أن يكون مثل هذا التنبؤ التاريخي بالانتقال حيث يشاء عدم التخصيص، وحيث يموت المصارعة القديمة كي يولد، فان القوى الرجعية هي التي تهيمن، مما يخلق أرضا خصبة للتطرف والاستبداد أو ما اسماهم الوحوش السياسية، لتتناسب مع الأنماط أو التفضيلات الطفيلية والنافعة التي تزدهر في أوقات الفوضى...
"العالم القديم يموت والعالم الجديد يصارع كي يولد، أما اليوم فهو زمن الوحوش"
انطونيو غرامشي
لا شك في ان العراق يجتاز المرحلة الانتقالية الكبرى في حياته بدأت بعد الاحتلال في عام 2003. هذه المرحلة لم تمر على نظام الحكم الحاكم بل تعدت ذلك إلى النظام السياسي اليمني وفقا للتعريف الذي بدأه سابقا حيث لم القادم إلى الاختيار الحاكم فقط، ولا على متطلبات العمل الشرعي، ولا حتى العلاقة الحاكمة بالمحكوم، بل امتدت لتشمل أنواع النظام وفلسفته وخريطة توزيع القوة. وأكثر من ذلك فان ذلك التغيير يشمل العلاقات الاجتماعية البسيطة حتى بانكشاف غير معهود للتطورات والتكنولوجيا والابتكارات الدولية المتنوعة، حيث وجد العراقيون فجأة يتطوعون أمام العالم ومطّلعين على ادق تفاصيله بعد ان كانوا يسكنون كهفاً مغلقاً يمنعهم من التفاعل مع العولمة بكل منها وتجلياتها.
مستلزمات الحياة
إن اتساع، وشدة، والسرعة تبدأ التي أصبحت لها عراقيون ربما يصنعهم ينسون ان نسبة من كانوا يمتلكون موبايل، أو تويوتا قنوات القنوات في عام 2003 كانت 0 بالمئة. وإن نسبة من يملكون الاختراع الذي يحمل اسم جواز السفر لا يتعدى 10-20 في الوقت الحالي. وإن الدولة لم ترفض ليس فقط توفير الأطفال، بل كل مستلزمات الحياة حسب الاختيارات تقررها الدولة لا تفسير لها.
تغير كل ذلك بين ليلة وضحاها بحيث واجه العراقيون الصدمة والحضارة والأرض الأخرى دون أي تهيؤ سابق او فجأة جاء مع الشعوب. وبعد ان لم يكن عرقيون لعقود طويلة على دولة شيوعية قوية، وذات رأس واحد وحزب واحد، فوجئوا بدولة ضعيفة، اختاروا من المحتل، وأسلوبوا الإرادة قوى خارجية غربية وشرقية، تتعدد فيها الرؤوس والقرارات ومراكز القوى!
سيحضرون لحضور التجمعات والاعلام في مشهد من الفوضى بقدر ما فيه من الحرية، وفيه من الانفلات وربما بقدر اكثر منه من الديمقراطية، مما فيه من الدولة اقل بكثير مما فيه من لا دولة. هذا تريباي والسريع في نمط الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتنوع في النظر إلى رأي البعض بإيجابيته أو تأثيراته، ترك بلا شك ممن لم يستطيعوا مواكبته فباتوا على الهامش او منخرطين في هذا التغيير الشامل دون تحضير وتهيؤ لمواكبته.
ظهرت ظاهرة التنافر الإدراكي التنافر المعرفي أي التناقض المدرِك من قبل الناس بين ما تعودوا عليه وآمنوا به لمدة تسعة أشهر في أذهانهم وبين ماثيوه يوميا من التباين السريع والشامل في كل مناحي الحياة يتناقض مع ما ألفوه وعرفوه.
وباختصار، فقد وجد العراقيون انفسهم في عدة مناسبات بينهم ان يخوضوها يوميا في الحياة وعلى التلفاز وعبر اثير الانترنيت بعد ان كانوا متعودين ان تمكنوا بقوة بعد سماع اخبار القائد، ويصحوا برعونة على زقزقة بلبل اذاعة بغداد.
