يمكن للمفوضية أن تطلق منصة إلكترونية موحّدة خاصة بالانتخابات، تضمّ ملفات رقمية لكل مرشح، تتضمن فيديو تعريفياً مسجّلاً بجودة عالية يقدّم فيه المرشح سيرته وأبرز ملامح برنامجه، وقسماً للبرامج الانتخابية مكتوبة بلغة واضحة ومقسّمة بحسب المحاور، ومساحة للتفاعل المباشر من خلال جلسات أسئلة وأجوبة تبث مباشرة عبر الإنترنت...
لا تزال الحملات الانتخابية في العراق، منذ 2003 وحتى اليوم، متمسكةً بوسائل تقليدية تكاد تكون نسخة مكررة في كل دورة انتخابية: صور ضخمة معلّقة على أعمدة الكهرباء وجدران الأبنية، جولات ميدانية تحمل وعوداً فضفاضة، وكرنفالات شعارات لا تكاد تختلف إلا بالألوان والأسماء. هذه الممارسات التي تكلّف مبالغ طائلة من المال العام والخاص، لم تعد قادرة على إقناع الناخب بجدّية المرشح أو صدق برنامجه، بل تحوّلت إلى عبء بصري وتشويش فكري، يثير السخرية أكثر مما يثير الثقة.
في زمن الإنترنت والذكاء الاصطناعي، تبدو هذه الأساليب وكأنها تعيش خارج التاريخ. فالعالم اليوم يقود حملاته الانتخابية عبر المنصات الرقمية، ويخاطب جمهوره بطرق مبتكرة، تعتمد على التفاعل المباشر، والبيانات الموثقة، والبرامج المرئية التي تضع الناخب أمام صورة واقعية لما سيقدّمه المرشح في حال فوزه. ومن هنا يمكن أن يكون المقترح الأجدر للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات هو الانتقال من مرحلة "اللافتات الورقية" إلى مرحلة "المنصات الرقمية الذكية". أي أن تتبنّى المفوضية سياسة جديدة تُلزم المرشحين باستثمار التكنولوجيا كوسيلة للتواصل مع الناخب، بدل إغراق المدن بالصور والملصقات التي تُهدر المال وتشوّه الذوق العام.
يمكن للمفوضية أن تطلق منصة إلكترونية موحّدة خاصة بالانتخابات، تضمّ ملفات رقمية لكل مرشح، تتضمن فيديو تعريفياً مسجّلاً بجودة عالية يقدّم فيه المرشح سيرته وأبرز ملامح برنامجه، وقسماً للبرامج الانتخابية مكتوبة بلغة واضحة ومقسّمة بحسب المحاور، ومساحة للتفاعل المباشر من خلال جلسات أسئلة وأجوبة تبث مباشرة عبر الإنترنت، حيث يطرح المواطن أسئلته ويحصل على رد حي من المرشح. كما يمكن أن يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتلخيص البرامج الطويلة بلغة مبسطة، أو لمقارنة وعود المرشحين بشكل شفاف، مما يمكّن الناخب من تكوين صورة دقيقة بعيداً عن الدعاية العاطفية.
هذه المنصة ستكون أشبه بقاعة انتخابية رقمية مفتوحة للجميع، تصل إلى المدن والأرياف على حد سواء، وتكسر احتكار الصورة النمطية التي تعتمد على الحشود أو الولاءات الضيقة. وبهذا الشكل ستوفّر العديد من المزايا؛ فهي أولاً أقل تكلفة، إذ يمكن للمرشح أن يستثمر ماله في محتوى رقمي باقٍ بدلاً من صور تُرمى بعد الانتخابات. وثانياً أكثر عدالة، لأن المنصة تمنح الفرصة نفسها للجميع، فلا يعود حجم الصورة أو عدد اللافتات معياراً، بل مضمون البرنامج وقدرته على الإقناع. وثالثاً أكثر تأثيراً، إذ أن الناخب المعاصر، خصوصاً الشباب، لم يعد يقف أمام لافتة ليقرأ، بل يفتح هاتفه ليشاهد أو يتفاعل مع محتوى سريع ومباشر. وأخيراً أكثر شفافية، فبيانات المرشحين يمكن أن تخضع للمراجعة والتوثيق بما يمنع تضخيم الإنجازات أو إطلاق وعود غير قابلة للتطبيق.
وحين يُلغى سباق الصور والملصقات ويُستبدل بسباق العقول والأفكار، ستتغيّر معادلة الانتخابات في العراق. لن يكون الناخب مضطراً للاختيار بناءً على اسم العشيرة أو حجم اللافتة، بل بناءً على ما يراه ويسمعه ويفهمه. وحينها سيصبح الطريق ممهداً لبروز وجوه جديدة تمتلك رؤية حقيقية، لا وجوهاً تقيس نجاحها بعدد الصور الموزعة في الشوارع. إن إدخال الإنترنت والذكاء الاصطناعي في العملية الانتخابية ليس رفاهية ولا تقليداً للغرب، بل هو ضرورة تفرضها التحولات الاجتماعية في العراق نفسه. فنصف الشعب تقريباً من فئة الشباب، وهذه الفئة تعيش يومياً في فضاء رقمي واسع، وترى العالم بأسره عبر شاشة صغيرة. فكيف يمكن إقناعها بلافتة ورقية في شارع مزدحم بينما يمكن أن نخاطبها بلغتها على منصاتها؟
لقد آن الأوان أن تدرك المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أن الديمقراطية لا تُقاس بعدد الصور ولا حجم المواكب، بل بمدى قدرة الناخب على فهم البرامج واتخاذ قراره عن وعي. وبدل أن نُبقي شوارعنا أسيرة اللافتات المعلقة في موسم انتخابي قصير، لنجعل فضاءنا الرقمي حاضناً لثقافة انتخابية رصينة، تستفيد من الذكاء الاصطناعي وتفتح أفقاً جديداً للممارسة الديمقراطية في العراق. إننا في زمن لا يرحم التقليد ولا يحتمل التكرار؛ زمن يفرض علينا أن نرتقي بالعملية الانتخابية لتصبح أكثر شفافية، وأقرب إلى المواطن، وأقدر على بناء ثقة حقيقية بين المرشح والناخب.
الانتخابات المقبلة يجب أن تكون على الشاشة… لا على الجدران.



اضف تعليق