q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

المسلم وثلاثية العابثين

من هو المسلم؟ (8)

الذي ينشغل باللهو كأنه يشتري شيئا بلا فائدة، ويفقد عمره بلا ثمن، فيهدر وقته في الفراغ وفي اللاشيء وفي اللامعنى، فيقوده حديثه ولهوه إلى الضلال فينحرف عن سبيل الله من دون علم بسبب الجهل، فاللاهي يزداد جهلا وانحرافا وضلالة وخسارة في الحياة، ثم ينتهي بالنتيجة إلى المهانة والعذاب...

الإنسان الذي لم يُخلَق عبثا مطلوب منه أن لا يعيش عبثا، وينبغي له أن يعقل غاية وجوده، فيكون عمله في ضوء هذه الغاية، والهداية الإلهية تأخذ بيده لتنطلق به في طريق الرزق والصلاح، فالعمل الذي يقوم به الإنسان ينبغي أن يكون له باعث وغاية، وأن يكون إيجابيا، وقد أراد الإسلام أن تكون هذه السمة خطا عاما في تربية الفرد والمجتمع.

في هذا المقال نريد أن نركز على موضوع متفرع من محور (المسلم بين العبث والغاية) يتعلق بثلاثية منبثقة من العبث وهي (اللهو، اللعب، اللغو) حيث العالم اليوم يعيش عبثا هائلا، بسبب التقدم المادي والتكنولوجي وتغول الرفاه الاستهلاكي، لكن هذا التقدم المادي والتكنولوجي ليس هو العتبة الأساسية أو المدخل الأساسي للعبثية البشرية، بل يكمن في ذلك التفكير الذي نشأ عند بعض مفكري ما بعد الحداثة، الذين فلسفوا لعدم الحاجة الى القيم ولا للغايات ولا للأديان ولا للأخلاق، وبأن مايحتاجه الانسان هو اللذة والمتعة واللهو بما يعبر عن حريته الشخصية وتشكيل وجوده الخاص.

الاستهلاك العبثي

هكذا ينظرون إلى وجود الإنسان في اللذة والمتعة، ولكن لننظر إلى أين وصل هذا العبث بالمجتمع البشري، لقد وصل إلى حد أنه قابع فوق جبال من الأسلحة النووية التي إن انطلقت سوف تدمر البشرية كلها، ولا تبقي لها أثرا، وهذا العبث قابع أيضا في تغيّر مناخي هائل، واحتباس حراري مهول بسبب التصرف الطائش العبثي الذي تقوم به الرأسماليات والأنظمة الفاسدة في العالم، حين تلاعبت بالطبيعة واستهلكت مواردها.

الإنسان وخصوصا المسلم عليه أن لا يسير وراء هذه الثقافة العبثية، وأن يكون مدركا لغايته في الحياة، ومدركا لغايته الإسلامية، ويكون متلبّسا بالتفكير الإسلامي الذي يجعله سائرا في طريق القواعد الإلهية حتى يحميه من السقوط في العبث المدمر لحاضرنا ومستقبلنا، فالتفكير بالمخاطر والعواقب مهم لكي يخرج الإنسان من هذه الحالة.

العبث ظلاميّة في النفس

الطمع بالسلطة هو نوع من أنواع العبث الذي يريده البعض حتى يستمتع بلا غاية، ولكن ثم ماذا، فإذا كان (عمل تذهب لذته وتبقى تبعته) كما قال الإمام علي (عليه السلام)، ثم ماذا بعد اللذة، وبعد هذا العبث، يأتي عبث آخر وآخر... حتى يغرق في دوامة مظلمة ليس لها نهاية، فالعبث المستمر يصطدم بعالم من الظلامية يستفحل في نفس الإنسان، ويستقر في اعماق البشرية التي خرجت عن غايتها الأساسية وانحرفت عنها ودخلت في عالم مظلم، متلبّسة باليأس والإحباط والقلق والشك الوجودي.

