في لحظة سياسية فارقة، عاد ترامب إلى واجهة الشرق الأوسط، محاولاً إعادة رسم معالم المنطقة بما يخدم رؤيته الاستراتيجية التي طالما عبَّر عنها. تتزامن زيارته الأخيرة للمنطقة مع انعقاد القمة العربية في بغداد، مما يضفي أبعاداً رمزية وسياسية لا يمكن تجاهلها، خاصة في ظل مؤشرات سياسية تشير إلى مساعٍ أمريكية جديدة...
في لحظة سياسية فارقة، عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى واجهة الشرق الأوسط، محاولاً إعادة رسم معالم المنطقة بما يخدم رؤيته الاستراتيجية التي طالما عبَّر عنها. تتزامن زيارته الأخيرة للمنطقة مع انعقاد القمة العربية في بغداد، مما يضفي أبعاداً رمزية وسياسية لا يمكن تجاهلها، خاصة في ظل مؤشرات سياسية تشير إلى مساعٍ أمريكية جديدة لإعادة توجيه دفة العلاقات والتحالفات في الشرق الأوسط.
جاء الإعلان عن رفع العقوبات عن سوريا كمفاجأة للبعض، لكنه يحمل في طياته دلالات عميقة. فهو لا يعكس فقط تحولاً في المقاربة الأمريكية تجاه دمشق، بل يُعد أيضاً تمهيداً لمسار اندماج سوريا تدريجياً في المنظومة الإقليمية الجديدة، التي باتت تتشكل على إيقاع ما يُعرف بـ "الاتفاقيات الإبراهيمية". تأتي هذه الخطوة في إطار رؤية ترامب الرامية إلى توسيع رقعة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، على نحو يشمل دولاً لم تكن في السابق ضمن دائرة هذا المسار.
منذ توقيع أولى الاتفاقيات الإبراهيمية عام 2020، سعى ترامب إلى توسيع هذا الإطار ليشمل قوى إقليمية وازنة مثل السعودية وقطر. بينما أبدت بعض دول الخليج استعدادها للدخول في هذه الاتفاقيات أو تعزيز علاقاتها مع الكيان الصهيوني، فإن دعوة ترامب المتجددة تأتي في لحظة تشهد فيها المنطقة إعادة تموضع سياسي واضح. تُعد السعودية اليوم طرفاً مركزياً في هذه المعادلة، وتمارس دوراً فاعلاً في هندسة توازنات المنطقة، بما يتجاوز حدودها الجغرافية نحو التأثير في القضايا الإقليمية الكبرى.
تُشكِّل المملكة العربية السعودية حجر الزاوية في الاستراتيجية الأمريكية بالمنطقة، لاسيما في ظل تراجع الدور التقليدي لبعض القوى الأخرى. تبرز السياسة الخارجية السعودية اليوم كفاعل دبلوماسي نشط وقادر على التفاوض وفرض شروطه في ملفات حساسة، من اليمن إلى سوريا وصولاً إلى تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني. يبدو أن واشنطن في عهد ترامب تدرك أهمية الرياض كوسيط رئيسي في أي تحرك يرمي إلى إعادة هيكلة العلاقات في المنطقة، بما في ذلك الملف السوري.
تعيش سوريا اليوم مرحلة انتقالية حُدِّدت بخمس سنوات، وهي فترة تُستخدم كإطار زمني لإعادة تأهيل مؤسسات الدولة وإعادة ترتيب علاقاتها الإقليمية والدولية. ويبقى السؤال المحوري: هل تنخرط سوريا في مسار الاتفاقيات الإبراهيمية؟
من جهة، يُنظر إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني كخطوة محفوفة بالتحديات التاريخية والسياسية، خاصة في ظل الوجود الإيراني المكثف في سوريا، وارتباط دمشق بمحور المقاومة. ومن جهة أخرى، فإن التوجه الأمريكي لدمج سوريا ضمن ترتيبات جديدة قد يفرض ضغوطاً باتجاه إعادة تعريف المواقف والعلاقات، بما في ذلك العلاقة مع الكيان الصهيوني.
في خضم الحديث عن احتمال انضمام سوريا إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، تبرز معضلة الجولان كأحد أكبر العوائق السياسية والرمزية أمام أي تقارب محتمل مع الكيان الصهيوني. فهضبة الجولان، التي احتلتها إسرائيل عام 1967 وضمتها لاحقاً في خطوة لم يعترف بها المجتمع الدولي، تبقى من أبرز رموز الصراع العربي-الصهيوني. ومع أن الولايات المتحدة الأمريكية اعترفت بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، فإن وضعها القانوني لا يزال خاضعاً لاعتبارات دولية، حيث تُعد تحت إدارة غير شرعية بحسب قرارات مجلس الأمن.
