لتكن التجربة الجديدة في رفع عدد الناخبين ومضاعفتهم هي الثورة الحقيقية التي تقلب الحالة وتغير موازينها! فقد يرى المحلل السياسي بضرورة تغيير القانون الإنتخابي من طوعي اختياري إلى الزامي اجباري من أجل تخطي ظاهرة مقاطعة الإنتخابات وما يتبعها من خلل يؤثر على روح الديمقراطية وعلى مساراتها ومن أجل...
هل أسهمت تجارب مقاطعة الانتخابات بصنع التغيير أم انها عززت الاستبداد؟ وهل بالإمكان استثمار الانتخابات العراقية القادمة لتغيير الخارطة السياسية مع وجود نظام سانت ليغو المعدل؟
إحجام الناخب العراقي عن التصويت في الانتخابات البرلمانية العامة بشكل متتالي ومتكرر له دلالات ومعاني لا يغفل المراقب للأوضاع حيثياتها.
أبرز الدواعي والأسباب التي حجمت الكثيرين عن التوجه للتصويت في صناديق الاقتراع هي خيبات الأمل المنبعثة من عدم القناعة والرضا في أداء المسؤول السياسي العراقي. لا يتوقع الناخب في كثير من الأحيان بأن من رشحه للمسؤولية السياسية ينفذ واجباته المنوطة به بشكل مرضي أو يوفى بما وعد به في حملاته الإنتخابية بالشكل المطلوب وكما ينبغي. في غالب الأحيان تكون وعود المرشح السياسي الإنتخابية قبل تسنمه السلطة لا تنسجم مع أدائه الحقيقي ولا تفي بسداد ما يتأمله الناخب ويطمح له.
تراكم التجارب بهذا النحو ولد احباطا تراكميا لدى الكثيرين من أبناء المجتمع العراقي وربما خلق حالة من الرفض للعملية السياسية برمتها وبعث تساؤلا مؤلما عن جدوى هذه العملية وعن الفائدة الحقيقية المرجوة منها!
رغم التفهم المعقول لردة فعل الناخب العراقي وتصرفه بمقاطعة صناديق الاقتراع، غير أن ردة الفعل هذه قد لا تبرر العزوف الكامل والمستمر عن المشاركة الفعلية في الإنتخابات والتخلي عن مسؤولية اختيار المرشح الصالح الذي يرتقي كشخص مناسب في المكان المناسب.
الإمتناع عن التصويت الإنتخابي له مردودات سلبية واضحة لا نستطيع غض البصر عنها، فهو يكرس سلطة من بيدهم السلطة ويعمق لهم أسس التشبث بهذه السلطة، وهذا يعني بقاء المعاناة واستمرار عدم الرضا، مما يخلق حالة عدم اليقين وعدم الاستقرار السياسي، بل يصنع حالة احتقان عاطفي نفسي لدى الناس قد يؤدي مع مرور الوقت إلى مضاعفات وردود أفعال لا تحمد عقباها.
الأحجام عن التصويت إذن لا يمكن أن يعتبر وسيلة خلاص ناجعة من ابتلاء بل هو نمط لابتلاء آخر وكما يقول المثل "كالمستجير من الرمضاء بالنار"، فهو استمرارية لحالة رفض مزمنة لا مخرج منها. الأسلوب الأصح والاصلح بالتفاعل أمام هذه الحالة هو إجراء "الفعل المعاكس"، وأعني المشاركة المجتمعية الساحقة في العملية الإنتخابية حيث يبادر كل من له حق انتخابي في المشاركة واعطاء صوته الإنتخابي لمن يراه صالحاً للمسؤولية وتبعاتها.
قد لا يتم تنفيذ هذا الواقع الجديد بطرق التوعية المعهودة وببث ثقافة الديمقراطية فقط للوصول إلى الهدف المرتقب وهو المشاركة الجماعية في الإنتخابات. إنما يتم ذلك حتماً بعد سن وتشريع قانون انتخابي يلزم كل مواطن مؤهل للتصويت أن يدلي بصوته الإنتخابي إجباريا لا طوعيا. يشرع القانون الانتخابي الإلزامي أو الإجباري بجعل الإنتخابات واجبة لا مستحبة، حيث يعاقب المتخلف عنها بعقوبات مادية أو إدارية مؤثرة أو بكليهما. هذا القانون الإنتخابي الإلزامي هو ليس حالة خاصة تخص حالة العراق فقط، إنما هو تشريع انتخابي تلتزم به كثير من الدول الأخرى مثل استراليا، الارجنتين، البرازيل، اليونان، تركيا، بلجيكا ولوكسمبورغ وغيرها.