الإمام علي (عليه السلام) يقصد أولئك الطامعين بالسلطة في هذه الكلمة الرائعة ويحدد لنا غاياتنا في الحياة، فيقول (عليه السلام): (أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً).

غريب هذا الانغماس الكبير واللهفة الكبيرة على المادة كالبهيمة، وعجيب هذا الاهمال والترك، وقد حبانا الله تعالى بالعقل والادراك، والعقل يوجهنا إلى وجود غاية وفهم لطريقة صحيحة في الحياة.

اللهو وهدر الوقت

لقد أصبح الّلهو اليوم نمط حياة منتشر جدا، وتعريف اللهو هو كل فعل يهدر الوقت ولا يفيد الإنسان بشيء، وهو اللعب غير المجدي والأعمال غير النافعة، وإضاعة الوقت في أمور غير مجدية ولا تفيد الإنسان، (كالبهيمة المربوطة، همّها علفها)، فتأكل كل شيء يقع أمامها، لأن البهيمة لا تعرف ماذا تأكل، فكل شيء يكون أمامها تأكله دون أي تفكير بالعواقب.

هذا لا يصح للإنسان لأنه كائن عاقل، يجب أن يكون في حياته التي يعيشها هدف، كل إنسان عليه أن يسأل نفسه من أين بدأت وإلى أين سأنتهي، هذا السؤال يجب أن يكون موجودا عند كل إنسان، لأنه خُلق ومعه العقل لذا عليه أن يستثمر عقله ويعرف هدفه.

وفي الآية القرآنية: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) لقمان 6. أي أن الإنسان الذي ينشغل باللهو كأنه يشتري شيئا بلا فائدة، ويفقد عمره بلا ثمن، فيهدر وقته في الفراغ وفي اللاشيء وفي اللامعنى، فيقوده حديثه ولهوه إلى الضلال فينحرف عن سبيل الله من دون علم بسبب الجهل، فاللاهي يزداد جهلا وانحرافا وضلالة وخسارة في الحياة، ثم ينتهي بالنتيجة إلى المهانة والعذاب في الدنيا والآخرة، لأنه بالنتيجة عندما لا يقدّر نفسه فإنه يهينها.

اللاهون لايشبعون

إن الآية القرآنية التي ذكرناها آنفا أجابت عن هذا الأمر، وأن هذا السلوك هو تضييع للنفس، وتضييع للعمر وخسارة، وجبن وهزيمة في مواجهة تحديات الواقع، واقع الإنسان حين تكون نفسه رخيصة، فيهرب نحو اللهو والعبث، والعجيب في هذا الأمر إن أولئك الذين يهربون من واقعهم باللهو يُصابون باكتئاب شديد، ولا يشبعون، أي لا يحصلون على الإشباع الروحي والنفسي، فيبقى يشعر بالفراغ، ومهما غاص في الملذات فإنه يصل إلى مرحلة معينة يفقد كل شيء، لأن اللهو ليس غاية وإنما عبث.

العبث يصل بالإنسان الى النهاية السوداء، لذلك فإن هذا الهروب هو هروب وهمي من واقع حقيقي، والإنسان العاقل الذكي، سوف يتصدى لهذا الواقع، ويستغل عمره في عملية بناء نفسه وذاته، أما عكس ذلك فإنه سوف يفشل.

ما هي نتائج السقوط في عالم اللهو؟

هناك نتائج عجيبة غريبة يمكن أن نلاحظها عند كثير من الناس الذين انغمسوا في اللهو وهي:

