يحدد جورج أورويل صفتين للمجتمعات الشمولية: الكذب والفصام عن الواقع. فالكذب في هذه المجتمعات عملية منظمة وليست تكتيكاً، ويتطلب باستمرار إعادة كتابة الماضي لاحتواء الحاضر. فحاضرنا المُزري هو نتاج مظلومية الماضي. ولأن التاريخ لم ينصفنا، بتنا غير قادرين على إنصاف أنفسنا...
يحدد جورج أورويل صفتين للمجتمعات الشمولية: الكذب والفصام عن الواقع. فالكذب في هذه المجتمعات عملية منظمة وليست تكتيكاً، ويتطلب باستمرار إعادة كتابة الماضي لاحتواء الحاضر. فحاضرنا المُزري هو نتاج مظلومية الماضي. ولأن التاريخ لم ينصفنا، بتنا غير قادرين على إنصاف أنفسنا.
أما الفصام، فيتجسد بإقامة نظام فكري فصامي يعتمد على قوانين الفطرة السليمة ليتمكن من احتواء الفرد والتخفيف من معاناته النفسية. وهو يرى يومياً التعارض بين قوانين العدالة التي يؤمن بها وتربى عليها، وبين الواقع غير العادل الذي يعيشه. لذا، يلجأ للتبرير والانفصال عن الواقع. "نحن واقعون تحت أنياب المؤامرة... العدو يتربص بنا، لذا علينا المحافظة على وحدتنا وعدم انتقاد قادتنا... كل ما نحن فيه من سوء هو نتاج المظلومية التاريخية... الله يمتحن صبرنا ويمحصنا قبل أن نرى الخير الوارف"، وغير ذلك من السرديات التاريخية والمؤدلجة والمصممة خصيصاً لنرضى بالواقع الأليم وندافع عن الظلم العميم دون أن تهتز ضمائرنا أو تتأذى مشاعرنا.
شخصية ازدواجية
هذا ما يسميه أورويل التفكير المزدوج، ويسميه الوردي ونجيب محفوظ الشخصية الازدواجية، في حين اسميته الدور الاجتماعي في كتابي (ثقافة التصلب: منظور جديد لفهم المجتمع العراقي).
تهتم النظم الشمولية جميعها بتنشئة الفرد ليس فقط على حب القائد، أو الرمز الديني أو الدنيوي، وإنما أيضاً تنميط دماغه وسلوكه ليعكس مجموعة المبادئ والمعايير والقيم التي تتناسب مع ما يريده الأخ الأكبر. وسواء من خلال المدارس أو الإعلام أو المنابر أو معسكرات الشبيبة والتجنيد، فإن المطلوب هو خلق أجيال من الروبوتات البشرية المنمطة التي تستخدم الأيديولوجيا التي تمت برمجة عقولهم وسلوكهم بها لكي يبرروا هذا الكذب الذي يعيشونه ويمارسونه. وهم يرون القائد وأولاده وأحفاده وزبانيته يركبون أفخر السيارات ويسكنون أفخم القصور ليخاطبوهم من شرفاتها، ويدعونهم للجهاد والدفاع عن الحق والفقراء والمظلومين! إنهم يريدون تصديق أن قائدهم، أو ملهمهم، أو شيخهم، أو بابهم إلى الله وطريقهم لجنات الخلد، يعاني أكثر منهم فلا يجد مالاً ليزوج به ابنه المدلل، ولا ينام إلا بعد أن يقوم الليل كله، ولا يأكل سوى كسرة خبز لتقيه الجوع، ولا يسافر بطائراته الخاصة إلى منتجعات العالم إلا ليسهر على حل مشاكل الشعب الفقير والأمة المظلومة.
لا طريق لحل هذا التنافر الفكري (cognitive dissonance) بين ما تربوا عليه ويؤمنون به، وبين ما يرونه من سلوك قادتهم وسراتهم والعالمين بدينهم ودنياهم، إلا بتكذيب ما يرون والانفصال عن الواقع الذي يعيشون. والأدهى من ذلك أن هذا السلوك التبريري ثنائي القطب يجري استبطانه وتقليده من قبل أفراد الشعب ذاته.
آليات منهجية
ففي النهار، هم المُبشِّرون (بكسر الشين) بالورع والجهاد والشرف والنزاهة، وفي الليل هم أهل الرقص والمجون، والسُكْرِ والفنون، والفساد والجنون. إنهم شعب "الچاي والچذب"، حيث يكذبون وهم يشربون السُكّر في شايهم، ويصدقون وهم يشربون السَكَر في مجلسهم.
إعادة صياغة الماضي والعيش فيه، والكذب والتبرير والانفصال عن الواقع، آليات دفاعية يتم تنظيمها وفق آليات منهجية مستمرة في المجتمعات الشمولية لإدامة التخدير وإدمان التبرير. العقل في صيام دائم، والخرافة والوهم هي الحق القائم.
اضف تعليق