q
ما أعظمها من كلمات نورانية، وموعظة حقيقية، فالشباب المتفتح كالأرض الخصبة والقابلة للزراعة، فما علينا وعلى الآباء والمعلمين وأصحاب الشأن التربوي إلا أن يبادروا تلك الطبقة من الشباب الجاهزة والقابلة ولا تحتاج إلا للرعاية والتوجيه والتربية والتعليم ولا يتركوها لأعدائهم فيستغلونهم أبشع استغلال ويسرقونهم منَّا بأيسر الطرق...

مقدمة حضارية

الحضارة الحقيقية هي حضارة القيم والفضيلة والأخلاق، وأما الحضارة الزائفة فهي حضارة المادة والرذيلة والانحطاط، وهذا ما نراه ونعيش في تنوره، أو أتونه اليوم بكل معنى الكلمة حيث تمادت قيادات هذه الحضارة الزائفة في تدمير كل معاني الفضيلة بل ودعت إلى كل أنواع الرذيلة، ثم تمادت أكثر عندما رأت أنها تتقدَّم فراحت تفرض الرذيلة على المجتمعات البشرية بالقوة، وتمادت أكثر بما لم يشهده التاريخ البشري منذ أبينا آدم (ع) وحتى اليوم وذلك بتقنين وتشريع القوانين بفرض الشذوذ والرذيلة لحمايتهم وتجريم مَنْ يستنكر عليهم تلك الأعمال التي يأباها الإنسان السَّوي، لأنها تعارض الفطرة السليمة، والأخلاق القويمة في الإنسان الطبيعي.

فهذه الحضارة اليوم تسير بخطى متسارعة إلى دمارها وهلاكها لأنها تفرض الشذوذ وتجرِّم الصحيح السَّليم، وهذه المفاسد والفواحش هي التي ضربها الله لنا مثلاً في كتابه الحكيم لتكون أمام أعيننا كناقوس خطر حتى إذا رأينا الناس قد ابتُلوا بها فلتحذر الأمة كل الحذر منها لأنها قد آذنت بنزول العذاب، وأصحابها استحق عليهم غضب الرب سبحانه وتعالى وذلك بقوله: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا). (الإسراء: 16)

فالله أمر الأغنياء والمترفين بالطاعة والعبادة ولكنهم رفضوا وعصوا الله وفسقوا وأفسدوا في الأرض كما نرى في الحضارة الرقمية بما لم نقرأ عنه في كل الحضارات والدول البائدة منذ آلاف السنين ولذا صدق عليهم قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ). (الروم: 42)

هذه الآية الكريمة تصف حال الحضارة الرقمية فعلاً لا سيما وأنها تمادت في الإجرام والمعصية وها هي تشرعن وتقنن الشذوذ، ثم تحاول فرضه بالقوة والمكر والخديعة على شعوب وأمم الأرض تلك الفاحشة التي ضرب الله من أجلها وأصحابها في سدوم وعمورا وما حولها من القرى اللوطية بما هم يقولون ويعترفون في تقاريرهم العلمية التي بحثوا فيها في أسفل وتحت البحر الميت فوجدوا: (أنها ضربت بقوة تعادل ألف قنبلة نووية التي أُسقطت على الناغازاكي وهيروشيما في الحرب العالمية الثانية)، ومكانها أحدث تلك الحفرة العجيبة والتي تسمَّى البحر الميِّت لأنها إلى الآن وبعد خمسة آلاف سنة غير قابل للعيش والحياة.

الشباب والطاقة الهائلة

وفترة الشباب هي ربيع الأمة، وهي الفصل الذي تنتظر فيه الأمة مستقبلها الزاهر وصيفها المعطاء وحصادها الرائع، لأن فصل الربيع هو فصل العطاء والتفتح وتفجُّر الينابيع في أرض الأمة وكل ساحاتها وكلما كان الربيع أجمل وأكمل وأروع كان صيفها أغزر وأكثر عطاء ونماء في كل مجالاتها، وكل ذلك يكون في شباب الأمة الزاهر وأجيالها التي تتطلع إليها لصناعة مستقبلها الذي تنتظره في بطن الزمن ومستقبل الأيام.

لأن الشباب فيه طاقات هائلة وإمكانات كامنة فيهم، ففيهم كل الاستعدادات ليكونوا بُناة حقيقيين للحضارة في المستقبل أو أن يكونوا -لا سمح الله- أداة فعالة في تدمير الحضارة الإنسانية على رؤوسهم كما فعل بنو إسرائيل في التاريخ عبر العصور والدهور، وذلك لأن هؤلاء الشباب صفحات بيضاء خالية وكما يقول أمير المؤمنين الإمام علي (ع) في وصيته الخالدة لولده الإمام الحسن المجتبى (ع) في نصيبين حيث قال له فيها: (إِنَّمَا قَلْبُ اَلْحَدَثِ كَالْأَرْضِ اَلْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْءٍ قَبِلَتْهُ؛ فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ، وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ اَلْأَمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ اَلتَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ، وَتَجْرِبَتَهُ، فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ اَلطَّلَبِ، وَعُوفِيتَ مِنْ عِلاَجِ اَلتَّجْرِبَةِ). (نهج البلاغة: ج۱ ص۳۹۱)

