الكراهية منها ما هو طبيعي بسبب تضارب العلاقات الاجتماعية للناس لكن أخطرها تلك \"المصطنعة والمقصودة\" التي تقوم بها جهات وجمعيات وأفراد ومؤسسات وحكومات من أجل \"السؤدد\" على حساب مصالح الآخرين، وهو ما متعارف عليه حاليا بسياسة فرق تسد، طالما أن عامة الناس لا يعلمون أو...

"الكراهية" ظاهرة سلبية مدمرة للعلاقات الإنسانية تفشت بين الناس بشكل رهيب وملفت للانتباه، مثلما يرصدها المتتبعون للشؤون الاجتماعية والسياسية، حتى أنهم وضعوا لها مؤشرا عالميا لقياس أثرها التدميري.

وقد يقول القائل أن "الكراهية" صفة طبيعية منتشرة وسط الناس بل يتعلمونها أيضا. فان المناضل نيلسون مانديلا رد عليهم بالقول "لا يوجد إنسان ولد يكره إنسانا آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه، مثلما تعلم الناس الكراهية، بإمكانهم تعلم "الحب" أيضا، خاصة وأن الحب أقرب لقلب الإنسان من الكراهية''.

وقد تحدث القرآن الكريم عن مآلات الكراهية والحسد، عندما روى لنا قصة قابيل وهابيل التي انتهت بسفك الدماء، ثم ذكر لنا قصة سيدنا يوسف عليه السلام الذي رمي بالجب، ثم شاءت الأقدار أن يصبح وزيرا، وهناك الآلاف المؤلفة من مثل هذه القصص في الماضي والحاضر انتهت كلها بالقتل وأقلها بالعداوة.

"الكراهية" منها ما هو طبيعي بسبب تضارب العلاقات الاجتماعية للناس لكن أخطرها تلك "المصطنعة والمقصودة" التي تقوم بها جهات وجمعيات وأفراد ومؤسسات وحكومات من أجل "السؤدد" على حساب مصالح الآخرين، وهو ما متعارف عليه حاليا بسياسة "فرق تسد". وقد نبه إليه عالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي قائلا "طالما أن عامة الناس لا يعلمون أو غير مبالين أو تم تحويلهم إلى النزعة الاستهلاكية أو الكراهية والانشغال بإقصاء بعضهم البعض، عندها يمكن للأقوياء أن يفعلوا ما يحلو لهم، وسوف يُترك أولئك الباقون على قيد الحياة للتفكير في نتائج واقعهم".

"فرق تسد" هذه القديمة الجديدة جعل منها فرعون منذ 1300 ق م "منهجا استبداديا" في تسيير دواليب حكمه، وساعده في ذلك محبي العبودية مما جعله يحكم مصر بقبضة الحديد والنار، حيث فضح القرآن الكريم تصرفاته في محكم التنزيل "إن فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ" سورة القصص الآية 4، لقد عمل على تفرقة شعبه إلى فرق متناحرة، وزرع فيهم الكراهية والعداوة حتى صاروا كالدمى يتناحرون فيما بينهم، دون أن يبالون بمستقبل أبناءهم.

أثبتت ممارسة سياسة "الطغيان" في الماضي والحاضر أنها لم تبن بلدا ولم تقم عدلا ولا حرية بين أبناء الشعب الواحد، حتى لو تظاهر بذلك الحاكم وروجت لها مخابر دعايته.

لقد حارب الإسلام ظاهرة الطغيان والاستبداد وحذر منها وحرم التعاون معها، فقال الله سبحانه وتعالى في سورة النازعات الآية 41-40: ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾.

مصطلح "فَرِّق تَسُدْ" هو ذو بعد سياسي وعسكري واقتصادي ويعني تفريق قوة الخصم الكبيرة إلى أجزاء صغيرة، لتصبح هذه القوة أقل تأثيرا وشأنا وغير متحدة مع بعضها البعض، مما يسهل تفكيكها والتعامل معها بهشاشة. بقي يتوارث هذه "النظرية" الجهنمية طغاة الأرض قادة وحكومات، نذكر فرنسا الاستعمارية على سبيل المثال لا الحصر التي تتلمذت على يد بريطانيا كيف "أبدعت" في التفرقة بين الجزائريين إبان استدمارها الجزائر. ومع الأسف بقيت بعض النعرة التفريقية حتى بعد الاستقلال تزرع الاختلاف والفرقة والعداوة، والعنصرية، والقومية، واللغوية، والدينية، وكل بذور وأنواع الفتن ما ظهر منها وما بطن.

وقد اشتدت أثرا في العشريتين الأخيرتين في عهد البوتفليقية بشكل "ممنهج " حتى صار نصف الشعب الجزائري ضد النصف الأخر دون أن يشعر! فالبقال صار ضد الخباز، والخباز ضد البائع، والبائع ضد السائق، والسائق ضد الراجلين، والراجلين ضد عمال النظافة، وعامل النظافة ضد الجيران، والجيران ضد بعضهم البعض. والقبائلي ضد العربي، والعربي ضد الشاوي، والشاوي ضد المزابي، والمزابي ضد التارقي وهكذا.. ثم انتقل الصراع إلى رجال السياسة والمهن والحرف والإداريين والعمال والفلاحين الكل يتآمر على الآخر، الكل يعرقل مسار الأخر الكل ينتقم من الأخر...لا أحد يطمئن للأخر، ولا يأتمن صداقته. بل البعض يفرح ويهلل لسماعه ولتشتيت الأخريين.

كل ذلك بسبب "المنهج التفريقي فرق تسد" وهي عملية مقصودة الهدف منها قيادة البلاد دون حسيب ولا رقيب، لقد مارست "البوتفليقية" هذه السياسة بتفنن طيلة مدة حكمها إلى أن جاء مخلص الجزائريين الحراك المبارك بتاريخ 22 فبراير 2019 تاريخ انعتاق العقول وتحررها من لعنة هذا المنهج البغيض، الذي ما تزال "الدولة العميقة" تحاول عبر ذبابها البشري والالكتروني جاهدة لتأليب الحراك عن نفسه ليعود إلى وهم السمع والطاعة العمياء لإعادة إنتاج كراهية جديدة تعيد الشعب إلى بيت الطاعة بشكل أشد.

* أستاذ جامعي-الجزائر

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق