لا تذهب إلى قبرك وأنت تحمل في‮ ‬داخلك أفضل ما لديك‮. ‬اختر دائماً‮ ‬أن تموت فارغاً‮! ‬الحياة معلِّم قاسٍ‮ ‬جداً،‮ ‬لا‮ ‬يمنحنا درساً‮ ‬من دون مقابل،‮ ‬ما علينا سوى أن نتأمل كيف تسير أحوال العباد في‮ ‬العراق بالمقلوب،‮ ‬وتنتهك إنسانيتهم،‮ ‬وتصبح الحياة كأنها الموت الأبدي‮...

التقاعد ثقافةٌ‮ ‬قبل أن‮ ‬يكون فكرة مرتبطة بالوظيفة والحياة‮. ‬هو سلوك مرتبط بطريقة حياة وممارسة‮. ‬والبشر اتجاهاتٌ‮ ‬وأذواقٌ‮ ‬ورغبات مختلفة‮. ‬وهو جدلية حياة،‮ ‬وطبيعة بشرية‮. ‬فما‮ ‬يرضيك قد لا‮ ‬يرضي‮ ‬الآخرين،‮ ‬وما تحبه ليس بالضرورة‮ ‬يحبه الأقرب لك في‮ ‬الجينات‮! ‬هذه هي‮ ‬الحياة‮: ‬صراع وتناقضات وجدليات في‮ ‬الرؤى‮. ‬فالتقاعد قد‮ ‬يشكل أزمة نفسية للبعض‮. ‬إلّا أنّ‮ ‬آخرين‮ ‬يجدونه فرصة لحياة هادئة ومريحة،‮ ‬وفرصة للتفرّغ‮ ‬للإبداع والعطاء،‮ ‬وتحقيق ما لم‮ ‬يسمح الوقت السابق بإنجازه‮. ‬بل إن الدراسات العلمية هي‮ ‬الأخرى اختلفت في‮ ‬نتائجها،‮ ‬فبعضها ربط التدهور في‮ ‬الصحة النفسانية مع التقاعد‮. ‬ودراسات أخرى أكدت أن الصحة النفسانية للذين تجاوزت أعمارهم الستين قد تتحسن بعد التقاعد‮.‬

وكي‮ ‬لا‮ ‬يصيبنا الإحباط من كلمة‮ (‬متقاعد‮)‬،‮ ‬فقد فسر في‮ ‬فقه اللغة والموروثات الصورية المقولبة بكلمة‮ (‬تقدم السن‮)‬،‮ ‬أو ما قيل إنها كلمة مؤلفة من مقطعين‮ (‬مت‮) ‬و(قاعد‮). ‬والمقصود بها‮: (‬مُتْ‮ ‬وأنت قاعد‮). ‬مع أهمية إخضاع مفهوم التقاعد لنسق ثقافة الشعوب التي‮ ‬تمر عبر بوابات السلوك والثقافة والتنشئة الاجتماعية‮. ‬فالتقاعد عندنا هو الموت. والصورة النمطية عنه‮: ‬الرجل المتكرش الذي‮ ‬توقف عن الاهتمام بمظهره،‮ ‬والمهمش الذي‮ ‬لا‮ ‬يؤخذ برأيه‮. ‬والمتطفل الذي‮ ‬يتدخل في‮ ‬كل صغيرة وكبيرة في‮ ‬المنزل‮. ‬والمكتئب الذي‮ ‬يتوارى عنه أهله وأصدقاؤه‮. ‬والمصاب نفسيّاً‮ ‬بأفول مكانته وحضوره الاجتماعي‮.

‬بينما ثقافة الآخر تعطي‮ ‬بعداً‮ ‬أكثر إشراقا لمفهوم التقاعد،‮ ‬حيث فلسفة الحياة تبدأ بعد الستين‮. ‬وهي‮ ‬فرصة لحياة جديدة،‮ ‬وإعادة صياغة لعطاء آخر؛ تعلم مهارات جديدة،‮ ‬وممارسة أنشطة مختلفة؛ كالقراءة والسفر والرحلات،‮ ‬وممارسة هوايات قديمة‮. ‬مثلما هي‮ ‬فرصة نادرة للتفرغ‮ ‬للأعمال التطوعية والخيرية،‮ ‬كما فعلها‮ (‬بيل‮ ‬غيتس‮) ‬عنما قرر أخيراً‮ ‬التقاعد من مايكروسوفت‮!‬

وبلغة العلم والأرقام،‮ ‬تكشف لنا الدراسات الميدانية مأساة المتقاعد العربي‮ ‬ونظرته السوداوية للحياة بعد التقاعد؛ فوفقاً‮ ‬لعينة من المتقاعدين العرب،‮ ‬يعاني‮ ‬83,84‮ ‬بالمئة‮ من المتقاعدين من تفاقم المشكلات العائلية بعد التقاعد،‮ ‬و58,37‮ ‬بالمئة‮ ‬ يعانون من توتر عصبي‮ ‬بعد التقاعد بسبب الفراغ،‮ ‬ويشعر‮ ‬64,57‮ ‬بالمئة‮ ‬ أن العمل‮ ‬يحقق لهم ذاتهم،‮ ‬ويعتقد‮ ‬62,79‮ ‬بالمئة‮ ‬ أن ذهابه للعمل فرصة للخروج من العزلة والوحدة‮.