ما أعظمها من كلمات نورانية، وموعظة حقيقية، فالشباب المتفتح كالأرض الخصبة والقابلة للزراعة، فما علينا وعلى الآباء والمعلمين وأصحاب الشأن التربوي إلا أن يبادروا تلك الطبقة من الشباب الجاهزة والقابلة ولا تحتاج إلا للرعاية والتوجيه والتربية والتعليم ولا يتركوها لأعدائهم فيستغلونهم أبشع استغلال ويسرقونهم منَّا بأيسر الطرق ولذا قال سيدنا ومولانا وإمامنا الصادق (ع): (بَادِرُوا أَحْدَاثَكُمْ بِالْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ تَسْبِقَكُمْ إِلَيْهِمُ اَلْمُرْجِئَةُ)، (تهذيب الأحكام: ج۸ ص۱۱۱)

وما أكثر الطرق الشيطانية المخادعة والمظاهر الرقمية اللامعة في هذا اليوم فهي تخلب ألباب وتخدع عقول الكبار عدا عن الشباب والصغار من أبناء هذه الأمة وأجيالها، بما تمتلكه من إمبراطوريات إعلامية وإعلانية عملاقة تجوب السماء والأرض وتوزع المياعة والخلاعة في كل مكان بحيث وصلوا إلى مخادعنا وغرف نومنا ولم يسلم منهم كبيراً ولا صغيراً ولا رجل ولا امرأة فإنهم يمطرون الأرض بأنواع الفساد، بواسطة الفضائيات الشيطانية، ويوزعون فيها كل المياعات بواسطة الشبكة العنكبوتية التي صارت داء وبلاء ما بعده بلاء على الجميع ولم ينجُ منها حتى الأطفال الصغار للأسف الشديد.

والمستقبل ينذر بالأسوأ حقاً، فالمستقبل يصعب تصوره إذا لم ننتبه جيداً لما يُحاك ضدنا ويحضَّر لأبنائنا وأجيالنا الآتين، فالقادم قاتم فعلاً إلا أن يرحمنا الله وهو أرحم الراحمين ويهيئ لهم علماء ودُعاة يقومون على اسم الله وينهضون بالمهمة الصعبة في هذا العصر الأغبر لا سيما مراجع الدِّين الأكارم الذي تحملوا عبء حماية وصيانة هذه الأمة ولا سيما هذه الأجيال الشابة.

المرجعية متراس الأمة

والأمة قد خبرت هذه المسألة في أحلك وأعقد أيامها وظروفها في هذه السنوات العجاف حيث قدَّمت الحوزة العلمية الشريفة الآلاف من الشهداء، متبعة لتوجيهات وفتاوى المرجعية الرشيدة التي تتصدى لشؤون الأمة، فالحوزة في الحقيقة هي الخندق المتقدم في مواجهة شياطين الجن والإنس، كما أن المرجعية هي متراس الأمة وكهفها الأقوى وحصنها الأجدى، لأنها المؤتمنة على الدِّين والدنيا، والأمينة على حاضر الأمة ومستقبلها في مواجهة الأعداء.

أنقذوا شباب الأمة

وانطلاقاً من هذه السؤولية الكبرى التي تقوم بها المرجعية الشيرازية المباركة هي الدَّعوة التي أطلقها سماحة السيد المرجع والمربي الكبير السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام عزه) في محاضرته مؤخراً بمناسبة شهادة النبي الأعظم (ص) وقرب انتهاء موسم الأحزان في الأمة الإيمانية، في بيته المكرَّم في مدينة قم المقدسة حيث جاء في نهايتها قوله: "أحياناً قد يغرق الشاب في مستنقع القبائح نتيجة ابتعاده عن الإسلام، ولكن وبتأثير نصيحة واحدة يتغيَّر وينجو، وخير مثال على ذلك هو أبو ذر الغفاري، فقد كان في شبابه من عبّاد الأصنام، وحسب ما ذكرته المصادر التاريخية للشيعة وغيرهم كان من قطّاع الطرق، وقالوا عن شجاعته وقوّته: إنّه لوحده كان يشنّ الغارات على القوافل (قال ابن سعد في الطبقات: كَانَ أَبُو ذَرٍّ رَجُلا يُصِيبُ الطَّرِيقَ (يقطع الطريق على القوافل)، وَكَانَ شُجَاعًا يَتَفَرَّدُ وَحْدَهُ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيُغِيرُ عَلَى الصِّرَمِ فِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ عَلَى ظَهْرَ فَرَسِهِ، أَوْ عَلَى قَدَمَيْهِ كَأَنَّهُ السَّبْعُ، فَيَطْرُقُ الْحَيَّ وَيَأْخُذُ مَا أَخَذَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ قَذَفَ فِي قَلْبِهِ الإسلام)، في حين أنّ سائر قطّاع الطرق كانوا يشنّون الغارات بشكل جماعي، لأنّه كان يتواجد في بعض القوافل من الشجعان والبارعين في الحرب.

وهكذا شخص وبلقاء قصير مع النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) وحواره معه، انتبه ووصل إلى مقام بحيث قال بحقّه سيّدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أكرم بك يا أبا ذر إنك منَّا أهل البيت).

فالشباب القاطنين في الدول الإسلامية الذين ابتعدوا بمقدار ما عن المعارف الدينية، وكذلك الشباب الذين يعيشون في الدول غير الإسلامية وحتى الشباب غير المسلم، لهم القابلية على التغيّر والتحوّل.. فيجب على الجميع أن يسعوا ويبذلوا الجهود لأجل الشباب المشار إليهم، وأن يهتمّوا كثيراً وبجدّ إلى إيصال الإسلام الكامل للشباب وللأشبال".

فعلى الجميع وكل في مجاله ومن مكانه عليه أن يسعى جهده وطاقته في إنقاذ الشباب من براثن هذه الحضارة الفاسدة قبل أن يسبقنا إليهم الآخرون ويسرقوهم منا وربما يجعلونهم أسلحة في أيديهم لقلنا ودمارنا كما يفعل صبيان النار المجرمة من العصابات التكفيرية المجرمة حيث عاثت فساداً وإفساداً في البلاد والعباد على طول الأمة الإسلامية وعرضها، وما كان لهم ذلك لولا أن استخدموهم باسم الدِّين الإسلامي الحنيف فراحوا يقتلون المسلمين ويدمرون الإسلام باسم الإسلام العظيم.

وربما في الوصية التي أشار إليها سماحة السيد المرجع في حديثه عن أبي ذر الذي كان رابعاً أو خامساً في الإسلام وصار الرجل الصادق فيه، حيث جمع له خصال الخير وهو ما يمكن أن نسمِّيه بخارطة الطريق، والمنهج الرباني الرسالي لإنقاذ الإنسان في الفتن الدنيوية كلها إذا عمل بها، يقول: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ؛ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَوْصِنِي بِوَصِيَّةٍ يَنْفَعُنِي اَللَّهُ بِهَا.

فَقَالَ: نَعَمْ وَأَكْرِمْ بِكَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ مِنَّا أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَإِنِّي مُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ فَاحْفَظْهَا فَإِنَّهَا جَامِعَةٌ لِطُرُقِ اَلْخَيْرِ وَسُبُلِهِ فَإِنَّكَ إِنْ حَفِظْتَهَا كَانَ لَكَ بِهَا كِفْلاَنِ..

يَا أَبَا ذَرٍّ اُعْبُدِ اَللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ كُنْتَ لاَ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ وَاِعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ عِبَادَةِ اَللَّهِ اَلْمَعْرِفَةُ بِهِ فَهُوَ اَلْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَلاَ شَيْءَ قَبْلَهُ وَاَلْفَرْدُ فَلاَ ثَانِيَ لَهُ وَاَلْبَاقِي لاَ إِلَى غَايَةٍ فَاطِرُ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ اَللَّهُ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ثُمَّ اَلْإِيمَانُ بِي وَاَلْإِقْرَارُ بِأَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَنِي إِلَى كَافَّةِ اَلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اَللّٰهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً.

ثُمَّ حُبُّ أَهْلِ بَيْتِيَ اَلَّذِينَ أَذْهَبَ اَللَّهُ عَنْهُمُ اَلرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيراً وَاِعْلَمْ يَا أَبَا ذَرٍّ أَنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ أَهْلَ بَيْتِي فِي أُمَّتِي كَسَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ رَغِبَ عَنْهَا غَرِقَ.. وَمِثْلَ بَابِ حِطَّةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ دَخَلَهَا كَانَ آمِناً.

يَا أَبَا ذَرٍّ اِحْفَظْ مَا أُوصِيكَ بِهِ تَكُنْ سَعِيداً فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ..

يَا أَبَا ذَرٍّ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ اَلنَّاسِ اَلصِّحَّةُ وَاَلْفَرَاغُ..

يَا أَبَا ذَرٍّ اِغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سُقْمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ..). (مكارم الأخلاق: ج۱ ص458)

ماذا لو اتَّخذ شبابنا هذه الوصية الرسولية الراقية ألا تراها تخص الشباب دون غيرهم؟ وأنهم يجب ألَّا يشغلهم الفراغ باللعب بل يجب أن يستغلونه بالجد والاجتهاد وتحصيل العلوم المفيدة النافعة، ثم يستغلون ويستثمرون أيام شبابهم ولا يضيِّعونها لأنها الربيع الذي يزرعون فيه ما يريدون وستدور عجلة الزمن ليأتي الصيف عليهم وكل واحد سيحصد ما زرع في شبابه، وبعدها ستأتي أيام الخريف والشتاء القارسة ولن يفيدهم أو ينفعهم الندم على ضياع أيامهم باللعب وشبابهم بالتوافه التي لا طائل منها ولا خير فيها.

اضف تعليق