لا شك أن الانتخابات الرئاسية الأميركية كانت الحدث الأبرز الذي تابعه مئات الملايين في كل أنحاء العالم بسبب تأثير سيد البيت الأبيض في السياسة والاقتصاد العالميَين. وبحسب كالوب الدولية Gallup International فأن أكثر من ثلثي الناس في 43 دولة في العالم-بضمنها العراق- قالوا أن تلك الانتخابات لها تأثير كبير على بلدانهم...
لا شك أن الانتخابات الرئاسية الأميركية كانت الحدث الأبرز الذي تابعه مئات الملايين في كل أنحاء العالم بسبب تأثير سيد البيت الأبيض في السياسة والاقتصاد العالميَين. وبحسب كالوب الدولية Gallup International فأن أكثر من ثلثي الناس في 43 دولة في العالم-بضمنها العراق- قالوا أن تلك الانتخابات لها تأثير كبير على بلدانهم. وكانت غالبية (54 بالمئة) من أستُطلعت آراؤهم تفضل فوز هاريس لأنهم يعتقدون أن العالم سيكون أقل استقراراً. أما في العراق، وبلدان قليلة أخرى، فقد كانت الأغلبية تريد فوز ترامب، وهو ما حصل في النهاية.
لقد دأبت مؤسسات استطلاع الرأي في أمريكا منذ أشهر على متابعة ونشر توقعاتها بخصوص تلك الانتخابات حتى قبل أن يقرر الحزب الديموقراطي استبدال بايدن بكاميلا هاريس نتيجة ما أظهرته تلك الاستطلاعات من سوء أداء وتخلف بايدن مقارنةً بترامب، بخاصة بعد أداءه السيء في المناظرة المتلفزة. ثم بدأت تلك الاستطلاعات ومنذ شهر تموز بإظهار نتائج وتوقعات متقاربة جداً للمرشحَين حتى وُصِف السباق الرئاسي بأنه الأشد تنافسيةً منذ عقود.
مع ذلك فقد أظهرت نتائج الفرز الفعلية للأصوات فوزاً كبيراً لدونالد ترامب الذي حسم السباق في وقت مبكر جداً عما كان متوقعاً متجاوزاً حاجز ال 270 اللازم للفوز بالمجمع الأنتخابي. لقد شكل ذلك مفاجأةً كبرى للكثيرين، وأثار من جديد الكثير من اللغط حول صحة استطلاعات الرأي التي توقعت منافسة أشد وفوز أبطأ مما حصل.
هذا جدد الانتقادات لصحة ومعولية تلك الاستطلاعات وذكّر بالانتقادات والفشل الذي صادف الاستطلاعات التي صاحبت السباق الرئاسي الأمريكي نفسه في 2016 عندما توقعت فوز كلينتون في على ترامب في حين حصل العكس. فهل فشلت استطلاعات الرأي مرة أخرى؟ وهل هناك سر في أن الاستطلاعات تفشل في كل مرة يكون ترامب مرشحاً رئاسياً وتكون منافسته امرأة؟! وهل فعلاً ما يقال بأن تلك الاستطلاعات منحازة لمن يمولها؟!هذه الأسئلة وسواها باتت تشكل ضغطاً علينا نحن المختصين في الرأي العام وباتت تستلزم إجابات واضحة.
مؤسسات مرموقة
ابتداءً لا بد من القول أن مؤسسات أبحاث الرأي العام كأي مؤسسات أبحاث علمية أو مؤسسات أكاديمية تتباين في مدى موثوقية مخرجاتها. فمن يتخرج مثلاً من جامعة مرموقة لا يمكن أن يتشابه مع من يتخرج من جامعة تبيع شهاداتها عبر الأنترنيت. كذلك فأن الأبحاث التي تخرج من مؤسسات مرموقة ولها سمعة دولية لا يمكن أن تتشابه مع الأبحاث التي يتم تأليفها من قبل مراكز (أبحاث) كالتي تتبع لأحزاب وجهات سياسية في العراق أو أمريكا لها مصلحة مباشرة في فوز هذا المرشح أو ذاك.
ثانياً، وهو الأهم، هل أن فوز ترامب الساحق والمبكر لم يكن متوقعاً؟ وهل أن الاستطلاعات أعطت لهاريس احتمالية فوز أعلى من ترامب؟ الجواب على كلى السؤالين هو لا! فمعظم الاستطلاعات الموثوقة والتي تم نشرها ويمكن الآن الرجوع الى نتائجها لم تخطئ في توقعاتها. صحيح أنها لم تتوقع هذا الحسم المبكر، والذي كانت له أسبابه الموضوعية، لكنها لم تقل مطلقاً أن هاريس ستفوز مثلما أنها لم تقل أن ترامب سيفوز وقدّرت فرص متساوية لفوز المرشحَين.
