كثيرًا ما نرى النقاشات – سواء في المجالس أو على صفحات التواصل – تتحول من حوار إلى صدام، ومن تبادل أفكار إلى تخوين وتجريح. والسبب في ذلك غالبًا هو الاعتقاد المسبق بأننا نملك “الحقيقة الكاملة”، وأن من يخالفنا فيها لا بد أن يكون جاهلًا أو مضللًا...

كثيرًا ما نرى النقاشات – سواء في المجالس أو على صفحات التواصل – تتحول من حوار إلى صدام، ومن تبادل أفكار إلى تخوين وتجريح. والسبب في ذلك غالبًا هو الاعتقاد المسبق بأننا نملك “الحقيقة الكاملة”، وأن من يخالفنا فيها لا بد أن يكون جاهلًا أو مضللًا.

لكن الحقيقة، في واقعها الإنساني، ليست قطعة واحدة صلبة، بل مرآة متعددة الأوجه، ولكل وجه منها من ينظر إليه من زاوية مختلفة. من هنا، علينا أن نُربّي أنفسنا ومجتمعاتنا على سَعة الصدر للرأي المختلف، لا لأننا نؤمن بنسبية الحق، بل لأن طلب الحقيقة يمر عبر التعدد، لا الإلغاء.

أولًا: الحقيقة بين المطلق والنسبي

في المفهوم الفلسفي والديني، هناك حقيقة مطلقة لا شك فيها، وهي عند الله، العليم المطلق.

أما نحن كبشر، فنملك فهمًا جزئيًا، محدودًا، متأثرًا بثقافتنا وتجاربنا ولغتنا.

إذن، من الطبيعي أن تختلف أفهامنا، وتتعدد قراءاتنا للواقع أو للنص، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن أحدها باطل بشكل مطلق.

يقول الإمام علي (ع) بما معناه: “إنما يُعرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال.”

أي إن الحق لا يُختزل في شخص أو فئة، بل يجب أن يُبحث عنه بتجرد ووعي نقدي.

ثانيًا: تقليب الوجوه لا يعني التباس الحق

عندما نقول إننا “نقلّب الوقائع على وجوهها المتعددة”، فنحن لا ندعو لنسبية الحقيقة أو نفي وجود الحقيقة، بل:

نعترف أن لكل قضية زوايا نظر متعددة.

نحاول فهم السياق الكامل بدلًا من الانغلاق على زاوية واحدة.

نتيح للعقل أن يتحرك، لا أن يتكلس.

الحكيم لا يُغلق باب التأمل حتى لو ظن أنه على صواب. فالحقيقة لا تُهدى لمن يغلق النوافذ.

ثالثًا: من يزعم امتلاك الحقيقة الكاملة… يتوقف عن التعلم

من أخطر ما يصيب الفكر هو ادعاء الاكتمال؛ فمتى ما ظن المرء أنه وصل إلى نهاية المعرفة، توقّف عن الاستماع، والانفتاح، والتطور.

في العلم، النظريات تُراجع وتتطور.

في الفقه، الاجتهاد لا يتوقف.

في السياسة، تتغير المواقف بحسب الظروف والمعلومات.

فلماذا لا نمنح الفكر والرأي ما نمنحه لغيره من مجالات التطور؟

رابعًا: التسامح لا يعني التنازل

علينا أن نميّز بين أمرين:

التمسك بقناعتك الفكرية أو الأخلاقية عن قناعة.

واحترام من يخالفك دون تسفيه أو إلغاء.

فالأول حق طبيعي، والثاني واجب حضاري. وبهما معًا تبنى المجتمعات المتقدمة.

خامسًا: كيف نربّي أنفسنا على سعة الصدر؟

لا تبدأ حوارك بهدف “الانتصار”، بل بهدف “الفهم”.

تعلّم أن تقول: “ربما لم أنتبه لهذه الزاوية”.

راجع رأيك دون أن تجرح كرامتك؛ النقد الذاتي من علامات النضج.

افتح المجال للرأي الآخر، حتى لو كنت تعتقد بخطئه، فالحق لا يخاف من التعدد.

خاتمة

لسنا معصومين، ولا نحتكر الحقيقة.

كل رأي هو اجتهاد في الفهم، وكل مخالف هو مرآة قد تُظهر لك ما غاب عنك.

فلتتسع صدورنا وافهامنا لبعضنا، ونتذكّر دائمًا أن الحقيقة نورٌ يتوزع بين العقول الباحثة، لا سلطة يتملكها أحد.

اضف تعليق