أولا: الغباء والتفاهة

فكلما يبتعد الإنسان عن الواقع باللهو واللعب والاستغراق في اللذات والمتع، يزداد جهلا ويتضاءل عقلا، وبالنتيجة يصبح تافها، وقد سمّي عصرنا هذا بعصر التفاهة لكثرة الملذات والملهيات، وكلما كثرت اللذات والمغريات يزداد الإنسان تفاهة وغباءً، لأن الإنسان إذا لم يملأ عقله بالأفكار الصحيحة السليمة والجدية والجيدة، فإنه يمتلئ بالتفاهات الفارغة والمضلة والمنحرفة، والمعلومات الخاطئة. لذلك فإن الملتهي او اللاهي كثيرا يفتقد قواعد التفكير السليم والتعقّل الصحيح.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (اللهو قوت الحماقة) فكلما يتغذى الإنسان باللهو أكثر، يزداد حماقة، لايستخدم طاقاته بشكل جيد، كالمدمن على الخمر أو المخدرات، فإنه يهرب من الواقع حتى يهرب من مشكلاته، كذلك اللاهي أيضا يغرق نفسه بالجهل هربا من مسؤوليات الوعي والتعلم فيصبح غبيا وأحمقا.

وعن الإمام علي الهادي (عليه السلام) يقول: (الهزل فكاهة السفهاء وصناعة الجهال)، الهزل هو المزاح الذي لا معنى له أو يفتقد للمعنى، وفيه نوع من الاستهزاء والسخرية، والتنابز بالألقاب، فيعتبر نفسه كوميديا فيأنس ويضحك عندما يهزأ بالناس.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (من كثر لهوه استحمق)، و(من كثر لهوه قلّ عقله) أي يتضاءل عقله، لذلك إذا أراد الإنسان أن يبني عقله وينمو ويكبر ويتطور، فإن (أفضل العقل مجانبة اللهو)، لأن (اللهو من ثمار الجهل) فكلما يزداد الإنسان جهلا يزداد فقدانا لغايته، ويزداد لهوا وعبثا في الحياة.

ثانيا: تضييع العمر

عن الإمام علي (عليه السلام): (شرّما ضُيِّعَ فيه العمر اللعب)، ولكن على العكس من ذلك (المؤمن مشغول وقته)، أي ممتلئ بالبر والإحسان والعمل الصالح.

ثالثا: النزاع والصراع

إن سبب النزاعات والصراعات هو اللعب واللهو، لأن اللهو يجعل الإنسان يزداد جهلا ويقلّ حكمة وعقلا، ويصطدم مع الآخرين لأنه يفقد قواعد التعقّل والحكمة.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (أول اللهو لعبٌ وآخره حرب)، فبعض الحكام المتغطرسين المستبدين الطغاة عندهم الحرب لعبة، يتلذذَون بها، كما ان بعض المفكرين أو المثقفين العبثيين وكذلك وسائل الاعلام، يتلاعبون بأفكار وعقول الناس وعواطفهم، فالحياة عندهم لعبة، ويسمونها لعبة الحياة، ويسمون السياسة لًعبة أو قواعد اللعبة، وكل شيء يؤطّرونه في إطار لعبة، وكأنه صراع ومنافسة.

ومنها لعبة الأمم وصراعات الأمم، وهذا هو العبث وفقدان الغاية في الحياة، وكل ما نلاحظه في عالم اليوم هو نتيجة للعبث الأخلاقي، وبالنتيجة البحث عن المتعة، فالهدف بالنسبة لهم المتعة، فيحصلون على الموارد ثم يصرفون ما يكسبونه على المتع، لذلك يُكثّرون من أماكن اللعب واللهو بمختلف الأشكال، حتى يكون وقت الإنسان كلّه مشغول باللهو.

وقد أصبح الإنسان في هذا العصر يعمل كل أيام الأسبوع، ثم يصل إلى عطلة نهاية الأسبوع فيصرف ما كسبه على اللعب واللهو والمتعة.

ربما يحتاج الإنسان إلى نوع من الترويح النفسي لكي يكسر الروتين الذي أمضاه على مدار الأسبوع، بالعمل والجد والكدّ والدراسة، فانه قد يحتاج أحيانا إلى السفر مثلا، وإلى اللذة الحلال واللذة المؤدبة، وإلى المتعة المنضبطة التي تنبع من غاية وتصل الى غاية.

الإنسان الذي يستثمر وقته بالجلوس مع أصدقائه، تارة يجلس معهم جلسة لهو ولغو يقضونها بالتسقيط والتنابز والنميمة، وتارة يخرج معهم بمباحث جميلة مربية ومنبّهة وفيها موعظة، وتارة يسافر، أو يمارس بعض الألعاب الرياضية التي يحتاجها الإنسان جسما وروحا، فيقضي وقته في أشياء جيدة نافعة له.

لماذا أصبح الإنسان كئيبا؟

لكن اللهو أصبح اليوم ثقافة، سلوك متكامل، وأصبح اللهو غاية في الحياة، فغايته مثلا أن يرتاد المطعم ليأكل، أو يمضي وقته في اللعب، وفي المقاهي، أو ينفق كل وقته في شبكات التواصل الاجتماعي بلا فائدة، لذلك نلاحظ أن الإنسان أصبح كئيبا، فكلما ينشغل الإنسان بعالم العبث يصبح أكثر كآبة، وكلما اقترب من الغايات يصبح أكثر سلامة نفسيا.

هذه الكآبة سبّبت للإنسان آلاما نفسية، وإذا أراد أن يتخلص من هذه الآلام يذهب إلى أماكن اللهو لكي يزيح هذه الآلام، وهذا نوع من التغطية على واقعه ومشكلاته الحقيقية، حتى أن الأطباء النفسيين يصفون هذه الأمراض بأنها أمراض الكآبة، حيث يستغرق الإنسان وقته في أشياء معينة يدمن عليها، مثل التسوّق واللهو واللعب وقضاء الوقت في المقاهي والمطاعم.

الإشباع والتناسق مع الغاية

هذا كله نوع من التغطية على الفراغ الذي يعيشه الإنسان في داخله، ولكن لا يحقق النجاح في هذا الأمر ولا يحصل على الإشباع، لأن الإشباع الحقيقي هو إشباع روحي ونفسي، يتحقق من خلال التناسق مع الغاية، فالإنسان المتوازن في حياته وشخصيته، لابد أن يتناغم مع الغايات الأساسية، ويخرج عن حالة العبث، وينقذ نفسه من حالة تضييع الوقت في أشياء غير مجدية لاغية ولا معنى لها، وليس لها مضمون في حياته.

رابعا: الفشل

عن الإمام علي (عليه السلام) قال: (أبعد الناس من النجاح المستهتر باللهو والمزاح)، فعندما يقضي وقته كله بالمزاح واللهو يكون إنسانا فاشلا، لانه غير جدي في حياته، والنجاح يتحقق كما عنه (عليه السلام): (المؤمن يعاف اللهو ويألف الجد)، فيكون جدّيًا في حياته، وليس بمعنى صارمًا، بل معنى ذلك أنه مستثمر لوقته بشكل جيد يتناغم مع غايته الأساسية.

خامسا: قسوة القلب

من نتائج اللهو انه يبني القسوة في قلب الإنسان ونفسه وفكره، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الملاهي تورث قساوة القلب وتورث النفاق) فتغيب الأخلاق تماما، ولا توجد محبة ولا تسامح، ولا يوجد تفاهم مع الآخرين، وحين يستغرق الإنسان في العبث فإنه سوف يواجه كل هذه النتائج، ويكون قاسيا، ويصبح إنسانا لا مباليا كما ذكرنا ذلك في محور اللامبالاة سابقا، ومن يكون قلبه قاسيا لا يتفهّم الحياة، ولا يتفّهم الآخرين.

لذلك نلاحظ أن الذين ينشغلون في اللهو واللعب، تكون قلوبهم قاسية جدا، لأنه ليس لهم مبدأ في الحياة، وهناك ازدواجية في شخصياتهم وتعاملهم مع القضايا، فيتباكون على قط مشرد ويغضون البصر عن ملايين الجائعين، وهذا هو معنى النفاق، فمن المهم أن نركز على نتائج اللهو، حتى يتجنب الإنسان الوقوع في هذه النتائج العبثية الخطيرة.

