q
يبدأ الكتاب بواقعة من التاريخ القريب نسبيا في البحرين، خمسينيات القرن الماضي، عندما نشرت مجلة بحرينية مقالا افتتاحيا تضمن كلمة (أمة) في اشارة الى البحرين، فتثير هذه الكلمة حفيظة شاب بحريني (قومي) يدرس في لبنان وقتذاك، هو د. علي فخرو، اذ رأى ان العبارة غير مناسبة، فالبحرين جزء من أمة وليست أمة...

بعد ان انتهيت من قراءة كتاب (أمة لا اسم لها .. من بناء الأمة الى تفككها) للبحريني د. كاظم نادر.. تساءلت عن جدوى الجهد الذي بذله الكاتب وما الذي اراد قوله ..؟ اعتقد انه اراد ان يقدم لنا نصيحة او يرغّبنا في حب الاوطان التي نعيش فيها وليست الاوطان (المتخيلة) تحت ضغط مشاعر قومية او دينية او طائفية ..الخ.

لكني ايقنت انه بعد ان شرّق بنا وغرّب وهو يعيد الينا تجارب (الوحدويين) العرب، وكيفية استلهامهم لتجارب الآخرين، لاسيما المانيا، انتهى هو ايضا الى مقولة لانرى فيها جديدا يثير الاهتمام ويستحق هذا العناء.. لأن ما اراد قوله لم يختلف معه فيه البحرينيون ولاغيرهم، فالانتماء الى ثقافة مشتركة تتجاوز الحدود السياسية لأي شعب في اية دولة لاتعني بالضرورة خيانة لمبدأ المواطنة، وإن تطرّف نفر قليل واندفاعهم مع مشاريع غير واقعية، لايعكس هوية البلد ومن ثم يجرّده من اسمه او يخل بوطنية السواد الأعظم من ابنائه..

يبدو لمن يقرأ الكتاب ان د. كاظم بقدر ما اراد ان يدين الخطاب القومي التقليدي وكذلك الخطاب الديني المتطرف، بعد ان عدّهما السبب الرئيس فيما حصل لنا، او هكذا يعتقد، اراد ووفقا لاجتهاده ايضا، اماطة اللثام عن ازمة ثقافة الهوية التي باتت تهدد وحدة الدول وتقسّم الشعوب، ولو كرّس جهده بهذا الاتجاه مستحضرا ما حصل لبعض البلدان العربية التي كادت تنتهي، لاسيما في حفلة (الربيع العربي) التي اعدّت تفاصيلها في الاقبية الدولية السوداء، لقدّم للقارئ شيئا يستحق الجهد الذي بذله، لكنه ومن حيث لايقصد اعاد انتاج الخطاب الذي أراد ادانته، لكن بشكل مقلوب!

يبدأ الكتاب بواقعة من التاريخ القريب نسبيا في البحرين، خمسينيات القرن الماضي، عندما نشرت مجلة بحرينية مقالا افتتاحيا تضمن كلمة (أمة) في اشارة الى البحرين، فتثير هذه الكلمة حفيظة شاب بحريني (قومي) يدرس في لبنان وقتذاك، هو د. علي فخرو، اذ رأى ان العبارة غير مناسبة، فالبحرين جزء من أمة وليست أمة وتعتذر المجلة هي الاخرى عن هذا الخطأ غير المقصود.

وينتهي الكتاب بواقعتين مؤلمتين، يستدرج د.كاظم القارئ لهما بعد ان يعبر معه اكثر من اربعمائة صفحة، لتكونا بمثابة مقولة كتابه هذا او انهما جاءتا تتويجا لثقافة ازمة الهوية، كما يرى، والتي بدأت مع حادثة المجلة المشار اليها.

والواقعتان هذه المرة بسياق ثقافي مختلف، الاولى بطلها شاب بحريني (شيعي) يذهب للدراسة الدينية في ايران وحين تحصل الحرب العراقية الايرانية ينخرط فيها بدوافع عقائدية (مذهبية) ويقتل بإحدى المعارك في الجبهة الشمالية علي يد قناص عراقي، ويدفن هناك، والثانية، لشاب بحريني آخر (سني) يذهب للدراسة في السعودية ومن ثم يجد نفسه مجندا للحرب في افغانستان وبعدها في البوسنة ويقتل ويدفن هناك ايضا!

في رحلة كتابه الطويلة، يقف د.كاظم عند جذور الفكر الذي اوصلنا الى هذه الحال، ويسهب كثيرا في ذلك، مستحضرا روّاد الفكر القومي العربي ومرجعياتهم الثقافية المفترضة، والتي يراها مترحلة من فكرة (الامة الالمانية) المبثوثة في خطابات الفيلسوف الالماني (فيختة) الشهيرة قبل وحدة الامارات الالمانية، وحثّه على ان يكون لتلك الأمة دولة قومية، وسيتحقق هذا لاحقا على يد بسمارك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي ثقافة يرى البعض انها وضعت بذرة النازية التي ظهرت لاحقا! .. ويؤكد على ان هذه الثقافة المتطرفة والمنحرفة بمثابة المحفز الأكبر للقوميين العرب الذين تأثروا بها او بخطابات فيختة وصاروا يتحدثون عن امة عربية موحّدة يراها هو (متخيلة)!

