انسحاب الجيش من السياسة لم يمنع من زيادة تأثير القوة العسكرية في عسكرة المجتمع والاقتصاد العراقيَين بحيث تم تسخير كل مصادر القوة لمتطلبات خدمة حروب النظام التي لم تنتهي الا باحتلال العراق عام 2003، وكان انشاء ما سمي بالجيش الشعبي (مثلاً) أحد أهم مظاهر التأثير السلبي لعسكرة المجتمع والاقتصاد...

يقصد بالسلطة القدرة على جعل الآخرين يفعلون أشياء ما كانوا ليفعلونها بدون وجودها. والسلطة هنا لا تقتصر على السلطة القانونية بل تتعداها الى كل أشكال القوة القهرية أو التعاونية، والرسمية وغير الرسمية، والخاصة أو العامة. يختلف علماء الأجتماع في تحديد مصادر القوة الاجتماعية لكني أتبنى أنموذج مايكل مان Michael Mann الرباعي -الآيدلوجيا، الاقتصاد، الجيش والسياسة- بعد تعريقه ليناسب الظرف الأجتماعي للعراق حالياً.

بعد أستعراض دور القوة العسكرية كأحد مصادر التغيير الاجتماعي في العالم عموماً، وفي مرحلة تأسيس الدولة العراقية الحديثة (1921) لغاية 1968، فسنستعرض بسرعة هنا دور الجيش والقوة العسكرية في العراق في مرحلتي البعث ثم المرحلة الحالية والتي دشنها الاحتلال في علم 2003.

المرحلة الثانية (من 1968-2003). تميزت هذه المرحلة بسيطرة حزب البعث العربي الاشتراكي على مقاليد الحكم. وعلى الرغم من محاولات الحزب الشكلية لاشراك بعض القوى السياسية الاخرى في الحكم الا ان تلك المحاولات سرعان ما أنتهت لتسفر عن سيطرة تامة للحزب على كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومنها العسكرية بالخصوص. 

ومع أن المرحلة الأولى من حكم البعث تحت رئاسة البكر تميزت بكثير من المهنية الا أنها شهدت أيضاً بدايات أخضاع الجيش لسلطة الحزب ونزع أي آيدلوجية سياسية منافسة للبعث داخل الجيش، وفرض أدلجة القوات المسلحة العراقية تحت شعار «الجيش العقائدي» أي الجيش الذي يؤمن بآيدلوجية حزب البعث العربي الأشتراكي. ولغرض فرض سيطرة الحزب على الجيش وأخضاعه للسياسة، فقد تم منح مكتب التنظيم العسكري لحزب البعث داخل الجيش والذي كان يشرف عليه ويرأسه صدام حسين شخصياً صلاحيات واسعة بخاصة في تعيين و|أو أستبعاد القيادات العسكرية على أساس ولائها العقائدي وليس كفائتها المهنية فحسب.

تنظيم حزبي

وتم تدريجياً «بعثنة» الجيش العراقي ونزع أي أمكانية لانقلابه على الحكم ليس فقط من خلال التنظيم الحزبي (البعثي) العسكري داخل الجيش، وأنما اخضاع المؤسسات الامنية العسكرية التي مُنحت صلاحيات واسعة (الاستخبارات والأمن العسكري فيما بعد) الى السلطة المباشرة لصدام حسين (وليس لقيادة الجيش) الذي بات الحاكم المطلق للعراق بخاصة بعد تسنمه لرئاسة الدولة وأحداث مؤتمر 1979 للحزب والذي أطاح فيه بأي أحتمال لوجود معارضة له داخل الحزب، وأرسل خلاله رسالة ردع هائلة لكل كوادر الحزب. والملاحظة التي لم يتوقف عندها كثير ممن أرّخوا لتلك المرحلة، وأود الوقوف عندها هنا، هي خلو قائمة (المتآمرين على الحزب) كما أسماهم صدام في مؤتمر قاعة الخلد 1979 من أي أسم عسكري وبأي رتبة مما يعني ضمناً أن صدام قد ضمن، قبل هذه الحادثة، ولاء المكتب العسكري لحزبه والمكوّن من كبار البعثيين من ضباط الجيش العراقي!

