تشكل التنمية السياسية المستدامة أحد الأعمدة الجوهرية لبناء الدول الحديثة، إذ لا يمكن الحديث عن استقرار طويل الأمد أو ازدهار شامل من دون وجود نظام سياسي راسخ ومرن في آنٍ واحد، قادر على مواكبة التحولات المجتمعية والاقتصادية والثقافية. وفي الحالة العراقية، تبرز الحاجة الملحّة لهذا النوع من التنمية...

تشكل التنمية السياسية المستدامة أحد الأعمدة الجوهرية لبناء الدول الحديثة، إذ لا يمكن الحديث عن استقرار طويل الأمد أو ازدهار شامل من دون وجود نظام سياسي راسخ ومرن في آنٍ واحد، قادر على مواكبة التحولات المجتمعية والاقتصادية والثقافية. وفي الحالة العراقية، تبرز الحاجة الملحّة لهذا النوع من التنمية بوصفها مدخلًا لإعادة تأسيس دولة حضارية حديثة تستند إلى قيم المواطنة، سيادة القانون، والعدالة الاجتماعية، بعيدًا عن دوائر الاستبداد أو الفوضى.

أولًا: مفهوم التنمية السياسية المستدامة

التنمية السياسية المستدامة هي عملية مستمرة تهدف إلى ترسيخ مؤسسات سياسية قوية، شرعية، ومرنة، تضمن المشاركة الشعبية والتعددية، وتتمتع بالقدرة على التكيف مع التغيرات. وهي لا تعني مجرد إصلاحات عابرة، بل بناء نسق متكامل يقوم على:

الشرعية السياسية المبنية على القبول الشعبي.

المأسسة التي تتجاوز الشخصنة والنزعات الفردية.

المشاركة الواسعة في صناعة القرار.

 سيادة القانون والشفافية.

 التفاعل مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ثانيًا: العراق والتحديات البنيوية

شهد العراق منذ 2003 تحولات سياسية كبرى نقلته من نظام شمولي مركزي إلى نظام تعددي يقوم على الدستور والانتخابات. غير أن هذه التحولات اصطدمت بعدة تحديات:

 1. الإرث التاريخي للاستبداد: والذي عطّل ثقافة المشاركة والحريات العامة.

 2. المحاصصة الطائفية والإثنية: التي أضعفت بناء مؤسسات وطنية موحدة.

 3. ضعف سيادة القانون: وانتشار الفساد الإداري والمالي.

 4. التدخلات الخارجية والإقليمية: التي قيدت استقلال القرار السياسي.

 5. الأزمات الاقتصادية والاجتماعية: والتي زادت من فجوة الثقة بين الدولة والمواطن.

ثالثًا: التنمية السياسية المستدامة كمدخل لبناء الدولة الحضارية الحديثة في العراق

من أجل تجاوز التحديات التي تواجه العراق، يمكن النظر إلى التنمية السياسية المستدامة بوصفها البوابة نحو الدولة الحضارية الحديثة، التي تتسم بالخصائص التالية:

1. دولة القيم العليا:

تقوم على دستور قيمي يتضمن اثنتي عشرة قيمة أساسية (الحرية، العدالة، المساواة، المسؤولية، الإتقان، التضامن، التعاون، الإيثار، التسامح، الثقة، السلام، الإبداع)، وهي حافة بعناصر المركب الحضاري الخمسة: الإنسان، الأرض، الزمن، العلم، العمل. إن هذه القيم تشكل الإطار الأخلاقي والروحي الذي يوجه السلوك الفردي والجماعي، ويضبط مسار الدولة في مواجهة الاستبداد والتخلف الح

 2. دولة المواطنة:

حيث تتراجع الولاءات الفرعية (الطائفية والعرقية والمناطقية) لصالح هوية وطنية جامعة تحتضن التنوع وتستثمره كقوة إيجابية.

 3. دولة المؤسسات:

تعمل بمنطق المأسسة لا الشخصنة، بحيث يكون القانون فوق الجميع، وتُدار السلطة عبر مؤسسات دستورية رشيدة وفاعلة.

 4. دولة المشاركة:

تُتيح للأحزاب، النقابات، منظمات المجتمع المدني، والشباب والنساء المشاركة الحقيقية في صناعة القرار السياسي.

 5. دولة العدالة والتنمية الشاملة:

تربط بين التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقق العدالة في توزيع الثروة والفرص والخدمات.

 6. دولة متجددة:

قادرة على التكيف مع التحولات المحلية والعالمية، 

رابعًا: خطوات عملية مقترحة للعراق

 1. إصلاح النظام الانتخابي: لضمان تمثيل حقيقي وشفاف بعيدًا عن هيمنة النخب التقليدية.

 2. تعزيز سيادة القانون: من خلال قضاء مستقل وإصلاح أجهزة الرقابة.

 3. تمكين الشباب والمرأة: كشرط أساسي لتحقيق المشاركة المجتمعية الفاعلة.

 4. مكافحة الفساد: بوضع آليات صارمة للشفافية والمساءلة.

 5. إعادة تعريف الهوية الوطنية: عبر المناهج التعليمية والخطاب الإعلامي الذي يعزز الانتماء للوطن لا للطائفة.

 6. تفعيل اللامركزية الإدارية: لتوزيع السلطات والموارد بشكل عادل بين المحافظات.

الخاتمة

إن العراق، بما يمتلكه من عمق حضاري وثروات بشرية ومادية، مؤهل ليكون نموذجًا في بناء الدولة الحضارية الحديثة إذا ما أُنجزت عملية التنمية السياسية المستدامة وفق رؤية استراتيجية متكاملة. فالمسألة لا تتعلق بمجرد انتخابات أو حكومات متعاقبة، بل ببناء نسق سياسي متجدد، شرعي، ومؤسسي، يعيد الثقة بين الدولة والمجتمع، ويضمن استقرارًا طويل الأمد يُمكّن العراق من استعادة موقعه الحضاري الرائد.

وتبتعد عن الجمود الذي يعرقل التطور.

اضف تعليق