‬كما أظهرت أن المتقاعدين الذين لا‮ ‬يملؤون أوقات فراغهم بأي‮ ‬عمل أو ممارسة الرياضة أو هوايات تزيد نسبة الاضطرابات النفسانية لديهم بمعدل‮ ‬6 إلى‮ ‬9‮ ‬بالمئة‮ ‬. ومن أهم صور هذه الاضطرابات‮: ‬الاكتئاب،‮ ‬والقلق،‮ ‬والانزواء الاجتماعي‮. ‬بينما الاتجاه العام للدراسات الأوروبية والأمريكية‮ ‬يشير بشكل عام إلى أن المتقاعد‮ ‬يرى في‮ ‬التقاعد فرصة لتجديد حياته لإطالة العمر‮ ‬88.6‮ ‬بالمئة‮؟ وتشعره بأنه أعطى للمجتمع‮. ‬كما هي‮ ‬تضحية لإعطاء فرصة للجيل الجديد للعمل والإنتاج‮ ‬86.3‮ ‬بالمئة‮. وهي‮ ‬تتيح له التعمق والاهتمام بجوانب أخرى لم‮ ‬يتسنَّ‮ ‬له فعلها أيام الوظيفة،‮ ‬كالسفر وممارسة الرياضة،‮ ‬وتعزيز العلاقات الأسرية بشكل أفضل من ذي‮ ‬قبل‮ ‬81‮ ‬بالمئة‮‬. وهناك من‮ ‬يعتقد أنها سببت له مشكلاتٍ‮ ‬اجتماعيةً‮ ‬ونفسيةً‮ ‬أبرزها الوحدة والاكتئاب‮ ‬34.6‮ ‬بالمئة‮.

والحق أن الأمر لا‮ ‬يتوقف على نظرة المتقاعد لظاهرة التقاعد فقط،‮ ‬وإنما على البيئة التي‮ ‬يعيش فيها،‮ ‬والقوانين التي‮ ‬تحميه من كآبة الوحدة والقلق؛ ففي‮ ‬التجربة الألمانية هناك هيئة تسمى‮ (‬هيئة الخبراء المتقاعدين الألمان‮) ‬مقرُّها مدينة بون أسست عام‮ ‬2003 تضم أكثر من‮ ‬5000 خبير ألماني‮ ‬يعملون على تقديم خبراتهم للصالح العام،‮ ‬وتقديم المساعدة للشركات والمؤسسات والإدارات الرسمية في‮ ‬العالم الثالث في‮ ‬93 دولة‮.

‬أما اليابان فلها تجربة مثيرة في‮ ‬اهتمامها بالمتقاعدين،‮ ‬من خلال برامج اجتماعية واقتصادية تعتمد إضافتهم إلى المعادلة التنموية الشاملة في‮ ‬مواقع متنوعة،‮ ‬وذلك بإعادة تعيينهم مستشارين في‮ ‬مؤسسات الحكومة والمجتمع المدني‮ ‬والجمعيات الأهلية،‮ ‬مع تغيير طفيف في‮ ‬مواعيد دوامهم‮ ‬يتماشى مع المرحلة العمرية،‮ ‬بجانب شمولهم بمظلة الأمان الاجتماعي‮ ‬والاقتصادي‮. ‬والتجاربُ‮ ‬العالمية كثيرة ومتنوعة،‮ ‬وكلها تصب في‮ ‬إدماجهم بالمجتمع،‮ ‬وعدم إشعارهم بالإهمال والنسيان‮. ‬ومهما قلنا عن المتقاعد العراقي‮ ‬ومآسيه المالية والنفسية والصحية،‮ ‬فإنها لن تكون له مبرراً‮ ‬للانتحار بمفهوم التقاعد التقليدي‮. ‬والاستسلام لفلسفة الواقع المزري‮.‬

فالمتقاعد أمامه حلولاً‮ ‬لبرمجة الوقت في‮ ‬القراءة والكتابة،‮ ‬وترتيب أولويات العلاقات الاجتماعية،‮ ‬والبحث عن برامج علمية ومجتمعية وتطوعية للمشاركة فيها،‮ ‬بدلاً‮ ‬من الاهتمام بموائد الطعام الدسمة التي‮ ‬تغلق العقول وتضخم الكروش،‮ ‬وقضاء الوقت بثرثرة المقاهي‮ ‬والمنتديات التي‮ ‬تحولت إلى فضاءات للنميمة والقيل والقال‮.

‬وتحويل حياته للبكاء على الماضي‮ ‬وندب الحظوظ،‮ ‬وتثوير الأحزان والمآسي‮ ‬حتى في‮ ‬مناسبات الأفراح‮. ‬ومع ذلك هناك من‮ ‬يقول لنا بلغة التفاؤل والعلم‮: ‬جدد حياتك بطرد الهموم حتى تهدأ المقل،‮ ‬ودع القلق وابدأ الحياة‮! ‬

بالمقابل؛ كان صديقي‮ ‬مُحقّاً‮ ‬في‮ ‬رفضه لفكرة التقاعد عندما كنت أدعوه للتقاعد،‮ ‬نظراً‮ ‬لشكواه المستمرة من فساد المؤسسة والمحسوبية وتدخل الأحزاب،‮ ‬فقد كان‮ ‬يصر بقوة على أن التقاعد عندنا‮ ‬يعني‮ ‬الموت،‮ ‬وكان‮ ‬يبرر الأمر بأن المقارنة ظالمة بين المتقاعد العراقي‮ ‬والأجنبي،‮ ‬فالمتقاعد العراقي‮ ‬ليس له دخل مناسب‮ ‬يمكنه من أن‮ ‬يعيش برفاهية الفقراء‮. ‬فالدولة مصابة بهوس تأخير الرواتب شهريا،‮ ‬وتأكل أمواله بالحرام بجدولة ظالمة في‮ ‬رواتبه ومهنه ومنزلته الثقافية والعلمية‮.

‬كما تحجز أموال البعض التي‮ ‬دفعوها من عرق جبينهم أثناء الوظيفة لرأي‮ ‬مخالف‮. ‬كما أنه ليس لديه ضمان صحي‮ ‬لمواجهة أمراض الشيخوخة والفيروسات‮. ‬ولا حدائقُ‮ ‬وملاعبُ‮ ‬لممارسة الرياضة في‮ ‬أماكن العيش‮. ‬ولا إمكاناتٌ‮ ‬ماديةٌ‮ ‬للسفر والرحلات‮. ‬ولا مؤسساتٌ‮ ‬لرعايتهم واستثمار عقولهم‮.

‬لكن الشيء الوحيد المحقق كما‮ ‬يقول صاحبي‮ ‬بسخرية لاذعةٍ،‮ ‬هو أن المتقاعد العراقي‮ ‬يعيش‮ ‬غيبوبة الموت السريري،‮ ‬يعُدُّ‮ ‬أيامه الأخيرة ليودع الحياة‮ ‬غير نادم عليها‮!‬

قرأت مؤخراً‮ ‬كلاماً‮ ‬جميلاً‮ ‬لصديق‮ ‬يستعرض كتاباً‮ ‬بعنوان‮ (‬مُت فارغاً‮) ‬صدر عام‮ ‬2013 لكاتب أمريكي‮ ‬يدعى‮ (‬تود هنري‮)‬،‮ ‬يلخص فكرة قيمة للمقبرة باعتبارها أغنى أرض في‮ ‬العالم؛ لأن ملايين البشر رحلوا إليها،‮ ‬أي‮ ‬ماتوا،‮ ‬وهم‮ ‬يحملون الكثير من الأفكار القيّمة التي‮ ‬لم تخرج للنور،‮ ‬ولم‮ ‬يستفد منها أحد سوى المقبرة التي‮ ‬دُفنوا فيها‮.

‬لذلك‮ ‬يطلب من المتقاعد قبل أن‮ ‬يموت تسليم أمانة الحياة بقوله‮: ‬اذا كان لديك فكرة فنفِذّْها،‮ ‬أو عِلمٌ‮ ‬فبلّغْهُ،‮ ‬أو هدف فحقّقْهُ،‮ ‬أو حب فانشره ووزّعْهُ،‮ ‬وإن كان لديك موقف مبدع وخلاّق فأعلِنْهُ،‮ ‬فلا تكتم الخير والعطاء في‮ ‬داخلك فتموت ممتلئاً‮ ‬مُتخَماً،‮ ‬وتكون لقمة سائغةً‮ ‬لذيذة لدود الأرض‮. ‬بمعنى‮: ‬لا تذهب إلى قبرك وأنت تحمل في‮ ‬داخلك أفضل ما لديك‮. ‬اختر دائماً‮ ‬أن تموت فارغاً‮! ‬الحياة معلِّم قاسٍ‮ ‬جداً،‮ ‬لا‮ ‬يمنحنا درساً‮ ‬من دون مقابل،‮ ‬ما علينا سوى أن نتأمل كيف تسير أحوال العباد في‮ ‬العراق بالمقلوب،‮ ‬وتنتهك إنسانيتهم،‮ ‬وتصبح الحياة كأنها الموت الأبدي‮! ‬للأسف‮. ‬شتان ما بين موت الآخر المتخوم بالسعادة،‮ ‬وموتنا المتخوم بالبؤس والأحزان‮!‬

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق