لا يمكن علاج التصحر وموجات الغبار، دون معالجة تصحر عقول بعض الساسة، الذين خلت عقولهم سوى بالتفكير بالمصالح الفئوية والشخصية، ولا يمكن التخلص من غبار ما قالوا ولا يفعلون، إلاّ بوجود من لا يفكر أن يأكل دجاج وشعبه يتلقى العجاج، ومن أجل استمرار الحياة والحفاظ على النظام...
يقول المثل الشعبي (ناس تأكل دجاج وناس تتلكًه العجاج)، ويضرب للإختلاف بين الناس، ومنهم من يعيش الرفاهية على حساب شقاء الآخر، وأحياناً يُقال عن إختلاف الحظوظ، إلاّ أنها ليست عامل أساس في مقياس الفرص، التي يعرقلها ظلم الإنسان للإنسان، أو كفران بالنعم الموجدة بعدم إستثمارها، وحديث المسؤول يختلف عن عمله حتى يُقال شعبياً عن من يكذب كثيراَ (ترابه يعمي)، ولكن شعر شعبي آخر يقول (ترابه يعمي العين.. بس يبقى بيتي)، وهذه المرة قد يكون الإنسان مجبر على عيش في بيت لا يلائم.
المثل يتحدث عن التوزيع الطبقي بين أفراد المجتمع، ويقسمهم الى فقراء وأغنياء، منهم من يأكل الدجاج عندما كان غالي الثمن، وأخر بين أجير جهوده تذهب لغيره كالإقطاع الذي يأخذ الفلاح بالسخرة أو أقل من ربع أجره، أو من لا يجد حتى هذه الفرصة والمعادلة الظالمة، ودائما ما تذكرنا التاريخ بالإمبراطور والقائد والملك الذي يجلس في قصور تخلد باسمه، وهي مبنية على أكتاف فقراء، ولم يتوقف الترف بالدجاج، في وقت تنفق الملايين لعمليات التجميل، وسفر للخارج لقلع سن، وهناك من يتضور جوعاَ ولا يملك مبلغ دواء منقذ لحياته.
تعرض العراق الى موجات متتالية من العواصف الترابية، نتيجة طبيعته شبه الصحراوية، وأتربته يستنشقها الفقير في منزل لا يقيه من الأتربة والأمطار وحرارة الصيف، في وقت تزاحمت بيوت المدن وإكتضت بالسكان، وتحولت الى مساكن صغيرة لا تناسب العيش، بين حاجة السكن وغلاء العقارات والبحث عن فرص عمل وخدمات أفضل، بينما 80% من الأراضي مملوكة للدولة، وصحاري تمتد بين المدن تحتاج الى إستثمار زراعي، ومن الممكن توزيعها كمقاطعات زراعية، مع توفير مستلزمات القروض وتنظيم المياه، وخطط لتنويع المنتج المحلي وتكافأ الفرص.
تزايدت الأتربة في السنوات الأخيرة، نتيجة الزحف على المناطق الخضراء في المدن، وتحويل آلاف البساتين الى مساكن، دون وجود حلول واقعية بتوزيع أراضٍ بعيدة عن التأثير على البيئة، أو التفكير بإحاطة المدن بالتشجير، إضافة الى شح الأمطار الذي لم يقابله خطط لخزن المياه، والأراضي الواسعة المتصحرة، قابلتها عقول سياسية متصحرة، كان من الممكن تجاوز التصحر بخطط إستراتيجية ودراسة كل الإمكانيات، التي من خلالها تجاوز شح الأمطار، أو موجات الغبار بالأحزمة الخضراء التي تحيط المدن، أو الإستثمار الزراعي للصحاري الواسعة.
إن آكلي الدجاج كثر عددهم، وتنوعوا بين الطوائف والقوميات وبين ساسة وجشعين ومقاولين وفحاش الأثرياء، الذين فتحوا أبوابهم للفاسدين وفتح الفاسدين أبواب لهم، ويتركون أبناء جلدتهم من متلقي العجاج بين الفقر والعوز والهجرة، والتخلف وتوقف التعليم وإنتهاك الأعراض، وهم يجوبون العالم بالهبات والعطايا، وأبنائهم يرسلون لأرقى المدارس والجامعات العالمية، وعوائلهم تعالج في أفضل المستشفيات الأجنبية، فإزداوا رفاهية وتزايد من يتلقون العجاج، وخنق المواطن غبار كذب المسؤول بالوعود، أكثر من غبار التصحر.
لا يمكن علاج التصحر وموجات الغبار، دون معالجة تصحر عقول بعض الساسة، الذين خلت عقولهم سوى بالتفكير بالمصالح الفئوية والشخصية، ولا يمكن التخلص من غبار ما قالوا ولا يفعلون، إلاّ بوجود من لا يفكر أن يأكل دجاج وشعبه يتلقى العجاج، ومن أجل استمرار الحياة والحفاظ على النظام قبل الانهيار، لابد للطبقة السياسية من إشراك مواطنيها كي ترفع من قدرهم ويكونون عوناً للدولة، والإستفادة من خبراتهم وحاجتهم، والشعب يملك الإمكانيات والطاقات والأفكار، ويستطيعون زراعة وصناعة غذائهم ودوائهم ويعمرون مدنهم، وكل الدول التي إنهارت، فإنها بنت نفسها بالإعتماد على الكفاءات والتكنوقراط وإبعاد الفاسدين، ومتلقي العجاج لا يمكن أن يصبر طويلاً، ويقول برنادشو: (إن السلطة لاتفسد الرجال إنما الأغبياء إن وضعوا في السلطة فإنهم يفسدونها)، والإغبياء من تصحرت عقولهم، وما كلامهم سوى غبار وعجاج ما عاد يطاق.
اضف تعليق