اللغو وفقدان المضمون

هناك ثلاثة مصطلحات تدخل في معنى العبث، (اللهو، اللعب، واللغو)، فاللهو يرتبط بسلوك الانسان ويعني تضييع الوقت وتضييع العمر، واللعب فقدان الهدف والفائدة في الحياة، واللغو يعني فقدان المضمون والجدوى وفي الآية القرآنية (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) المؤمنون 3.

واللغو منتشر في المجتمع بكثرة، ويتضح ذلك من كثرة الكلام الذي لا فائدة فيه، كالنميمة، الكلام الهذر، الثرثرة الزائدة، حيث يجلس الناس ويغتابون الآخرين، في بعض الأحيان يقول الإنسان كلمة واحدة تحطم أناسا آخرين.

ومعنى اللغو ما لا يعتدّ به من كلام وغيره، ولا يُحصَل منه على فائدة ونفع، لنفترض أنك الآن تدير جلسة ما، وبمجرد أن تبدأ كلامك تتحول الجلسة إلى ثرثرة زائدة، ولغو في أشياء ثانية، والفرار من الكلام الجدي والنافع.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) (في قوله تعالى: (والذين هم عن اللغو معرضون) هو أن يتقول الرجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك، فتعرض عنه لله). أي يتّهمك أو يغتابك أو يمارس التسقيط عليك، بما ينتابه من أوهام وحسد.

ما يعنيك وما لا يعنيك

وفي جوهر كلامنا حول هوية المسلم، هو المسلم الغائي، المسلم الذي يعيش الهدف في عمره، وأن يترك ما لا يعنيه يعرض عن اللغو ويذهب في ما يعنيه، فإذا لاحظت أحدهم يغتاب إنسانا آخر عليك أن تبتعد فورا، لأن هذا الموضوع لا يعنيك، بل يسمّم فكرك بمقولات باطلة، مقولات يروجها من في نفوسهم مرض، فزادهم الله مرضا.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وعن الإمام علي (عليه السلام): (من اشتغل بما لا يعنيه، فاته ما يعنيه) وهذا هو الذي أشرنا له في قضية ترك الأهم والمهم والعمل بغير المهم أو العمل باللغو الذي هو أسوأ المراتب، فأسوأ المراتب أن يشتغل الإنسان باللغو والكلام الذي لا فائدة منه.

ومهما تكلم الإنسان ضد الآخرين، أو حاول أن يسقّطهم، فإنه لا يفلح، ويبقى مريضا، لأن هذا الأمر هو مرض نفسي، فيبقى يشتعل في داخله، لذلك جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (راحة النفس ترك ما لا يعنيها)، إذن اترك الناس وشأنهم ولا تتدخل في حياتهم، فالأمر لا يعنيك، أحيانا يتدخل أحدهم في بناء بيت وهو لا يمتلك الخبرة في البناء، ومع ذلك تجده يتدخل فيه رغم عدم معرفته ببناء البيت، فيحاول أن يجعل من نفسه مهندسا ويتدخل في البناء إلى أن يؤدي ذلك إلى مشكلة في بناء البيت، وينطبق هذا على أمور أخرى كثيرة.

هناك إنسان لا يمتلك الخبرة ومع ذلك ينصح إنسانا آخر بشيء لا يعرفه، فيقول له مثلا يجب أن تشتري الحاجة الفلانية، فيقوم الشخص بشرائها ثم يكتشف أنها لا تفيده بشيء، وهكذا ألحق ضررا بالشخص لأنه تدخّل فيما لا يعنيه، وليس من اختصاصه.