وبعيدا عن الخوض في تفاصيل ما جاء في الكتاب واستشهاداته الكثيرة التي اراد من خلالها تعزيز وجهة نظره، التي تقول بضرورة الانتماء للبلد الذي بات باسمه المعروف كالبحرين مثلا، والابتعاد عن هذه الطوباويات السياسية، نرى ان مايريده د.كاظم متحقق اصلا، لاسيما في دول الخليج، التي على الرغم من وشائج القربى بين شعوبها، وهي عامل مضاف للثقافة المشتركة، نرى ان ابناءها يتعصبون لبلدانهم بطريقة فيها شيء من التطرف، ويلاحظ هذا في البطولات الرياضية التي ينحاز كل مواطن اثناءها لبلده باسمه الذي اعتقد د. كاظم ان البحرينيين خسروه وبات أمة بلا اسم! انطلاقا من حوادث صغيرة ومتفرقة تحصل في اغلب دول العالم واكثرها انسجاما وتمسكا بالوطنية ..

شيء مهم يجدر التوقف عنده، هو استحضار د. كاظم لنموذجين من الأمة او فهمها، الماني ممثلا بخطابات الفيلسوف (فيختة) كما اشرنا، (ولد في منتصف القرن الثامن عشر وتوفي مطلع القرن التاسع عشر) وفرنسي ممثلا بطروحات (رينان) المؤرخ والمستشرق الشهير، (ولد في بداية القرن التاسع عشر وتوفي في آخره) ومن ثم اسقاط ذلك بطريقة تعسفية على تجربة الوحدويين العرب، وهنا يقع الكاتب في اشكال، كان عليه ان ينتبه اليه، فظروف (الولايات الالمانية) الممزقة قبل وحدتها في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، تختلف وقتذاك عن ظروف فرنسا التي بالإضافة الى كونها تنطوي على قوميات اخرى اندكت في الثقافة الفرنسية داخل حدود فرنسا الاوربية او دكتها القومية الفرنسية الاكبر بداخلها!

كان لفرنسا ايضا مستعمرات خارجها، فرضت على المثقفين الفرنسيين مراعاة ذلك للحفاظ على مصالحهم الاستعمارية، ولذا جاءت رؤية رينان او طروحاته بشأن الأمة مختلفة عن رؤية الالمان الممزقين. وهو ما كان يقابله شعور مماثل لدى النخب العربية، لاسيما خلال الحقبة العثمانية، حيث شعوبهم ممزقة الى ولايات واهنة وغارقة في الفقر والتخلف والضياع الحضاري، لاسيما بعد حملات التتريك وغيرها.

شخصيا لاارى في مثل هذه الكتابات شيئا مفيدا، وهي لاتنطوي على اكثر من نصائح لم تعد صالحة، فالعالم اليوم بات يبحث عن مشتركات ثقافية او يسعى الى صناعتها ليمد الجسور لبعضه ويشكل تكتلات (براغماتية) سياسية واقتصادية وامنية تخدم مصالح الناس وتحميهم من تغوّل الكبار واحلافهم العسكرية وكارتلاتهم الاقتصادية الضخمة .. ولن يعيي البحث احدا ان اراد التعرف على نماذج كثيرة موجودة اليوم في اسيا وافريقيا واوربا واميركا اللاتينية وغيرها .. نعم ان الآليات اختلفت عن النماذج الوحدوية السابقة، لانها جاءت في سياق ظروف سياسية وثقافة مختلفة، لكن الجوهر يبقى واحدا، وهو المصالح.

ولو ان د. كاظم وظّف جهده في نقد التجارب الوحدوية العربية السابقة (الفاشلة) لتخطيها الأهم لصالح الاقل اهمية منه، لكان جهده اكثر فائدة، اي انه لو تحدث عن ضرورة ايجاد صيغة للتكامل الاقتصادي او الأمني العربي، بدلا من تجارب الوحدة الاندماجية، لان البلاد العربية تتكون من مجموعة بلدان او امصار منذ القدم، ولأغلبها ثقافات راسخة خاصة بها، مثل العراق ومصر وبلاد الشام واليمن والجزيرة العربية وشمال افريقيا وغيرها.

وقد توحدت هذه الثقافات او الحضارات وتصاهرت بعد ظهور الاسلام قبل الف وخمسمائة سنة تقريبا، وكرّست نموذجا موحدا للّغة، وهو المنجز الأهم حضاريا لأبنائها ويصعب التفريط به، وان الدعوات للتخلي عن العربية تقف خلفها يقظة الثقافات القارة القديمة المشار اليها، ولكنها تبقى دعوات لاقيمة عملية لها! اما الوحدة الاندماجية فهي مشروع فاشل، لأن اي من الامصار العربية لن تقبل بتسيّد آخر عليه، في الاقل لزمن غير قليل قادم، وهذا هو المسكوت عنه في ثقافتنا السياسية عند نقد تجاربنا الفاشلة. وتجربة الوحدة المصرية السورية خير شاهد.

لم اسع من خلال هذه السطور الى عرض هذا الكتاب او نقده، لان ذلك يحتاج الى شرح وتفصيل اوسع قد يحتاج الى عشرة اضعاف هذه السطور، وانما توقفت عند خلاصته او ما اعتقد ان الكاتب اراد ايصاله .. بدليل الاستشهادين الواردين في البداية والنهاية، والمؤكد ان فيه اشياء اخرى قد يرى البعض فيها اضافة .. متمنيا للمؤلف د. كاظم نادر الموفقية في مشروعه الثقافي، لاسيما انه الآن في قمة عطائه.

الكتاب صدر عن دار الشؤون الثقافية في بغداد العام 2021.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق