عززت العديد من الدول الأوروبية من الإجراءات الأمنية بعد الهجمات التي استهدفت العاصمة الفرنسية باريس، التي أسفرت عن 130 قتيلا و352 جريحا. فقد قررت الحكومة النمساوية زيادة الإجراءات الأمنية في البلاد. وفرضت بلجيكا قيودا على الحدود مع فرنسا تشمل القدوم برا وجوا وعبر القطارات، وأعلنت السلطات الهولندية عن زيادة التدابير الأمنية في مراكز إيواء اللاجئين تحسبا لهجمات اليمين المتطرف على تلك المراكز.

وأكدت الحكومة البريطانية، أنها ستعين المزيد من الأفراد للعمل في أجهزة المخابرات، وقال رئيسها، ديفيد كاميرون، خلال قمة مجموعة العشرين "هذا كفاح أجيال يتطلب توفير مزيدا من القوة العاملة لمكافحة من سيدمروننا نحن وقيمنا"، وأعلن الرئيس الفرنسي "أولاند"، حالة الطوارئ في البلاد، لمدة ثلاثة أشهر، وإغلاق الحدود.

يمنح قانون الطوارئ الفرنسي، الشرطة صلاحيات استثنائية أثناء حالات الطوارئ، مثل حظر التجول كليًا أو جزئيًا. كما يتيح تفتيش المنازل والاعتقال دون إذن قضائي، فضلًا عن رقابة الحكومة على وسائل الإعلام، ومنع التجمعات ودور السينما وجميع الأماكن الترفيهية. وتوسيع نظام الإقامة الجبرية ليشمل أي شخص يعتبر تصرفه مشبوها ويمكن أن يشكل تهديدا للأمن والنظام العام. واحتمال فرض الإقامة الجبرية على أي شخص "تعتبر أنشطته خطيرة" على الأمن العام، وحل مجموعات وجمعيات متطرفة تشارك في أعمال تشكل مساسا خطيرا بالأمن العام وتسهلها أو تحرض عليها.

وفي كل الأحوال، ستترك هجمات باريس آثارا كبيرة على علاقات المواطنين الأوربيين بالخصوص المسلمين منهم، وعلى حرية التنقل بين الدول الأوروبية المكفولة باتفاقية شينغين، كما أنها ستعمق مشاعر انعدام الأمان في أوروبا، في ظل تزايد دعوات لإغلاق المساجد وأماكن العبادة ومحاربة المسلمين. فقد نشر موقع "فايس نيوز" البريطاني، مقطع فيديو لرجل مسلح يرتدي قناع "جوكر"، ويقسم على أن يقتل مسلمًا أسبوعيًا، على خلفية الحادث الإرهابي في فرنسا.

والسؤال هنا، ماذا يعني إعلان حالة الطوارئ في فرنسا والقيام بإجراءات أمنية مشددة في بقية دول أوربا؟ وما هي الآثار المترتبة عليها من ناحية السياسات والحقوق، بالخصوص حقوق الإنسان والحريات الشخصية؟ وإذا أعلنت حالة طوارئ أو حالة استثنائية أو أحكام عرفية في البلد، فما هي وسائل الانتصاف المتاحة؟.

تعرف حالة الطارئ بأنها "نظام استثنائي شرطي مبرر بفكرة الخطر المحيق بالكيان الوطني يسوغ اتخاذ تدبير أو تدابير قانونية مخصصة لحماية البلاد كلاً أو جزءاً ضد الأخطار الناجمة عن عدوان مسلح داخلي أو خارجي يمكن التوصل إلى إقامته بنقل صلاحيات السلطات المدنية إلى السلطات العسكرية".

وعادة ما تطبق الدول في حالات الأزمات، مثل "الحالة الاستثنائية" و"حالة الطوارئ" و"حالة التأهب" و"حالة الحصار" و"الأحكام العرفية" وما إلى ذلك، ما يُعرف بـ"قانون الطوارئ". وقانون الطوارئ هو قانون يأخذ في تشريعه مسار أي قانون آخر، ولكنه قانون معلق، ولا يصبح نافذاً إلا بمرسوم يعلن إطلاق الأحكام العرفية، أو ما يسمى حالة الطوارئ.

تحدد بعض الدساتير فترة زمنية محددة لفرض "حالة الطوارئ" التي لا ينبغي تجاوزها، كما تحدد الجهة المسؤولة عن إعلان حالة الطوارئ، والمساحة الجغرافية التي تشملها، حيث يمكن فرض حالة الطوارئ على البلاد كافة أو على جزء منها. والحالات التي يسمح بها إعلان حالة الطوارئ بشكل عام هي تلك الحالات التي تعرض سلامة وأمن البلد لمخاطر ناتجة عن كوارث طبيعية أو بشرية، وحالات الشغب والتمرد المدني، وحالات النزاع المسلح، سواءً كانت داخلية مثل الحرب الأهلية أو خارجية كالاعتداء على حدود الدولة.

والواقع الذي لا سبيل إلى نكرانه هو أن كثيرا من الدول تواجه في مرحلة ما حالات أزمـات خطيرة، مثل الحروب أو غيرها من ضروب القلاقل الاجتماعية الخطيرة، وأنها قد ترى من الضروري في تلك الحالات تقييد التمتع ببعض الحقوق والحريات، بل وربما تعليق التمتع بها جميعـا مـن أجـل استعادة السلام والنظام. وقد يسفر ذلك عن نتائج مفجعة ليس فقط للأشخاص المتضررين مـن القيـود المفروضة فحسب، بل وكذلك للسلام والعدالة عموما.

تجيز بعض معاهدات حقوق الإنسان الدولية الرئيسية للدول أن تعطل بعض التزاماتها المترتبة عليها بموجب تلك المعاهدات في حالات الأزمات الاستثنائية. ويمثل الحق في التعطيل أداة مرنة الغرض منها مساعدة الحكومات على التغلب على حالات الأزمات الاستثنائية.

تنص الفقرة (1) من المادة (4) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على ما يلي: في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسـميا، يجـوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ، في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافـاة هـذه التـدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها علـى تمييـز يكون مبرره الوحيد هو العـرق أو اللـون أو الجـنس أو اللغـة أو الـدين أو الأصـل الاجتماعي.

وتنص الفقرة (1) من المادة (15) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على ما يلي: في حالـة الحـرب أو الخطـر العـام الذي يهـدد حيـاة الأمـة، يجــوز لكــل طرف سـام متعاقـد أن يتخـذ تدابيـر تخالـف الالتزامات المنصـوص عليها في هذه الاتفاقيـة في أضـيق الحـدود التي يتطلبها الوضـع وبشــرط ألا تتناقــض هـذه التدابيـر مع بقيـة الالتزامات المنبثقـة عن القانون الدولي.

كما تنص المادة (30) من الميثاق الاجتماعي الأوروبي لعام ١٩٦١ على ما يلي: في حالة الحرب أو غيرها من حالات الطوارئ العامة التي تتهدد حياة الأمـة، يجــوز لكـل طرف سـام متعاقـد أن يتخـذ تدابيـر تخالـف الالتزامات المنصـوص عليها في هذا الميثاق في أضـيق الحـدود التي يتطلبها الوضـع وبشـرط أن لا تتناقــض هذه التدابيـر مع بقيـة الالتزامات المنبثقـة عن القانون الدولي.

ولكن هذا لا يعني أنه يجوز للدولة غير المتقيدة أن تتهرب من التزاماتها المترتبة عليها بموجب الاتفاقات والمعاهدات عمدا، بل هو حق تحكمه عدة شروط، مثل مبدأ الضرورة القصوى ومبدأ عدم جواز إهدار حقوق معينة، ومبدأ احترام القانونيين الوطني والدولي أثناء التطبيق.

بتعبير آخر، لابد ألا يسمح بتعطيل الالتزامات بحقوق الإنسان إلا في حالات الطوارئ الحقيقية التي تعد من الخطورة؛ بحيث تشكل فعلا خطرا يهدد حياة الأمة.. ويلزم عن ذلك أن مجرد نشـوء أزمـة لا يبرر تلقائيا إعلان حالة الطوارئ العامة وتعليق التزامات الدولة المترتبة عليها، وأن حالات من قبيل أعمال الشغب البسيطة أو الاضطرابات الداخلية لا تبـرر في حد ذاتها اللجوء إلى التعطيل.

كما لا يمكن لحالة الطوارئ وما يترتب عليها من فرض قيود على التمتع بحقوق الإنسان أن تظل سارية بشكل قانوني إلا لأقصر لمدة يتطلبها الوضع. وحالما لا يشكل الوضع تهديدا لحياة الأمة لابد من إنهاء التعطيل. وبعبارة أخرى، لا يمكن الإبقاء بشكل قانوني على حالات الطـوارئ وتعطيـل الالتزامات بحقوق الإنسان الدولية لمدة طويلة تصبح بعدها جزءا ثابتا أو شبه ثابت من النظام القـانوني الداخلي للبلد.

وبالتالي، فان إعلان حالة الطوارئ في فرنسا أو تشديد الإجراءات الأمنية في بقية دول أوربا تحسبا للإعمال الإرهابية ليس حقا مطلقا بل هو حق مقيد، بالآتي:

- يجب أن يحدد القانون الوطني بدقة الحالات التي يعلن فيها عن قيام حالة طوارئ، ويجب أن يقتصر على أضيق الحدود الزمانية والمكانية التي يتطلبها الوضع.

- يجب ألا ينجم عن التعطيل بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان أي آثار تمس جوهر الحقوق التي هي متأصلة في الشخص الإنساني. ولا يمكن للتعطيل إلا أن يضيق بشكل قانوني من الممارسة الكاملة والفعالة لتلك الحقوق.

- يجب ضمان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين في كل الأوقات ولا يجوز تعطيله بأي حال من الأحوال بمقتضى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان.

- يجب عدم تحديد حق الشخص في المجاهرة بدينه ومعتقداته إلا بأحكام التقييد العادية في وقت الحرب أو فيما عداها من حالات الطوارئ العامة.

- يجب على الدول في كل الأوقات أن توفر سبل انتصاف داخلية فعالة تتيح للضحايا المزعومين الدفاع عن حقوقهم أمام المحاكم الداخلية أو غيرها من السلطات المستقلة والمحايدة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق