الحاجة إلى تكريس مفهوم الانتخاب في الوعي الثقافي والاجتماعي العام، وضرورة أن يكون الانتخاب جزءاً من نسيجنا المجتمعي، بالشكل الذي يساهم في إعادة صياغة أطرنا ومؤسساتنا الاجتماعية على مبدأ الانتخاب الحر والمفتوح. والثقافة لها دور أساسي في ربط هذا المفهوم بالنسيج المجتمعي العام، وفي تقبل هذا المفهوم والتناغم معه...
مع حدث الانتخابات البلدية عندنا، ظهرت مقولة ثقافة الانتخاب أو ثقافة الانتخابات، المقولة التي لم يتوقف الحديث عنها، وتكررت ومازالت في العديد من المقالات التي تناولت ظاهرة الانتخابات.
ولعل المبرر الموضوعي في طرح هذه المقولة بهذا الاهتمام، وبهذه الكثافة، هو إننا أمام تجربة جديدة غير مألوفة لدينا على المستوى المجتمعي العام، فهذه هي تجربتنا الأولى مع الانتخابات، وهي تجربة الولادة الأولى. وهذا يعني إننا أمام تجربة لا نمتلك حولها خبرة كافية، ولا ندرك كامل خلفياتها وأبعادها وعلائقها. والأكثر أهمية في ذلك إننا نفتقد إلى التقاليد المتصلة بهذه الحالة، التقاليد التي يفترض أن تساهم في توجيه وترشيد وتهذيب هذه العملية، وفي الحفاظ على سيرها النظامي، وبطريقة شفافة.
ومن طبيعة التقاليد أنها لا تنشأ وتتشكل إلا مع التجارب، ومن خلال الممارسات والتطبيقات الحية والمستدامة، وبواسطة الاحتكاك المباشر على الأرض.
لهذا يمكن القول أن مقولة ثقافة الانتخاب نحن الذين نتحدث عنها، وهي من وحي باكورة تجربتنا الأولى، ونابعة من طبيعة مكونات بيئتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية. ولا أعلم فيما إذا كانت هذه المقولة قد طرحت من قبل، أو مازالت تطرح في المجتمعات التي سبقتنا منذ زمن ليس بقصير في التجربة الانتخابية، وبهذا النسق من الكثافة والاهتمام.
ولقد كنا بحاجة إلى هذه المقولة، وبهذا المستوى من الاهتمام، مع هذه التجربة، لكي تساهم هذه المقولة في تطوير رؤيتنا لهذه التجربة الانتخابية، وتفتح لنا مجال النقد الثقافي لتلك البنى النسقية الجامدة في المجتمع. ومنذ أن طرحت هذه المقولة لم أجد من يتحدث عنها، مع كثرة من تحدث عنها، في إطار صناعة المفهوم. بمعنى تحويل هذه المقولة من مجرد مقولة عامة وضبابية ومطلقة، إلى مقولة لها قوة المعنى والتماسك والتحديد، ولها صفة المفهوم الذي من خلاله نتعرف على فلسفة وحكمة المفهوم، وعلى ماهيته وهويته، وماذا نريد منه؟ وكيف نتعامل معه؟
فماذا نفهم من مقولة ثقافة الانتخاب؟
من طبيعة هذا النمط من المقولات المركبة، هو أنها تشير إلى التقابل في المعنى، والتبادل في التأثير. لأن المفاهيم الثنائية المركبة تشعر بالتقابل والتبادل، كما تشعر بالحاجة والافتقاد والنقص. وبناء على ذلك يتحدد المعنى في الكيفيات التالية:
1ـ بمعنى التعرف على تأثير الثقافة على الانتخاب، وتأثير الانتخاب على الثقافة.
2ـ التعامل مع ظاهرة الانتخاب من منظورات الثقافة، ودراستها من هذا البعد الثقافي.
3ـ النظر إلى ثقافة الانتخاب باعتبارها مقولة ثقافية واجتماعية.
وبإعمال المنطق التحليلي يمكن القول أن الثقافة تشير إلى الجانب الذاتي، والانتخاب يشير إلى الجانب الموضوعي. الثقافة تشير إلى الجانب الذهني، والانتخاب يشير إلى الجانب السلوكي. الثقافة تشير إلى الجانب الداخلي، والانتخاب يشير إلى الجانب الخارجي. الثقافة تشير إلى الجانب الثابت، والانتخاب يشير إلى الجانب المؤقت. الثقافة تشير إلى الجانب الأخلاقي، والانتخاب يشير إلى الجانب الاجتماعي. الثقافة تشير إلى جانب المحتوى، والانتخاب يشير إلى جانب الإطار. وبهذا التحليل يتحدد ما تشير إليه الثقافة في علاقتها بالانتخاب، وما يشير إليه الانتخاب في علاقته بالثقافة.
العلاقة بين الثقافة والانتخاب
بمنطق التركيب ما هو وجه العلاقة بين الثقافة والانتخاب؟ وماذا يمكن أن تعطي الثقافة؟ وماذا يمكن أن تأخذ؟ وما هو تأثير الثقافة على العملية الانتخابية؟ وتأثير العملية الانتخابية على الثقافة؟
الإجابة على هذه الأسئلة هي في صميم مكونات صناعة مفهوم ثقافة الانتخاب. وفي هذا النطاق يمكن الحديث عن الأبعاد والمكونات التالية:
أولاً: كيف نحفظ عملية الانتخاب من أن تكون مجرد مظاهر وأشكال وصور تفتقر إلى المعنى الحقيقي، والمضمون الثري، والمحتوى الفعال. لا أن تصبح مجرد ولائم وموائد لشبع البطون، أو مجرد إغراءات مادية، أو لكسب الوجاهة والثروة، أو غير ذلك من مظاهر وأشكال، والثقافة هنا تأتي لكي تعطي قوة المعنى، وأخلاقية المضمون، وجمالية المحتوى.
ثانياً: يقال عنا إننا كمجتمع ينبهر بالحدث الطارئ، وينفعل به، ويتحمس له في حدود وقته وزمنه. ومن ثم ترجع الأمور إلى سابق عهدها، وكأن شيئاً لم يحدث، ولم يترك أثراً وتأثيراً جوهرياً وحقيقياً يغير من حياتنا، ويطور من سلوكنا. والثقافة هنا تأتي لكي تعطي معنى التغيير والتطوير، وتربط هذا المعنى بظاهرة الانتخاب التي نتأمل منها أن تحدث قدراً مهماً من التغيير في ثقافة الناس، وفي أنماط السلوك الاجتماعي.
ثالثاً: الانتخاب ظاهرة تأتي وتمر، فهي مرتبطة بفترة زمنية محددة، فهل بنهايتها ينتهي كل شيء؟ وهنا تكمن أهمية وقيمة الثقافة في علاقتها بظاهرة الانتخاب. فمع نهاية العملية الانتخابية يأتي دور الثقافة لكي تحافظ على كل ذلك الزخم والنشاط والحيوية والفاعلية التي جاءت بها عملية الانتخاب ورافقتها. ومع الثقافة تبقى المعاني والدلالات.
رابعاً: نتطلع في أن تساهم هذه الانتخابات في تكوين نظرة جديدة من المجتمع إلى ذاته. النظرة التي يفترض أن تكون فاصلة بين مرحلتين، مرحلة ما قبل المشاركة الشعبية، ومرحلة ما بعد المشاركة الشعبية التي جاءت مع عملية الانتخابات البلدية. ومع هذه النظرة الجديدة نتأمل أن يحدث تحولاً في الوعي المجتمعي العام الذي يأخذ فيه المواطن دور الرقيب والمشارك في تحسين وتطوير الخدمات العامة، وبما ينعكس على الحس المسؤول في علاقة المجتمع مع بيئته ومدينته.
خامساً: نتأمل من الثقافة في أن تساهم في تهذيب العملية الانتخابية من خلال الالتزام بالمعايير الحضارية، والتي تتقدم فيها معايير الكفاءة والنزاهة وقيم الصلاح، وتتراجع فيها معايير القرابة والعائلة والعشيرة وغيرها من المعايير اللامدنية.
سادساً: إن الانتخابات تفرض وضعاً خاصاً يدفع في العادة نحو التنافس والتسابق، وقد يدفع نحو السجال والتحزب والتعبئة والتعبئة المضادة، كما يخلق احتكاكات، وأحيانا تصادمات. والحاجة إلى الثقافة هنا لكي نظهر بمظهر جمالي خلاق، ونلتزم بسلوك أخلاقي بديع، ونتقيد بمنطق القانون.
سابعاً: الحاجة إلى تكريس مفهوم الانتخاب في الوعي الثقافي والاجتماعي العام، وضرورة أن يكون الانتخاب جزءاً من نسيجنا المجتمعي، بالشكل الذي يساهم في إعادة صياغة أطرنا ومؤسساتنا الاجتماعية على مبدأ الانتخاب الحر والمفتوح. والثقافة لها دور أساسي في ربط هذا المفهوم بالنسيج المجتمعي العام، وفي تقبل هذا المفهوم والتناغم معه.
ثامناً: إن الثقافة تلعب دوراً أساسياً في تكوين الوعي الانتخابي من أجل فهم العملية الانتخابية، والالتزام بقوانينها، والتعامل معها بصورة صحيحة وسليمة.
بهذه الأبعاد والمكونات تتحدد صورة مفهوم ثقافة الانتخاب، ويتشكل جوهر هذا المفهوم، وبها نكتشف أهميته وقيمته.
اضف تعليق