q
بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية الاخيرة في تركيا، هنأ كل من ترامب وبوتين، اردوغان لنجاحه فيها، على الرغم من انها اشرت الى انقسام واضح في المجتمع التركي، وردود الفعل الاوربية السلبية بشان النتيجة. وقد وقف البعض حائرا امام هذا التاييد السريع من واشنطن موسكو، لكن الحقيقة تقول الكثير مما هو خارج المعلن بصدد الاستفتاء الذي رآه البعض ثالما للديمقراطية ومقتربا بتركيا من الدكتاتورية!...

خلال قراءتي المتواضعة لتاريخ تركيا السياسي المعاصر، توقفت عند محطة الانقلاب العسكري، الذي اطاح رئيس الوزراء عدنان مندريس في العام 1960 والذي قاده الجنرال جمال غورسيل، وانتهى باعدام مندريس ووزيري الخارجية والمالية في حكومته. الانقلاب بمبرراته وتداعياته، ما زال موضع جدل، اذ يعتقد البعض ان ميول مندريس الاسلامية وتنكره للعلمانية الاتاتوركية، هي التي وقفت وراء تحرك الجيش ضده. وهناك من يرى انه اراد الاقتراب من السوفييت، فوقع في المحظور.

مندريس، السياسي الذي كان عضوا في الحزب الجمهوري الاتاتوركي، انشق عن حزبه منتصف الاربعينيات واسس الحزب الديمقراطي، ودخل الانتخابات فنجح نجاحا متواضعا في البداية ثم اكتسح الانتخابات في العام 1950 ليغدو الرجل الاقوى في تركيا، بعد ان قام باصلاحات كبيرة وانعش الحياة الاقتصادية، ونهض بالدولة التي كانت تعاني في جميع مفاصلها.

لكن الرجل الذي تبقى سيرته غامضة لدى البعض، مثلما توجهاته، ينبغي قراءة صعوده المفاجئ في سياق المرحلة التي عاشها العالم، وقتذاك، والتي يبدو انه قرأها بذكاء وعرف كيف يتصرف ليصل الى رأس السلطة في بلد يمثل بالنسبة للغرب العقدة الستراتيجية التي تربطه بالشرق. فمندريس لم ينفصل عن حزب اتاتورك، الجمهوري، بالمصادفة، او فقط لكي يبني علمانية حقيقية بعيدا عن علمانية اتاتورك القسرية، التي ابعدت تركيا عن ثقافتها القارة، مشيرين هنا الى ان التهم التي وجهها اليه الانقلابيون، هي مداعبة عواطف الفلاحين المسلمين ليقضي باصواتهم على العلمانية، ويمهد لدولة اسلامية. فهذا الرجل عرف من اين تؤكل الكتف، وكان سياسيا بارعا وثعلبا حقيقيا، لانه ادرك ان الاتاتوركية، كانت اوروبية في وجهتها الثقافية والسياسية، وقد ولدت في ظروف عفا عليها الزمن، مثلما عفا على اوروبا التي لم تعد هي المتحكمة بالعالم كما كانت قبل الحرب العالمية الثانية، وان استراتيجية جديدة يجب ان تبدا في علاقة تركيا بالعالم. وهكذا بدا الرجل في بناء علاقة قوية مع اميركا الصاعدة بقوة الى المسرح العالمي، ليضم تركيا لحلف الاطلسي، ويحصل على مكافاة كبرى، بعد ان شملت اميركا تركيا بخطة مارشال لاعمار اوروبا مع انها لم تشترك في الحرب العالمية الثانية! أي ان الاميركان وضعوا يدهم على المفصل الحيوي الذي سيكون مؤثرا في المرحلة القادمة، مرحلة الحرب الباردة، وما يمثله موقع تركيا فيها، ومن ثم قام هذا الرجل، بالاتصال باسرائيل بعد قيامها، واقام علاقات دبلوماسية معها، وعين سفيرا لتركيا في تل ابيب، ثم عرض خدماته الاخرى المتمثلة بالموقف من جمال عبدالناصر والجمهورية العربية المتحدة، ووقوفه ضد اليسار، ليقترب جدا من مزاج اميركا واسرائيل.

لكن هذا لا ينسينا ان اميركا بالرغم من كل الذي قيل ويقال عنها، تبقى دولة تقدس الحريات الفردية وتقيم علمانية حقيقية، وان الاتاتوركية، تبقى في نظر الثقافة الليبرالية اقرب الى الفاشية منها الى العلمانية في شكلها وروحها، لانها تقوم على مصادرة خيارات الانسان الاساسية، وبذلك انسجم مندريس مع الثقافة الاميركية هذه، مستثمرا خيارات الاتراك الخاصة، المقموعة، ولكي يتاح له هو ايضا ممارسة خياراته السياسية بالاتكاء على دولة قوية تحترم هذه الخيارات! وهكذا بات الرجل قويا وناجحا في بناء تركيا الناهضة وقتذاك. ما يعني ان سلطة العسكر ستقوض على يده بالتدريج وبقوة الشعب وارادته المتمثلة بالانتخابات، وهو ما لا يمكنهم تحمله، فقاموا بالانقلاب، الذي يقال انه جاء ايضا بعد اتصالات لمندريس بالسوفييت للحصول منهم على قرض بقيمة 300 مليون دولار، لكن هذا السبب يبقى ضعيفا، وان لم يكن مستبعدا، وفي العموم نجح الاميركان في عهد مندريس في وضع تركيا على سكّتهم، وان الذي يأتي من بعده لا يمكنه ان يكون خارجها، وسيكون ايضا بحماية العسكر الذي عرف هو الاخر الوجهة الجديدة لتركيا، بمعنى اوضح ان مندريس انتهت مهمته.

بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية الاخيرة في تركيا، هنأ كل من ترامب وبوتين، اردوغان لنجاحه فيها، على الرغم من انها اشرت الى انقسام واضح في المجتمع التركي، وردود الفعل الاوربية السلبية بشان النتيجة. وقد وقف البعض حائرا امام هذا التاييد السريع من واشنطن موسكو، لكن الحقيقة تقول الكثير مما هو خارج المعلن بصدد الاستفتاء الذي رآه البعض ثالما للديمقراطية ومقتربا بتركيا من الدكتاتورية! فواشنطن تريد تركيا بإدارة قوية، لاسيما في المرحلة القادمة، والامر نفسه تريده موسكو، ولكل منهما مبرراته، فبالاضافة الى كون النظام في كل من اميركا روسيا رئاسيا، ترى واشنطن ايضا، ان عدم دعم اردوغان، الحليف القوي، صاحب القاعدة الاسلامية الكبيرة في تركيا، يعني خسارة تركيا، ولو ليس بشكل كامل، منوهين هنا ايضا، الى ان اميركا هي التي وقفت وراء تقوية حزب العدالة والتنمية، وصعود الاسلاميين، مطلع القرن الحالي، ليكونوا ضدا نوعيا لايران في العالم الاسلامي، وهو ما حصل.

الامر لا يختلف مع موسكو، لانها تريد لعلاقتها مع تركيا ان تكون استراتيجية، فمشروع ايران المتناشز في بعض مفاصله مع مصالح الروس في المنطقة، يجعل البلدين في حالة تصادم غير معلن- سوريا مثالا - وان بديا حليفين فيها، بالاضافة الى ان الوضع النهائي للحل في المنطقة قد لا يرضي الايرانيين، وهنا لابد من وجود شريك اقليمي قوي، يمتلك قدرة على اتخاذ القرارات، بعيدا عن مناكفات البرلمان التركي المختلف في مرجعياته القومية والثقافية.

النظام الرئاسي سيكون على حساب بعض القوميات المتطلعة الى شكل من اشكال الحكم الذاتي او الاستقلال في تركيا، والتي استثمرت الحفلة الدموية الحالية لتحقيق ذلك، او اقحمت فيها لحسابات ميدانية قدّرها الكبار، ويبدو ان المعطيات تجاوزتها، وان اميركا ترامب تريد ان تتفاهم مع تركيا الموحدة بشان مستقبل المنطقة، مستثمرة ثقلها الاقليمي، وهو ما تريده روسيا بوتين ايضا.

اذن الاستفتاء، جاء في سياق مرحلة جديدة يشهدها العالم، انطلقت من منطقتنا الملتهبة، بعد ان وضع كل طرف مصالحه الخاصة، وصار يعمل عليها وفقا لحساباته. وفي تقديرنا ان نتائج الاستفتاء تصب بشكل او باخر في مصلحة العراق وفق الحسابات الستراتيجية البعيدة، لاسيما مايتعلق بوحدة العراق وطبيعة علاقاته بتركيا في هذا المفصل بالتحديد!.

اضف تعليق