هل يعقل أن يكون لجماعة "الخدمة" بزعامة فتح الله غولن، كل هذا النفوذ في المؤسستين العسكرية – الأمنية والقضائية التركية؟... وكيف أمكن لجماعة دينية، هي أقرب لمنطق "الإخوان المسلمين" ومناهج عملهم وتفكيرهم، وهي الشقيقة التوأم للعدالة والتنمية، أن تُسقط قلاع العلمانية – الأتاتوركية الشرسة من داخلها على النحو الذي تصوره الرئاسة والحكومة التركيتين؟

وهل يعقل أن يكون عشرات ألوف الموظفين المدنيين والمدرسين والأكاديميين والسفراء والإعلاميين، متورطون بالمحاولة الانقلابية الفاشلة؟... كيف أمكن للسلطات التركية، أن تربط كل هؤلاء، دفعة واحدة، وبجرة قلم، بالمؤامرة الانقلابية الفاشلة؟... ما الأدوار التي قاموا بها، وكيف أمكن كشفها، وكيف تصدر الأحكام وتنفذ العقوبات بحقهم، حتى من دون أن يتقدم أي منهم إلى المحاكمة، وقبل أن تتشكل لجنة التحقيق بملابسات المشروع الانقلابي؟

الوقائع التركية التي أعقبت الخامس عشر من تموز/يوليو، تشير إلى أن السيد رجب طيب أردوغان، ومعه قبضة من أركان "حكومة الظل" في تركيا، المكونة من أقرب وأخلص المستشارين والمريدين والأتباع، أرادوا ضرب عصفورين بحجر واحد: الأول، ضرب منافسه الأشرس، وحليفه الأسبق، فتح الله غولن، في إطار الصراع بين أجنحة الحركة الإسلامية التركية المعاصرة، وهذا ما يفسر إغلاق مدارسه وجامعاته ومؤسساته الإعلامية والاجتماعية، وكل "الكوادر" التي عملت معه، والذين يعرفهم حزب العدالة والتنمية جيداً، فهم "إخوة الخندق الواحد" حتى الأمس القريب.

والثاني، ضرب قلاع العلمانية – الأتارتوركية واقتلاعها من جذورها، وذلك في إطار الصراع "الهوياتي" الذي لم تنج منه تركيا، ولم تنجح في اجتيازه منذ انهيار "السلطنة" وسقوط "الخلافة"، وتأسيس الجمهورية الكمالية.... وهذا ما يفسر الانقضاض على الجيش، وإخراج أكثر من ثلث جنرالاته من الخدمة وحملة المناقلات والتنقلات، وإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والعسكرية، وإنشاء كيانات عسكرية وأمنية موازية على أساس الولاء للحزب والزعيم، وضرب القضاء والمحكمة الدستورية التي ظلت بدورها أحد أهم حصون العلمانية التركية.

ومن يقرأ لائحة المستهدفين بالإجراءات الأخيرة، يجد أنها متناقضة للغاية، ولا يجمع أفرادها بعضهم إلى بعض، أي جامع من أي نوع، سوى "التهمة الجاهزة": الضلوع في مؤامرة الكيان الموازي.... جنرالات أتاتوركيون، قضاة كماليون، رجال دين ومدرسين وإعلاميين إسلاميين، نشطاء "الخدمة" وكوادرها، رجال أعمال لطالما مولوا حملات أردوغان الانتخابية إبّان "شهر العسل" الذي جمعه بفتح الله غولن... خليط غريب عجيب من "المتآمرين"، لا يلتقون على شيء إلا على كونهم "معارضين" لتوجهات "الزعيم".

هي لحظة "تاريخية" بامتياز، لطالما انتظرها السيد أردوغان بفارغ الصبر، وقد جاءته على "طبق الانقلاب الفضي"، والمؤكد أنه سيغتنمها حتى آخر قطرة، لتكريس زعامته، وتصفية خصومه، و"فك وتركيب" الدولة التركية الحديثة، والقضاء على المنافسين، وتجفيف البنى التحتية لهم، سواء أكانوا إسلاميين من طرازه وشاكلته، أو علمانيين، لطالما ناصبهم وناصبوه أشد فصول العداوة والصراع... وسيمارس الرئيس كل "صلاحيات الطوارئ" التي منحها لنفسها، لاستكمال هذه الأجندة، ولن تكون تركيا بعد الطوارئ وحملة "الفك والتركيب"، كما كانت عليه قبلها.

مستفيداً من حالة الاستنفار الشعبي المعادية للانقلاب، ومن التفاف المعارضة حول الحزب الحاكم دفاعاً عن تركيا وتجربتها الديمقراطية، سيعمل أردوغان على "تقويض" القاعدة المؤسسية والشعبية لحزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، آخر القلاع الحزبية والاجتماعية للأتاتوركية، تحت طائلة الاتهام بـ "دعم الإرهاب أو التعاطف معه"... مثلما عمل على تقويض حزب الشعوب الديمقراطي برفع الحصانة عن معظم نوابه، توطئة لتقديمهم للمحاكم، بحجة دعم الإرهاب الكردي هذه المرة، ومثلما فعل بخصومه داخل "التيار الإسلامي التركي"، ودائماً بذريعة "الإرهاب ذاتها... كل من يعارض أردوغان، هو إرهابي بدرجة ما، ومن نوع ما.

ولأن الرجل يعرف ماذا فعل بتركيا وما الذي سيفعله في قادمات الأيام، ويدرك تمام الإدراك، أن مشروعه بإعادة صياغة تركيا على صورته ومقاسه، سيصطدم باعتراضات وانتقادات دولية قادمة لا محالة، فقد أخذ يمهد منذ الآن، لإعادة "تموضع" تركيا على الخريطة الإقليمية والدولية... فتح النار على الغرب من دون استثناء، وكال له الاتهامات بالجملة والمفرق، ولوّح بالانسحاب من مفاوضات "عضوية الاتحاد الأوروبي" وجمّد بعض الاتفاقات المبرمة مع بروكسيل، وهدد الولايات المتحدة بإغلاق صفحة "التحالف الاستراتيجي"... والمؤكد أن سيسعى في توثيق علاقاته مع روسيا، التي لا تكترث لمقولات حقوق الانسان والديمقراطية في علاقاتها الدولية، وسيوثق علاقاته أكثر من إسرائيل التي تفضل التعامل مع الدكتاتوريات على الديمقراطيات في منطقتنا، وسيتقارب أكثر مع إيران وربما على نحو غير مسبوق، وليس مستبعداً أن يُحدث استدارة في سياسته وتحالفاته السورية، وقد يكون اجتماع الحادي عشر من آب/أغسطس الجاري مع سيد الكرملين، نقطة تحوّل في وجهة السياسة الخارجية التركية.

عشرُ سنوات سمان، عاشتها تركيا تحت قيادة "العدالة والتنمية" ورجب طيب أردوغان، ستتبعها عشرٌ عجاف، قضت تركيا خمساً منها حتى الآن في فوضى الأزمة السورية والحرب الأهلية في جنوب شرق الأناضول و"العشق الحرام" مع "داعش" و"صفر أصدقاء"، ولا ندري ما الذي ينتظر البلاد في السنوات الخمس القادمة، وكيف سيكون حالها وصورتها عندما تحتفل في العام 2023 بالمئوية الأولى للجمهورية.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق