تعدَّ المؤسسات البحثيَّة من أهم ركائز العمل في الدول المتقدمة، حيث تسبق الآخرين من حيث قدرتها على امتلاك المستقبل، كما أنها تمثل القناة الرئيسة التي تمكّن صاحب القرار من التعرّف على الواقع والتخطيط للمستقبل وفق أساس علمي سليم، يأخذ في الاعتبار كل معطيات الواقع، ومؤشرات المستقبل ذات الصلة بموضوع ومضمون القرار...

من المتعارف عليه أن الانفجار المعرفي الواسع النطاق، والتقدم العلمي الذي يشهده العالم اليوم، لم يكن بفعل معجزة حدثت هنا أو هناك، بل هو نتيجة جهد علمي تراكمي منظم ومخطط له عبر مئات السنين، شارك في بنائه العلماء والباحثون والمبدعون من خلال البحث العلمي الموجه لخدمة البشرية على جميع الأصعدة. ويعتبر هؤلاء العلماء والمبدعون والباحثون هم الرصيد المكتنز للأمة في مواجهتها للأزمات الاقتصادية، والسياسيَّة، والاجتماعيَّة، والبحث العلمي هو واحد من أهم الأدوات المحققة للتقدم والنماء في المجالات كافة.

لذلك تعدَّ المؤسسات البحثيَّة من أهم ركائز العمل في الدول المتقدمة، حيث تسبق الآخرين من حيث قدرتها على امتلاك المستقبل، كما أنها تمثل القناة الرئيسة التي تمكّن صاحب القرار من التعرّف على الواقع والتخطيط للمستقبل وفق أساس علمي سليم، يأخذ في الاعتبار كل معطيات الواقع، ومؤشرات المستقبل ذات الصلة بموضوع ومضمون القرار.

واعُتبرت مراكز البحوث والدراسات إطاراً لولادة المشاريع الستراتيجيَّة الفاعلة، فقد شهدت الكثير من الدول في قارتي أوروبا وأمريكا قفزات علمية، امتلكت من خلالها زمام المبادرة وبنت قواعد مستقبلية، استناداً إلى النظريات التي جاءت بها تلك الدراسات والبحوث، وعملت على لملمة هذه القواعد النظرية والطموحات المستقبلية عبر تفعيل أنواع من الدراسات التخصصية.

وقد تتنوع مراكز البحوث والدراسات، وفقاً إلى طبيعتها وإلى المساحة العلميَّة التي تتعامل معها.

وإذا أخذنا هذه المعطيات العلميَّة بنظر الاعتبار مقارنةً بما هو متاح من مراكز بحثية في بلادنا، فلا نعتقد أن هناك أوجهًا للمقارنة، وهذا الأمر لم يقتصر على المرحلة التي أعقبت عملية التحول التاريخي التي شهدتها البلاد، وما تلى ذلك من تداعيات، بل الأمر يتعدى إلى أبعد من ذلك، لا سيما خلال العقود الأخيرة من حكم النظام السابق.

فعلى الرغم من تداول بعض المسميّات التي توحي بوجود مثل تلك المراكز البحثيَّة، إلا أنها في حقيقة الأمر كانت بعيدةً كل البُعد عن منهج وأساليب البحث العلمي الرصين، وبعضها كان أشبهًا بدكاكين ترويجٍ لأفكار وطروحات سياسية وأيديولوجية عقيمة.

ولكن رغم هذا وذاك نستطيع الجزم بالقول، بأننا نمتلك جميع المقومات التي تساعد على بناء منظومة متكاملة من المراكز والدراسات البحثيَّة ولجميع التخصصات العلميَّة والإنسانية.

وبطبيعة الحال فإن هذا الاعتقاد بالجزم لم يأتِ أعتباطاً أو من فراغ، بل يستند إلى أسس علميَّة وعملية، ورؤية استشراقية للمستقبل، وفي مقدمة ذلك هو امتلاكنا للبنية التحتية والفوقية، التي تتطلبها عملية النهوض والديمومة بمراكز البحوث والدراسات، ونعني بهذه البنية، هو وجود هذه النخبة الطيبة من العلماء والباحثين والمبدعين وفي جميع الاختصاصات داخل البلاد وخارجها ممن لديهم القابلية والقدرة على إدارة مثل هذه المراكزوالابداع من خلالها، بعد توفر المستلزمات الضرورية لذلك.

وهذا ما هو حاصل اليوم من خلال التواجد المتميز للعلماء والباحثين العراقيين في أرقى مراكز البحوث والدراسات التابعة لجامعات عالميَّة عُرفت بعراقتها وأصالتها، وبالامكان استدعاء هؤلاء المبدعين بعد تهيئة الظروف والأجواء الملائمة.

