تشكل فكرة إنشاء غرفة زجاجية في ساحة التحرير، ودخول بعض المشاهير إليها لحث الجمهور على التبرع لشراء الكراسي الطبية لذوي الإعاقة ودعم مرضى السرطان، واحدة من أكثر المبادرات إثارة للجدل في العراق مؤخراً. فعلى الرغم من أن الهدف المعلن هو هدف إنساني، إلا أن طريقة الطرح تكشف خللاً واضحاً...
تشكل فكرة إنشاء غرفة زجاجية في ساحة التحرير، ودخول بعض المشاهير إليها لحث الجمهور على التبرع لشراء الكراسي الطبية لذوي الإعاقة ودعم مرضى السرطان، واحدة من أكثر المبادرات إثارة للجدل في العراق مؤخراً. فعلى الرغم من أن الهدف المعلن هو هدف إنساني، إلا أن طريقة الطرح تكشف خللاً واضحاً في فهم طبيعة المجتمع العراقي وفي طبيعة العمل الخيري نفسه. فالمبادرات الإنسانية لا ينبغي أن تتحول إلى عروض ترفيهية أو أحداث جماهيرية تُبنى على الإثارة، بل إلى مشاريع رصينة تحترم خصوصية المريض وكرامة المحتاج.
العراقيون بطبعهم معتادون على التكافل الاجتماعي الحقيقي، القائم على البساطة والنية الخالصة بعيداً عن الأضواء. وحتى في أشد الأزمات، لم يفقد العراقي حسّه الإنساني أو قدرته على العطاء. لذلك فإن إدخال المشاهير إلى غرفة زجاجية ووضعهم في مشهد أقرب إلى البرامج الترفيهية منه إلى العمل الخيري، يخلق انطباعاً بأن الغاية ليست جمع التبرعات فحسب، بل تعزيز الحضور الإعلامي للمشاركين أو خلق ضجة مفتعلة تثير اهتمام الجمهور. وهذا المنهج لا يتوافق مع منظومة القيم العراقية، التي ترى أن مساعدة المحتاج واجب وليس استعراضاً.
كما أن تحويل ساحات عامة مثل ساحة التحرير التي تحمل رمزاً وطنياً وثورياً كبيراً إلى منصة لمبادرات تحمل طابعاً دعائياً، يعكس سوء تقدير في اختيار المكان والوسيلة. فهذه الساحة هي رمز لكرامة الناس وصوتهم، لا مسرحاً لنشاطات يمكن أن تُفسّر بأنها استغلال لعاطفة الجمهور أو لعب على وتر معاناته. فقد يساهم هذا النوع من المشاهد في فتح الباب لمبادرات أكثر غرابة في المستقبل، وربما أقل احتراماً لهيبة المكان وحساسية الوضع الإنساني.
والأهم من ذلك أن ظهور مثل هذه المبادرات يكشف عجز الدولة عن القيام بواجباتها الأساسية. فالكراسي الطبية لذوي الإعاقة ليست رفاهية، ولا يجوز أن تُموّل عبر مبادرات فردية أو غرف زجاجية أو مشاهير. هي حق أصيل للمواطن، والدولة ملزمة بتوفيره. وكذلك الحال مع مرضى السرطان الذين يعانون ما يكفي من الألم دون أن يُضاف إليه شعورهم بأن علاجهم بات يعتمد على مبادرات موسمية.
إن الاعتماد المتزايد على الحملات الشعبية لسدّ نقص الخدمات يمثل مؤشراً خطيراً على ضعف المؤسسات الرسمية وتراجع دورها في توفير أبسط مقومات الحياة الكريمة.
ورغم أن نوايا بعض القائمين على المبادرة قد تكون صادقة، إلا أن الوسيلة المختارة تُظهر خللاً في الوعي بحدود العمل الإنساني، وبالقيم الاجتماعية التي ينتمي إليها العراقيون. فالتبرع فعل يقوم على الإيمان بأهمية العطاء، وليس على مراقبة شخصية مشهورة تجلس خلف زجاج بانتظار أن يُثار الجمهور للتبرع. هذا النوع من الأساليب قد ينجح إعلامياً، لكنه يخسر الكثير من رصانته واحترامه عند الجمهور.
ختاما إن العمل الإنساني الحقيقي يحتاج إلى شفافية ومؤسسات ومبادرات ناضجة، لا إلى مشاهد مُصممة للكاميرا. وما لم تُراجع الجهات المنظمة للمبادرة أسلوبها ورسالتها، وما لم تعترف الدولة بتقصيرها في توفير احتياجات المواطنين، فإن مثل هذه المشاريع قد تتحول إلى نمط متكرر يخلط بين الإنسانية والاستعراض، ويمسّ بصورة غير مباشرة كرامة المحتاجين ووعي الجمهور.



اضف تعليق