q
تتفق جميع التحليلات الاستراتيجية والسياسية أن ما جرى من تحولات سياسية في بعض البلدان العربية، هي تحولات طالت السلطة السياسية، بوصفها هي الجهاز المؤسسي والبيروقراطي المعني بتسيير شؤون الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية. وإن تفاقم إخفاق هذه السلطة في تلبية طموحات شعبها وتجاوز محنه السياسية والاقتصادية...

تتفق جميع التحليلات الاستراتيجية والسياسية أن ما جرى من تحولات سياسية في بعض البلدان العربية، هي تحولات طالت السلطة السياسية، بوصفها هي الجهاز المؤسسي والبيروقراطي المعني بتسيير شؤون الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية. وإن تفاقم إخفاق هذه السلطة في تلبية طموحات شعبها وتجاوز محنه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هو الذي يوفر المناخ لتحرك الشعب بقواه المختلفة لإخراج السلطة من دائرة إدارة الشأن العام.

إلا أن هذه التحليلات تختلف مع بعضها البعض حول مسألة: هل القضاء على السلطة السياسية، يقود إلى القضاء على الدولة. أم أن الدولة بوصفها المؤسسة الثابتة والضاربة بجذورها في عمق المجتمع، هي مؤسسة لا يمكن القضاء عليها بهذه السهولة أو بالطريقة التي جرت في دول الربيع العربي. ومن الضروري في هذا السياق ومن منظور علم الاجتماع السياسي، أن يتم التفريق بين مفهوم وحقيقة السلطة السياسية ومفهوم وحقيقة الدولة.

وإن من الأخطاء الشائعة على الصعيد العربي، التعامل مع هذين المفهومين بوصفهما حقيقة واحد، بينما في المنظور العلمي والواقعي يتم التفريق والتمييز بين السلطة والدولة.

صحيح أن السلطة هي بعض الدولة، بمعنى أنها (أي سلطة) هي الجهاز الإداري والتنفيذي للدولة إلا أن هذه المساحة الواسعة التي تحتلها السلطة إلا أنها لا تملأ كامل مفهوم الدولة. فالسلطات السياسية هي سلطات متحولة ومتغيرة، إلا أن الدولة بوصفها مؤسسة متكاملة هي مستقرة وثابتة وقادرة على التكيف مع سلطات سياسية مختلفة ومتنوعة في خياراتها وأولوياتها.

السلطة مهمتها إدارة وتسيير الشأن اليومي للمواطنين، إلا أن الدولة هي المعنية بالسياسات الاستراتيجية والخيارات الكبرى وقضايا الأمن القومي وصياغة اتجاهات السلطة سواء على الصعيد الداخلي أو الصعيد الخارجي.

ولعل من الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها النخب السياسية الجديدة في بعض بلدان الربيع العربي أنها اعتبرت حالها حين وصولها إلى السلطة إلى أنها قادرة على التحكم في مسار الدولة. إلا أنها في حقيقة الأمر اصطدمت مبكرا مع القوى الحقيقية التي تعبر عن الدولة، ولم تتمكن هذه النخب السياسية الجديدة من إنهاء تأثير قوى الدولة وتعبيراتها المركزية.

ولعل الكثير من صور الصراع السياسي والشعبي والمؤسسي التي جرت في دول الربيع العربي بعد سقوط النظام السياسي، تعود في جذورها الأساسية وأسبابها البعيدة والحيوية إلى السعي المتبادل من قبل قوى السلطة الجديدة وقوى الدولة الثابتة والمستقرة إلى التحكم في المسار السياسي العام.

ولكل طرف من هذه الأطراف حيثياته ومبرراته في سياق السعي للتحكم وضبط المعادلات المستجدة وفق رؤية هذه القوى أوتلك. فالنخب السياسية الجديدة استندت في مشروع استحواذها على إنها صانعة التغيير السياسي الأخير، وهذا الإنجاز يؤهلها إلى التحكم في مسار السلطة والدولة معا. أما القوى والمؤسسات الفعلية فكانت تعتقد أنه لولاها لما تمكنت هذه النخب من السيطرة على مقدرات السلطة السياسية. لأنها هي القوى التي حيدت المؤسسة العسكرية بكل أجهزتها، وهي التي منعت من الاستمرار في استخدام العنف العاري ضد الناس المتظاهرين، وإنها هي بحكم علاقاتها وتحالفاتها التي وفرت الغطاء الإقليمي والدولي للحظة التغيير السياسي.