في حال قررت سوريا الدخول في مسار الاتفاقيات الإبراهيمية، فإن موقفها من قضية الجولان سيشكل اختباراً لمصداقية هذا المسار وجدية الأطراف في إيجاد حلول عادلة للصراعات التاريخية. فهل ستقبل سوريا بالتطبيع مقابل وعود بإعادة النظر في مستقبل الجولان؟ أم أن المسألة ستركن جانباً على غرار ملفات كبرى تم تجاوزها في اتفاقيات سابقة؟
لا يمكن إغفال أن تسوية وضع الجولان، سواء بإعادتها إلى السيادة السورية أو بوضعه تحت إدارة دولية انتقالية، قد يُطرح ضمن تسوية شاملة، خاصة إذا كان الهدف هو إدماج سوريا في منظومة جديدة تفرض نفسها كواقع سياسي إقليمي. بالتالي، فإن مسار دمشق نحو الاتفاقيات الإبراهيمية –إن حصل– سيكون مشروطاً بترتيبات معقدة تخص الملفات العالقة، وعلى رأسها الجولان. وهذه النقطة بالتحديد ستظهر ما إذا كانت الاتفاقيات الإبراهيمية مشروع تطبيع فني سياسي فقط، أم أنها قادرة على التعامل مع جوهر الصراع العربي – الصهيوني، بما فيه من قضايا سيادية وحقوق تاريخية.
بالنسبة للزيارة التي قام بها رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب إلى المنطقة، فقد تزامنت مع انعقاد القمة العربية في بغداد، غير أنه لم يُبدِ اهتماماً مباشراً بالحضور أو التنسيق مع الحكومة العراقية. بل على العكس، عبر في تصريحاته عن نظرة سلبية تجاه العاصمة بغداد واصفاً إياها بأنها "الأسوأ"، بما يعكس على الأرجح استمرار التوتر في العلاقة بين العراق والإدارة الجمهورية، ويضع علامات استفهام حول موقع العراق في معادلة الاتفاقيات الإبراهيمية. فهل يُراد له أن يبقى على هامش هذه الترتيبات، أم أن تجاهله هو تكتيك مؤقت في انتظار تغييرات داخلية أو إقليمية؟
برأيي، لا يمكن فصل هذه التحركات عن مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتماشى مع منطق "التحالفات المرنة" التي تتجاوز الخصومات التقليدية. رفع العقوبات عن سوريا ليس فقط مغازلة سياسية للنظام السوري، بل محاولة أمريكية لاحتواء النفوذ الروسي والإيراني في دمشق. فالولايات المتحدة تدرك أن بقاء سوريا خارج المنظومة العربية والإبراهيمية يعني استمرار محور مقاوم قد يُعقِّد حساباتها الاستراتيجية في المدى البعيد.
السعودية في هذا السياق تمارس سياسة خارجية أكثر فاعلية ونضجاً، تتوازن بين الحفاظ على موقعها القيادي في العالمين العربي والإسلامي، وبين تبني توجهات براغماتية تخدم أمنها القومي ومكانتها الإقليمية. وإذا ما دخلت سوريا بالفعل في إطار الاتفاقيات الإبراهيمية، فإن ذلك سيكون مؤشراً على إعادة هيكلة شاملة للوعي السياسي في المنطقة، وعلى قبول نوع من الواقعية السياسية الجديدة التي تتجاوز الصراعات الأيديولوجية التقليدية.
أما العراق، فلا شك أنه في موقع حساس بين ضغوط الخارج وتطلعات الداخل. واستبعاده من النقاشات الإبراهيمية أو تجاهله في خطاب ترامب ليس بالضرورة مؤشراً على التهميش المطلق، بل قد يكون محاولة أمريكية لإعادة تقييم الدور العراقي، خاصة في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي التي يعيشها.
في الختام، الشرق الأوسط يشهد تحولاً متسارعاً، وأن عودة ترامب هي بمثابة إشارة إلى أن ديناميات ما بعد الاتفاقيات الإبراهيمية لم تنته بعد، بل دخلت مرحلة أكثر تعقيداً تتطلب وعياً عربياً مشتركاً وإرادة سياسية قادرة على استباق التحولات لا مجرد التفاعل معها.
اضف تعليق