وعن الإمام الصادق (ع): (إياك والدخول فيما لا يعنيك فتذل). فالكرامة والعزة في السلوك الحكيم الذي يدرك عناصر النجاح والتوفيق، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ترك ما لا يعني زينة الورع)، والذلة والمهانة والفشل للسلوك العابث الذي يستغرق في الجدالات والصراعات اللاغية والامنيات الغبية، وعدم إدراك ما يجب ان يدرك، فمن يتدخل خارج حدوده وقدرته وفهمه ويتحدث فيما لايجب مصيره الفشل، والبعض لايتورع ويقف عنده حدوده ويتسنم موقعا او منصبا فيتسبب بأضرار هائلة قد لايمكن تلافيها.

للأسف أننا اليوم نشعر بوجود تسونامي هائل من اللغو، يضرب المجتمع الفاقد للمضمون، لذلك فإن المجتمع الذي يفقد المضمون، تجده يعيش في مشاكل كبيرة، لأن الكلام كلّه خاطئ وعبثي لا علاقة له بالحقيقة والواقع، فتجد المجتمع كله مستنقع للأخطاء والزلّات والانحرافات بسبب اللغو الذي يمارسه ويستمتع به.

وعن الامام علي (ع): (لا تقولن ما يوافق هواك وإن قلته لهوا أو خلته لغوا، فرب لهو يوحش منك حرا، ولغو يجلب عليك شرا).

الاعتدال بين الخوف والرجاء

ما هو الكلام المباح الذي لا يندرج ضمن اللغو، ومن يحدد هذا النوع من الكلام؟، الإمام علي (عليه السلام) يحدّد ذلك بقوله: (أفضل المسلمين إسلاما من كان همه لأخراه، واعتدل خوفه ورجاه) الاعتدال طريق للحياة الصالحة، لان غايته آخرته، وحين يفكر بالآخرة سوف يتجنب اللغو واللهو والعبث، لأن الآخرة عنده غاية، فيكون حذرا.

إذا كان الإنسان عنده غاية وهو عاقل ومؤمن وخاشع، فإنه بالنتيجة ينسجم مع غايته، (واعتدل خوفه ورجاه)، أي يكون معتدلا في حياته ولا يكون خائفا إلى درجة تعيق غايته في الحياة، بحيث يكون خوفه قائما على الاعتدال في طريقة منهجية منتظمة، وأن لا يكون في رجائه إفراط، فهو يعيش حياته عابثا مستمرا في لهوه لكنه يرجو من الله أن يغفر له.

اللذة في الاعتدال

لذلك نحتاج إلى التوازن في قضية العبث والله واللغو، ويجب على الإنسان أن لا يُفْرِط ولا يفرِّط، بالطبع أغلب الناس مفْرطين في قضية العبث واللهو واللغو، بينما الإنسان المعتدل يكون سعيدا مستقرا ومرتاحا، ويقضي حياته بسعادة ومتعة ولذة لأنه يعيش التوازن في حياته، واللذة الحقيقية تتحقق في الاعتدال، فالإنسان إذا تناول الطعام وأكل أكلا قليلا فإنه يلتذّ بالطعام، أما إذا أكل طعاما كثيرا فوق طاقته فإنه سوف يُتخَم، وتصيبه الآلام.

فما فائدة اللذة التي تسببت له بالآلام من التخمة، لذا يجب عليه الاعتدال، وأن يأكل بما يتناسب مع حاجته للطعام، وليس مع شهوته وأهوائه، لأن الأهواء تقود الإنسان نحو العبث واللهو واللغو، فالاعتدال منهج حياة، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).

الاعتدال هو الذي يوصل الإنسان إلى الغاية وإلى الهدف ويجعل حياته منظَّمة متوازنة، ويكون قادرا على إدارة كل ما يجري حوله، ولابد للإنسان أن يعتدل في تقسيم وقته أيضا مثلا للعبادة والدراسة والأعمال التي تنفع الناس، لأن الإنسان كائن اجتماعي ولابد أن يكون له تواصل مع الآخرين كعيادة مريض أو صلة الأرحام، وهي سلوكيات تنضوي تحت مهمات المسلم والمؤمن حقا.

* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

اضف تعليق