لذلك فإن هذه القوى تعتبر نفسها هي الشريك الأساسي الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وإن أية محاولة جديدة للاستغناء ستفضي إلى الفوضى وانهيار مؤسسات السلطة ومؤسسات الدولة معا..

ومن منظور سياسي واقعي فإن جوهر الارتباط وبعض أشكال الفوضى والانفلاش التي تعيشها بلدان الربيع العربي. تعود إلى الاختلاف العميق الذي طرأ على المشهد السياسي والاستراتيجي بين نخب السلطة السياسية الجديدة ونخب الدولة العميقة والثابتة والمتحكمة في الكثير من مفاصل الحياة.

وإنه أذا تمكنت قوى السلطة الجديدة من التحكم في مسار الأحداث والتطورات، فهذا يعني على المستوى الواقعي سيادة الفوضى وبروز التناقضات السياسية والعميقة على المشهد السياسي والاجتماعي.

أما إذا تمكنت قوى الدولة العميقة من إخراج النخب الجديدة من السلطة والتحكم مجددا بمفردها في مسار الأمور والتحولات، فهذا يعني على المستوى الواقعي إعادة إنتاج الاستبداد السياسي بقفازات جديدة وبخطاب سياسي جديد مقبول من قبل بعض فئات وشرائع الشعب. ولدى هذه الشرائع الاستعداد التام للانخراط المباشر في الوقوف دفاعا عن قوى الدولة العميقة وبالضد من نخب السلطة السياسية الجديدة.

ويبدو من طبيعة تحولات ما يسمى بالربيع العربي، أنه لا يمكن لأي قوة أن تحقق الانتصار الكاسح على القوة الأخرى.

لأن التحولات السياسية التي جرت في هذه البلدان، ليست تحولات نهائية، وإنما هي في بعض جوانبها شكل من أشكال التسوية، بحيث ترفع قوى الدولة يدها عن السلطة السياسية القديمة مما يوفر الأرضية بشكل سريع إلى انهياراها وهذا ما حدث في مصر وتونس واليمن. وفي المقابل فإن النخب السياسية الجديدة تلتزم بالحفاظ على المؤسسات الاستراتيجية للدولة، وكذلك خيارات الدولة السياسية والاستراتيجية. لذلك فإن ما جرى ليس انتصارا كاسحا لأحد الأطراف، وإنما هي تسوية سياسية بين بعض قوى الشعب التي تحركت ضد السلطة السياسية القديمة وطالبت بسقوطها وبين مؤسسات الدولة العميقة التي لم تقف ضد مشروع خروج النخبة السياسية القديمة من السلطة.

وبالتالي فإنه ثمة شراكة في مشروع التحول السياسي، هذه الشراكة هي التي تحول دون تفرد أي طرف من الأطراف بالمعادلة الجديدة. والنفق الجديد الذي دخلته بعض هذه البلدان هو الصدام المباشر وفض الشراكة أو تبديل بعض أطرافها، مما أدخل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في امتحان جديد، قد يكلف هذه الدولة أمنها واستقرارها السياسي والاجتماعي خلال المرحلة الراهنة.

وعلى ضوء هذه الثنائية العربية العميقة بين السلطة والدولة، لا يمكن أن ينجز مشروع الديمقراطية في العالم العربي دفعة واحدة، وإنما هو بحاجة إلى جهد مكثف ومؤسسي وعلى مدى زمني حتى تتمكن دول العالم العربي من إنجاز مشروع الدمقرطة والمشاركة الشعبية المؤسسية في إدارة الشأن العام.

ومن يبحث عن إنجاز مشروع الديمقراطية دفعة واحدة وفي ظل هذه الظروف، فإنه على المستوى العملي سيحصد وقائع مناقضة للديمقراطية وستدخل تعبيرات المجتمعات العربية في أتون الصراعات والصدمات التي تزيد من تعويق مشروع الديمقراطية في المنطقة العربية.

وعليه فإن التحولات الإصلاحية السياسية في المنطقة العربية، هي من أسلم الخيارات للمنطقة العربية، التي تعيد صياغة شرعية السلطة السياسية على أسس جديدة، وفي ذات الوقت تنفس حالة الاحتقان الأمني السياسي التي تشهدها بعض بلدان المنطقة العربية. فالإصلاح السياسي المؤسسي والتدريجي والحيوي هو الذي يجنب دول العالم العربي الكثير من المآزق والتحديات.

اضف تعليق