يشهد العراق في عام 2025 مرحلة دقيقة من تاريخه السياسي, تتسم بتفكك التحالفات الكبرى، وتقدّم القوائم المنفردة على حساب الكتل التقليدية، في مشهد يعيد تشكيل الخارطة السياسية ببطء ولكن بعمق. هذه التحولات تعكس أزمة ثقة بين الفاعلين السياسيين، وبينهم وبين الشارع، وتجسد مأزقاً بنيوياً في العلاقة بين السلطة والمجتمع...
يشهد العراق في عام 2025 مرحلة دقيقة من تاريخه السياسي, تتسم بتفكك التحالفات الكبرى، وتقدّم القوائم المنفردة على حساب الكتل التقليدية، في مشهد يعيد تشكيل الخارطة السياسية ببطء ولكن بعمق. هذه التحولات تعكس أزمة ثقة بين الفاعلين السياسيين، وبينهم وبين الشارع، وتجسد مأزقاً بنيوياً في العلاقة بين السلطة والمجتمع، تُغذّيه الحسابات الحزبية الضيقة، وغياب المشروع الوطني الجامع.
ففي الانتخابات الأخيرة، بدا واضحاً تراجع منطق التحالفات الواسعة التي سادت بعد عام 2003، لصالح صعود قوائم منفردة تسعى لحصد المكاسب السياسية بمعزل عن التزامات جماعية. اذ أن كثير من الأحزاب اختارت خوض السباق الانتخابي بشكل منفرد، مدفوعة باعتبارات نفعية، ومعتقدة أن تحالفاتها السابقة لم تحقق لها المكاسب المرجوة. هذا التحول يعكس أزمة ثقة بين القوى السياسية نفسها، كما يعكس براغماتية مفرطة تجاوزت الاعتبارات الأيديولوجية، ورفعت المصالح فوق الشعارات.
فالقانون الانتخابي المعتمد حالياً، والذي يقوم على نظام الدوائر المتعددة والانتخاب الفردي، جاء تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية في 2019 ليمنح المستقلين فرصة أكبر للوصول إلى البرلمان. ورغم أنه مكّن بعض الشخصيات المستقلة من كسر احتكار الأحزاب التقليدية، إلا أن سلبياته سرعان ما ظهرت:
- تجزئة الصوت الانتخابي، ما أضعف فرص التمثيل الحقيقي للشرائح الاجتماعية.
- الاعتماد على العلاقات العشائرية والمحلية في ظل غياب الكتل الكبرى، ما أضعف الأداء البرلماني.
- فتح المجال أمام المال السياسي والتأثيرات الخارجية بسبب ضعف الرقابة على الحملات الانتخابية.
بالمقابل، فإن من أبرز إيجابيات هذا القانون هو كسر الهيمنة المطلقة للأحزاب الكبرى، وتشجيع المشاركة السياسية لمستقلين ونشطاء.
والسؤال الذي يطرح هنا هو هل عزوف الناخبين أزمة ثقة أم احتجاج صامت؟
مع كل استحقاق انتخابي جديد، تتكرر ظاهرة عزوف المواطنين عن التصويت، ما يعكس تآكلاً تدريجياً في شرعية النظام السياسي. الانتخابات الأخيرة سجّلت نسبة مشاركة منخفضة، خاصة في المدن الكبرى، حيث يُنظر إلى العملية السياسية على أنها تعبير عن مصالح النخب لا تطلعات الشعب. أسباب العزوف متعددة:
- فقدان الثقة بقدرة البرلمان على إحداث تغيير فعلي.
- الإحباط من تكرار الوجوه والوعود دون نتائج.
- غياب التيارات المؤثرة مثل التيار الصدري عن العملية الانتخابية، ما زاد من شعور بعض الناخبين بعدم جدوى التصويت.
وكان لغياب التيار الصدري عن الانتخابات الأخيرة أثر كبير في إعادة ترتيب التحالفات، وخلق فراغ سياسي ملأته قوى أخرى، كن دون امتلاكها القاعدة الشعبية العريضة التي يتمتع بها التيار. هذا الغياب فرض تحديات جديدة، وأربك مراكز القرار، خصوصاً أن التيار لا يزال فاعلاً في الشارع، وإن خارج قبة البرلمان.
وواحدة من أبرز مشكلات المشهد السياسي العراقي في 2025 هي تغليب المصالح الحزبية والشخصية على حساب مفاهيم مثل المواطنة والانتماء الوطني. معظم التحالفات لا تُبنى على برامج واضحة، بل على حسابات انتخابية آنية، ما يضعف مصداقيتها ويعمّق الانقسام المجتمعي. حتى الأيديولوجيات التي كانت تؤطّر العمل السياسي سابقاً تراجعت لصالح منطق الصفقات وتبادل المنافع.
رغم هذا المشهد المعقد، إلا أن الطريق إلى الإصلاح السياسي ممكن، إذا ما توافرت الإرادة الحقيقية وتفاعلت النخب مع مطالب الشارع ، يمكن اقتراح ما يلي:
1. تعديل القانون الانتخابي بشكل يوازن بين التمثيل الفردي والحزبي لضمان استقرار الأداء التشريعي.
2. تعزيز دور المفوضية المستقلة للانتخابات لضمان نزاهة العملية الانتخابية والحد من تأثير المال السياسي.
3. إشراك التيارات المقاطعة في حوار وطني شامل لإعادة بناء الثقة.
4. تطوير الخطاب السياسي ليعبر عن أولويات المواطن وليس مصالح النخب.
5. إعادة الاعتبار لمبدأ المواطنة كأساس للعمل السياسي، عبر إصلاح التعليم والخطاب الإعلامي.
في الختام، يمكن القول إن المشهد السياسي في العراق عام 2025 يتجه نحو مزيد من التشرذم، لكنه في ذات الوقت بحمل مؤشرات على تحولات أعمق، قد تفتح الباب أمام تجديد الطبقة السياسية، شرط أن تتجاوز القوى التقليدية حساباتها الضيقة، وتلتقط إشارات التغيير قبل فوات الأوان.
اضف تعليق