المُحفز الآخر الذي يدخل ضمن المقومات، الذي يمكن استثمارها للنهوض بالمراكز البحثيَّة مجدداًهو الاستناد إلى الأرث الحضاري للبلاد، على اعتبار أن العراق كان وعبر العصور المتعاقبة مركز إشعاعٍ حضاري، فكري ومعرفي، ساهم في وضع اللبنات الأساسية في صرح الحضارة الإنسانيَّة، وهناك الكثير من الشواهد التاريخية التي تؤكد ذلك.

إذًا فالبيئة الثقافيَّة والعلميَّة وامتداداتها التاريخية عاملٌ مساعدٌ ومشجعٌ على تفعيل دور مراكز البحوث والدراسات واستمراريتها، وبالتالي فهي مهيأةٌ لمعاودة النشاطات العلميَّة والثقافيَّة بمختلف أبعادها المعرفية.

ما نود التأكيد علية، هو ألّا ننظر إلى ترتيب الأولويات من خلال الظروف الآنية التي تحيط بنا، فنجعل من الأمر الضروري كماليًّا وبالعكس، فالكثير من التوصيفات الكماليات في نظر البعض هي بطبيعتها ضرورات حتمية.

وهذا الحال ينطبق تماما ً على دور وأهمية مراكز الدراسات والبحوث في حياتنا المعاصرة، فقد أصبح من مقتضيات الضرورة السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والثقافيَّة، باعتبارها الآلية الأمثل لإيصال المعرفة المتخصصة إلى صانعي القرار من خلال ما تقدمه من إصدارات علمية وندوات متخصصة تضاعف الوعي المعرفي لديهم، وتساعدهم على الربط بين الوقائع الميدانية وإطاره العلمي النظري.

وإذا اعتبرت أهمية مراكز البحوث والدراسات أمراً مُلحاً لدى الكثير من البلدان، فإن أهميتها ودورها يجب ان يكون أكثر إلحاحا ً في بلادنا للأوضاع المعروفة التي نعيشها اليوم.

وبلاشك فإن النهوض بهذا المرفق الحيوي يتطلب إعادة نظر وتقييم دقيق بطبيعة المراكز البحثيَّة، ذلك أن العصر الذي نعيش فيه يُحتم علينا أن ننافس الآخرين بقوة في المجالات العلميَّة والبحثيَّة.

إن مراكز البحوث لدينا بحاجة لإعادة نظر من حيث ارتباطها الإداري والتنظيمي، ودورها في التنمية المُستدامة، ومستوى مساهمتها في معالجة وخدمة قضايا المجتمع ومواكبة التغيرات المتلاحقة، التي يعيشها العالم في مجالات اختصاصها، كما أنها بحاجة لأن تكون أكثر انفتاحا على العالم وعلى قضايا المجتمع، وتعمل على استقطاب أفضل العقول البشرية لمواجهة متطلبات التطوير وتحديات العصر الذي نعيشه، بحاجة ايضاً لتبني آليات عمل أكثر مرونة وتفاعلاً مع مشكلاتنا وقضايانا.

وفي ضوء هذه المعطيات فإننا بحاجة إلى وضع ستراتيجيَّة يكون فيها لمراكز الدراسات والبحوث الدور الفاعل في تحديد المشكلات والمواضيع التي تحتاج لاتخاذ القرارات.

ولعل من أولويات هذ الستراتيجيَّة، هو إنشاء هيأة وطنية عليا للبحث العلمي تستقطب العلماء والباحثين المؤهلين والمتخصصين ولديهم الحس البحثي، وتسعى هذه الهيأة إلى الإسهام الفعّال في ربط مراكز البحوث والإشراف عليها، ورفع درجة التعاون والتنسيق في ما بينها، وكذلك رفع كفاية العمل البحثي العلمي وزيادة الإهتمام بالبحوث والدراسات الابتكارية والتطويرية والتشجيع على المبادرات في تقديم البحوث، التي تعالج مختلف القضايا السياسيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصادية وغيرها الكثير، بجانب صياغة لوائح وقوانين مشتركة تحكم الأداء وتحدد المعايير الكلية للبحوث والدراسات المختلفة.

إضافة إلى بناء وإدارة قاعدة بيانات موحدة لكل إنتاج البحث العلمي في البلاد، ومن ثم ضرورة الاستفادة من هذه المراكز وربطها بالتخطيط الاستراتيجي للدولة في حل مشكلات المجتمع المختلفة، واللحاق بركاب الدول المتقدمة.

.....................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق