بين شعب وآخر، وبين بلد وآخر، في التقنيات والاساليب والاهداف.

هذه الحقيقة الرائعة إن لم نتفهمها فنحن نخسر كل الحقائق المكتشفة في الحياة من قبل الآخرين، بما يعني أن التعصّب لما نحن فيه يتسبب في خسارة فادحة في الفكر والثقافة والعلم والمعرفة، "فكما أننا نفكر وننتج فكراً، كذلك يفعل الآخرون، فهم يفكرون وينتجون، وكما نتوصل الى حقائق علمية واجتماعية، كذلك يفعل الآخرون، أما اذا تعصبنا ونظرنا الى الآخرين نظرة غير موضوعية، فسوف نحرم انفسنا من الانتاج المعرفي والعلمي الصادر من الآخرين". (محاضرات ثقافية- السيد جعفر الشيرازي).

المشكلة عند الآخرين فقط!

طالما بحث علماء الأخلاق عقدة الأنا في مجال السلوك الفردي، أما عندما يكون الأمر لدى جماعة من الافراد، او مؤسسة، او تيار، او حتى مؤسسات حاكمة ذات قدرات مالية وسياسية هائلة، فان الأمر سيكون أخطر بكثير في انعكاساته ومآلاته على الناس أجمعين.

هذه العقدة لا تسمح لصاحبها بمناقشة نفسه، فما الحاجة الى ذلك ما دام هو الأفضل والأكمل؟! واذا كانت ثمة مشاكل في الساحة فهي تعود الى آخرين؛ افراداً او جماعات، وعندما يبتعد عن الحلول الصحيحة للمشاكل والازمات، بينه وبين نفسه، او بينه وبين الآخرين من خلال دعوات للحوار والتشاور والتفاهم، فانه يستلّ ما في جعبته من قدرات و امكانيات لضرب المخالفين، وهذه الضربات تكون موجعة أكثر ليس للمخالفين فقط، وإنما للكيان العام للدين والمذهب، اذا ما كان صاحبها في السلطة متعكزاً على الشرعية، و المال، والسلاح.

ومن نافلة القول ما نستذكره من أيام النضال في بلاد المهجر، وكيف أن شخصاً من تيار معين طالب شخصاً آخر بإنزال صور رمز يكنّ له كراهية شديدة خلال تظاهرة جماهيرية للمهجرين العراقيين تنديداً بجرائم صدام، وكلاهما في وضع مماثل من الناحية القانونية والاجتماعية في ذلك البلد، إلا إن التعصّب الأعمى يدفع صاحبه للقول: "ان هذا العمل ممنوع"! فقد تحول فجأة وبشكل غريب لا يُصدق الى شرطي يطبق قانون ذلك البلد دون أن يخوله أحد، مع علمه بانه انسان مشرّد ولاجئ يبحث عن مأوى مثل سائر العراقيين!

هذا الانسان اذا أجده اليوم في أي مكان بالمؤسسة الحاكمة، هل استغرب اتخاذه قراراً قمعياً ضد مخالفيه او معارضيه؟

لقد سمعنا ما هو أمضّ من القمع والتسقيط، فقد راح البعض يلوّح بـ "بإراقة الدماء في الشوارع" إن لم يتحقق هذا أو ذاك، أو إن لم أكن أنا في هذا الموقع أو ذاك! و اذا كنتم تحبون الأمان والاستقرار؛ اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وأمنياً، ما عليكم إلا أن تبصمون على ورقة الولاء والصمت!

لو كنا نسمع ونقرأ هذه الاحاديث قبل ثلاثين او اربعين سنة لما كنّا نصدقها مطلقاً، بيد أن معطيات اليوم باتت تؤكد امكانية وقوع كوارث كهذه بسبب تشبّث البعض بالحالة العصبية والانغلاق التام على فكره ومنهجه دون الآخرين، فهو يعجز عن حل المشكلة، وإن كانت ممكنة في بلد مثل العراق بإمكاناته وقدراته، ثم "يضيف عليها مشكلة أخرى بأن يعرض السلم الأهلي الى خطر كبير".

اضف تعليق