فقبل يوم من الانتخابات مثلاً، عقدت المجموعة المستقلة للأبحاث بالتعاون مع الجمعية الدولية لاستطلاعات الرأي ومؤسسة كالوب الدولية مؤتمراً أفتراضياً (ويبنار) أعلنت فيه نتائج 22 استطلاع للرأي أجريت في اميركا وأعطت لهاريس نسبة فوز في التصويت العام 48.3 بالمئة مقابل نسبة 47.3 بالمئة لترامب وقدرت هامش الخطأ المسموح بحوالي 3 بالمئة.
هنا لا بد من توضيح المقصود بهامش الخطأ المسموح به. بما أن الاستطلاعات هي علم احتمالي وليس قطعي، فأن الإحصائيين يقومون بتقدير هامش الخطأ المتوقع في تقديرات الاستطلاعات على وفق معادلة علمية. فحينما نقول أن هناك هامش خطأ 3 بالمئة كالذي تم تقديره للسباق الرئاسي الأمريكي فهذا يعني أن ترامب الذي توقعت الاستطلاعات فوزه بنسبة 47.3 بالمئة يمكن أن يحصل فعلياً في يوم الانتخابات على ثلاث درجات أقل(أي 45.3 بالمئة) أو ثلاث درجات أعلى(أي 50.3 بالمئة) فماهي نسبة ما حصل عليه ترامب فعلاً؟ لقد كانت 50.3 بالمئة فعلاً مقابل 48 بالمئة لمنافسته هاريس وهي التي توقعت لها الاستطلاعات 48.3 بالمئة كما أسلفت. فهل أخطأت الاستطلاعات. بالتأكيد أنها أصابت ولم تخطئ.
أما على مستوى الولايات، أو ما يسمى بالمجمع الانتخابي فقد قسمت الاستطلاعات الولايات الخمسين الأميركية الى ثلاث فئات: ولايات محسومة لترامب، وولايات محسومة لهاريس وولايات متأرجحة swing وعددها سبع ولايات لا يمكن التنبؤ بمن سيفوز بها. ونظراً لأن أي من المتنافسَين لن يتمكن من عبور عتبة الفوز البالغة 270 صوتاً اعتماداً على ولاياته المحسومة التي قدرتها استطلاعات الرأي، فأنه سيحتاج للفوز بأكثر من ولاية من الولايات المتأرجحة.
لذا عُدت تلك الولايات بأنها الولايات التي ستجري عليها معركة النصر النهائي. وتمثلت المشكلة الكبرى للتنبؤ بمن سيفوز في أن نتائج الاستطلاعات كانت قريبة جداً ضمن كل تلك الولايات السبعة. فطبقاً للتقدير الذي أعلن عنه في المؤتمر الافتراضي المشار له سابقاً ولما أعلنتهُ شخصياً من على شاشة الشرقية كانت احتمالات فوز ترامب في أهم ولاية من تلك الولايات السبعة، وهي بنسلفانيا أعلى من حظوظ هاريس ب 0.1 بالمئة فقط. ومع أخذ هامش الخطأ في التوقع، والمشار له سابقاً بالاعتبار فقد جاءت النتائج الفعلية مطابقة فعلاً لما تم التنبؤ به. نفس الشي حصل في ولايات جورجيا ونيفادا وأريزونا وسواها ممن فاز بها ترامب جميعاً.
مستويات انتخابية
ماذا يعني ذلك؟ أنه ببساطة يعني أن الاستطلاعات نجحت تماماً في توقع النتائج وفي الثلاث مستويات الانتخابية (الوطني، المحسومة، والمتأرجحة). فهي نجحت في توقع النتائج على مستوى التصويت الوطني. كما أنها نجحت في التنبؤ بكل الولايات التي سيحسمها ترامب وتلك التي ستحسمها هاريس، ولم تخطئ الاستطلاعات ولا مرة واحدة في توقعها للولايات المحسومة سلفاً. أما على مستوى الولايات المتأرجحة فلم تفشل في توقع احتمالات من سيفوز بكل منها.
ان الفارق الكبير في عدد الأصوات التي حصل عليها ترامب مقارنةً بهاريس في المجمع الانتخابي لا يعكس مدى التقارب في الأصوات الحقيقية بسبب الطبيعة المعقدة والتي يجهلها كثير ممن يتابعون الانتخابات الأمريكية. فمثلاً كان الفرق بين ترامب الذي فاز بولاية بنسلفانيا وبين منافسته 1.9 بالمئة فقط لكن هذا الفرق الضئيل ضمن له 19 صوت في المجمع الانتخابي. نفس الشيء حصل في جورجيا التي ضمن له الفوز فيها بفارق 2 بالمئة فقط 16 صوتاً في المجمع الانتخابي.
لكن توقعات استطلاعات الرأي ليست هي المهمة فقط، بل الأهم هو معرفة أسباب فوز ترامب للمرة الثانية ليصبح أول رئيس أمريكي يفوز على مرشحتين انثيين، وثاني رئيس في تاريخ أمريكا يستطيع أقناع الناخبين بالعودة للبيت الأبيض مرة أخرى بعد أن كانوا قد أخرجوه منه في المرة الأولى. سيتم تحليل تلك الأسباب بناءً على أرقام الانتخابات الأمريكية الأخيرة.
اضف تعليق