نستطيع بهذا الصدد أن نتوقف على بعض العوامل والأسباب التي تستدعي تشريع قانون انتخابات برلمانية إلزامية في العراق والتي يمكن تلخيصها بما يلي:
أولا/ منع حالة احتكار السلطة: خروج الناخبين العراقيين لصناديق الاقتراع بالكم الأكبر والزخم الاعلى سوف يغلق باب احتكار السلطة بيد الأحزاب السياسية التقليدية التي قد تتربع على منصات إدارة البلد لفترة طويلة. هذه الممارسة قد تجلب الأمل في استبدال الوجوه وتغيير المسارات القديمة التي يرفضها الناخب ويتحفظ منها.
ثانيا/ تعزيز الثقة في العملية الديمقراطية: المشاركة الواسعة في الإنتخابات توطد الثقة في العملية الديمقراطية على النحو الخاص والعام. فهي تخلق قناعة شخصية بأن المرشح الصاعد في الإنتخابات هو حصيلة خيار شعبي حقيقي قررته أغلبية ناخبة وبطريقة ديمقراطية صحيحة أقرتها الجموع الزاحفة لصناديق الاقتراع. هذا الأمر يغلق أبواب التحجج وعدم القناعة في تقبل نتائج الإنتخابات سواء أكان ذلك على صعيد المجتمع العراقي نفسه أو على صعيد الجهات والدول التي تشكك بالخيار الديمقراطي العراقي.
ثالثاً/ بنية المجتمع العراقي: المجتمع العراقي موزائيك متباين في نسيجه والوانه واطيافه العرقية واللغوية والدينية والطائفية والثقافية وغيرها. هذه الحقيقة تحتم تشريع قانون انتخابي إجباري كي تحفظ حقوق الأقليات من أجل تمثيلها في منصات السلطة وخلق حالة من الإنصاف والمساواة في الحقوق والواجبات. المشاركة الإنتخابية الإلزامية تلغي أو على الأقل تخفف من أساليب التخويف أو الاستدراج لشرائح معينة من أبناء المجتمع خلال العملية الانتخابية، كما أنها ترسخ حق كل مواطن في الانتساب للوطن والمساهمة في بنائه وتدعيم أركانه.
رابعاً/ خلق إستقرار سياسي إجتماعي: تشريع قانون الانتخابات البرلمانية الإلزامية قد يزيد الفوارق في الأرقام والنسب في عدد الأصوات الممنوحة للمرشحين ويقلص التقارب بينها، مما يزيل بعض الاشكالات الناتجة عن التقارب في نسب الاصوات الممنوحة للمرشحين، وهذا ما قد يسمح بصناعة كتل انتخابية كبيرة تستطيع لوحدها التفرد في إدارة أمور الدولة دون اللجوء إلى تحالفات قد تتضارب معها بالاتجاه والرأي. فوق هذا وذاك فالزيادة الحاصلة في الكثافة الإنتخابية تمنح القناعة في التساوي الإجتماعي في إختيار المسؤول وتلغي إلى حد ما الشعور بالعزلة او الاستثنائية في الحركة الديمقراطية وحق تقرير المصير سواء أكان ذلك على الصعيد الشخصي أو على صعيد الشرائح الاجتماعية المتباينة.
خامساً/ الاستئناس بتجربة إصلاحية جديدة: جعل الإنتخابات إلزامية في العراق ستكون تجربة جديدة لها روادها بين المختصين وأهل الرأي والتجربة، وقد تأتي بفوائدها في حل الإشكالات التي تتعرض لها العملية الانتخابية في العراق. الناخب يسعى دائما لإصلاح مالم يتم إصلاحه بعد، من تردي الخدمات والفساد المالي والإداري وهشاشة البنية التحتية وخلو الشخص المناسب من المكان المناسب ومشكلة البطالة وغيرها. لتكن التجربة الجديدة في رفع عدد الناخبين ومضاعفتهم هي الثورة الحقيقية التي تقلب الحالة وتغير موازينها!
طبقا لما تبين أعلاه فقد يرى المحلل السياسي بضرورة تغيير القانون الإنتخابي من طوعي اختياري إلى الزامي اجباري من أجل تخطي ظاهرة مقاطعة الإنتخابات وما يتبعها من خلل يؤثر على روح الديمقراطية وعلى مساراتها ومن أجل إلا تسيطر طبقة محدودة من السياسيين لا تمثل الشعب كله على شؤون الشعب كله!.
اضف تعليق