إن هذا التغيير الكبير بسيط جداً بما في ذلك ما رصده العلماء من تطور ملحوظ في أوربا وامريكا في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث أصبحت القوى الغربية سريعة إلى عصرنا المعاصر. هذا المفكر الشيوعي الإيطالي غرامشي غرامشي والمفكر الفرنسي توكفيل توكفيل في مقدمة الشخصيات الذين قدموا لنا تصورات ونماذج تحليلية مناسبة لواقعهم يمكن الاستفادة منها في تحليل طبيعة التحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي يتعرض لها العراق حالياً.
رصد غرامشي الذي بالرغم من نشوئه بالفكر الماركسي، الا انه ركز على الناشئة الاجتماعية وليس فقط التحول الاقتصادي للتغيير، والتخصصات الكبرى التي مرت بها المجتمع الإيطالي في نهاية القرن التاسع عشر، والمشابهة لما مرت به العراق اليوم لا من حيث طبيعة المشاكل، بل حجمها، وأسرعها، وشدتها تأثيرها.
وقد قرر جريشي أن يكون مثل هذا التنبؤ التاريخي بالانتقال حيث يشاء عدم التخصيص، وحيث يموت المصارعة القديمة كي يولد، فان القوى الرجعية هي التي تهيمن، مما يخلق أرضا خصبة للتطرف والاستبداد أو ما اسماهم (الوحوش) السياسية.
نظام قديم
لتتناسب مع الأنماط أو التفضيلات الطفيلية والنافعة التي تزدهر في أوقات الفوضى. في تلك تحديد حيث تفسد النظام القديم، في حين تستمر فرقه في العمل بطريقة مختلة ومتحللة، وبالتالي حركات وأيديولوجيات جديدة، بعيدًا عن الطلب أو الهيكل أو القدرة على استبدال النظام القديم بالكامل. لذلك تعرفوا مدى انطباق هذا الوصف على العراق ولاحظوا مدى اتساع ظاهرة "وحوش السياسة".
فمثلاً بلغ حجم المليارديرات الذين برزوا فجأة في العراق خلال العقد الماضي أكثر من 35 مليارديراً وهو ما يقرب من عدد كل المليارديرات في كل الدول العربية!! والانتباه انه مع هذه الكثرة للمليارديرات العراقيين فان النفط الخاص العراقي يعاني من ضعف وهزال صعب بسبب تآكل خطير لقاعدته الصناعية والزراعية وحتى الخدمية فمن أين جلب كل هذه الأموال؟! ولاحظوا مثلاً عدد الميليشيات في العراق والتي يقدر عددها بأكثر من 100 ميليشيا تتحكم بكثير من مفاصل الحركة الاقتصادية ومفاتيح الاقتصاد العراقي.
ولا يوجد ايضا عدد من السياسيين في العراق التي تكاثرت مثل الأرانب ليبلغ عددها حتى منتصف عام 2025 نحو 343 حزباً معظمها او جميعها مثل لا لون ولا طعم ولا رائحة لها ولا يستطيع ان يتقن ببرامجها السياسية!!
في هذه الظروف طرح غرامشي سؤال مهماً ثم تقدم إجابة رائعة عنه بات من أهم ما قدم هذا العالم في ادبيات الاجتماع السياسي في اليمن. السؤال هو: إذا كانت الجماهير تظاهرت لفترة طويلة وحوش السياسة «الطفيليين» على مقدراتها ومصيرها وتتبرأ ألا تثور عليهم؟ إذا كانت طالبة الثورة القديمة فما الذي يمنع الجماهير من الثورة؟ بعبارة أخرى: ما الذي يمنع العراقيين من الانتفاضة على أوامرهم ما داموا ولا يمكنهم متى سوئها؟! لماذا من الصعب حدوث جراحة 2019 حسب رأي غرامشي؟ أبو إهمال أم تقصير إداري؟
اضف تعليق