وفي الوقت الذي أدى فيه زج الجيش العراقي في أتون ثلاث حروب كبرى خلال العقود الثلاثة من 1980-2003 الى استنزاف قدرات الجيش وابتعاده عن السياسة، فقد أدى ذلك بالمقابل الى مزيد من تأثير القوة العسكرية عموماً على المجتمع والاقتصاد العراقيَين. 

فأنسحاب الجيش من السياسة لم يمنع من زيادة تأثير القوة العسكرية في عسكرة المجتمع والاقتصاد العراقيَين بحيث تم تسخير كل مصادر القوة الأجتماعية (السياسية والعسكرية والاقتصادية والآيدلوجية) لمتطلبات خدمة حروب النظام التي لم تنتهي الا بأحتلال العراق عام 2003. 

وكان انشاء ما سمي بالجيش الشعبي (مثلاً) أحد أهم مظاهر التأثير السلبي لعسكرة المجتمع والاقتصاد. لا بل أنه كان أحد أهم مظاهر اضعاف المؤسسة العسكرية العراقية فيما بعد. كما شهدت تلك المرحلة ممارسات أخرى أدت الى أضعاف القوة العسكرية التي مثلها الجيش في المرحلة السابقة على مرحلة البعث. وكان من أهم تلك الممارسات خلق جيوش موازية للجيش النظامي (الحرس الجمهوري، والحرس الخاص، وفدائيو صدام) وتتمتع بموارد وسلطات وقدرات أكبر بكثير مما يمتلكه الجيش مما جعل الجيش وقادته وضباطه يشعرون بأحباط كبير بأعتبارهم مؤسسة وضباط درجة ثانية أو ثالثة. 

لقد عمّق ذلك من معيار الولاء بدلاً من الكفاءة في الجيش. ولأول مرة منذ تأسيس الجيش العراقي لم يعد رئيس أركان الجيش العراقي ووزير دفاعه قادرَين على تنظيم وأدارة وقيادة كل العمليات العسكرية ووحدات الجيش المختلفة وباتا في مرحلة متأخرة عاجزَين حتى عن تحريك وحدة عسكرية صغيرة بدون أوامر مباشرة من مدير جهاز الأمن الخاص مثلاً. 

وهذا كان في أعتقادي من أهم أسباب الانهيار الكبير والسريع للجيش العراقي في مواجهة قوات التحالف الأمريكي الدولي سواءً في حرب 1991 أو عند احتلال العراق عام 2003. ويكفي هنا الأشترة الى أن فقدان ثقة النظام بجيشه بلغت مرحلة أحجم فيها صدام حسين عن أبلاغ قادته وقواته بخطته لاحتلال الكويت خوفاً من افشاءها.

مشكلة الثقة

ولقد تفاقمت مشكلة الثقة بالجيش وضباطه وقياداته، بعد أن تمت أناطة مهمة قيادة الجيش بأشخاص لا يتمتعون بأي مؤهلات عسكرية ومنحهم ليس فقط مناصب (مثل منصب وزير الدفاع أو نائب القائد العام) بل ومنحهم رتب عسكرية عليا وشهادة كلية الاركان خارج كل السياقات التي عرفها الجيش العراقي منذ تأسيسه. هنا أشير الى أقارب صدام حسين الذين منحوا صلاحية السيطرة على المؤسسة العسكرية وأخضاعها لسلطاتهم (غير الرشيدة) مثل حسين كامل وعلي حسن المجيد وقصي صدام حسين. لقد أدى ذلك الى سن سُنّة سيئة في تاريخ الجيش العراقي جعلت من أشرفوا عليه في مرحلة ما بعد الاحتلال يقبلون بقيادات عسكرية «كَلَك» مشابهة لتلك القيادات مُنحت أيضاً رتباً وشهادات عسكرية لا تستحقها وغير مؤهلة لها كما حصل خلال النظام السابق، ولكن بنطاق أوسع بكثير كما سنسرده لاحقا.ً.

اضف تعليق