q
العالم بحاجة إلى إيجاد سبل لردع الفكر المسبب للعنف بكل أشكاله، وأن تكون نقطة الانطلاق لكبح الفكر المشجع على العنف، شروعا من عالم الطفولة، فحين تصنع طفلا بقاعدة فكرية رصينة معتدلة، ستصنع إنسانا معتدلا في كل مراحله العمرية، حتى ما يعاني منه المجتمع العالمي من عنف مرّده عدم خلق قاعدة فكرية معتدلة...

للفكر سلطة لا محدودة على الأداء البشري، فما يتشبع به العقل من أفكار مناصرة للعنف وموافقة عليه ومؤدية إليه، سيكون طريقا سالكة لتنمية العنف في البنية النفسية والفكرية والعملية للإنسان، حيث تبدأ بذور العنف الفكري تُغرس في عقل الطفل وتنمو معه حتى مراحل متقدمة من عمره، ولن يبقى هذا النوع من الفكر محصورا في شخص واحد، فيمتد إلى المجموع ليصبح المجتمع برمته ذا فكر عنيف ينشر هذا الأسلوب المتوّفز في العقل الجمعي للمجتمع.

وتحيل مفردة العنف في معناها إلى استخدام القوة المفرطة ضد الأشخاص والمجتمعات، فالعنف بحسب المختصين: هو تعبير عن القوة الجسدية التي تصدر ضد النفس أو ضد أي شخص آخر بصورة متعمدة، أو إرغام الفرد على إتيان هذا الفعل نتيجة لشعوره بالألم بسبب ما تعرض له من أذى، وتشير استخدامات مختلفة للمصطلح إلى تدمير الأشياء والجمادات (مثل تدمير الممتلكات)، ويستخدم العنف في جميع أنحاء العالم كأداة للتأثير على الآخرين، كما أنه يعتبر من الأمور التي تحظى باهتمام القانون والثقافة حيث يسعى كلاهما إلى قمع ظاهرة العنف ومنع تفشيها، وربما تكون المجتمعات المتقدمة أكثر قدرة على تحجيم العنف من خلال محاصرة أسبابه ومنع الفكر المؤدي له من الانتشار بين الأشخاص والجماعات بدءا من الأطفال، حيث تشكل هذه الفئة الأساس الذي ينطلق منه العنف.

وللعنف صور وأشكال مختلف، تختلف بحسب الأداة المستخدمة لإلحاقه بالآخرين واختلاف مصدره أيضا، فهنالك العنف السياسي، والمجتمعي، والأسري، والفردي ..... الخ، ومن الممكن أن يتخذ العنف صورًا كثيرة تبدو في أي مكان على وجه الأرض، بدايةً من مجرد الضرب بين شخصين والذي قد يسفر عن إيذاء بدني وانتهاءً بالحرب والإبادة الجماعية التي يموت فيها ملايين الأفراد، والجدير بالذكر أن العنف لا يقتصر على العنف البدني فحسب بل على العالم أجمع.

لا يمكن حصر العنف في حيّز محدد أو مجال واحد، فقد اختلفت التسميات حول مفهوم الإيذاء النفسي، فهناك من يطلق عليه (الإيذاء النفسي)، أو الإيذاء العاطفي، ويشير البعض إلى أن الإيذاء النفسي يتضمن التهديد، أو التخويف، أو الإيذاء اللفظي، أو المطالبة بالقيام بأشياء غير واقعية أو بجرح مشاعره ومعايرته ويعرف بعض الأساتذة، الإيذاء النفسي بأنه: أي سلوك أو عمل متعمَّد، يصدر من قبل أحد الوالدين أو كليهما أو الآخرين المحيطين أو من الغرباء، تجاه أحد أو كل أفراد الأسرة، ويتسبب في إحداث عدة أنواع من الأضرار والأذى، وذلك بإتباع الأساليب التي تسبب ألماً نفسياً كالسخرية منه، أو إهماله، أو نبذه، أو تهديده، أو تخويفه، أو توجيه العبارات الجارحة له، ما يجعله في أتون وضع نفسي مضطرب.

يتغذى العنف على الأفكار بالأخص المتطرفة، المغالية، المتعصبة، وله بحسب مختصين أسباب تساعد على نشره وتحويله إلى سلوك جمعي، ومن أسباب العنف فحوى الثقافة التي ينشرها الإعلام، فيكون له دورا صارخا في تشكيل الرأي الشخصي الذي يمثل بدوره سببا للعنف، فإعلامنا لا يبث برامج توعية ولا يبث برامج تنمي لدى الفرد روح المبادرة والإيثار والحث على العمل التطوعي، ولا يخصص برامج تنمي روح التفكير والإبداع لدى جيل الشباب الذي هو يمثل شريحة كبيرة وواسعة من المجتمع، بالإضافة الى الأفلام، والمسلسلات والبرامج التي لا تعطي القيم ولا تحث على غرس الفضيلة والنزاهة.

ومن أسباب العنف انتشار البطالة بين الشباب، فما نلاحظه من مواكب الخريجين الذين لا يجدون عملا أو وظيفة قد يكون له تأثير كبير في صناعة العنف، كذلك قد يكون ضعف فهم الدين من ضمن الأسباب، فيكون هناك ضلال في فهم الشاب كما في بعض الجماعات المتطرفة والتي تتخذ من العنف وسيلة للتعبير عن أفكارها وآرائها، ولعل السبب الأكثر وضوحا هو ضعف قنوات الحوار بين الشباب والجهات المعنية لحل مشكلاتهم، ومع ضعف القدرة على الإقناع الثقافي والديني لدى بعض المتخصصين في الندوات القليلة أو من خلال وسائل الإعلام، فالكل غالباً يتعامل مع هذه المشكلات بسطحية شديدة دون معالجة حصيفة لتلك المشكلات، أو إيجاد حلول واقعية وسليمة، هي فقط مجرد وعود بل ربما لا توجد هذه الوعود أصلا.

يُضاف إلى أسباب العنف فقدان الحكمة والتعقّل فيؤدي ذلك الى الاندفاع والتسرع ومن ثم العنف في لحظة طيش وتهور وعدم ضبط الأعصاب، ونحن نعرف أن الغضب سبب للكثير من المشاكل، والرسول الكريم (ص) يوصينا بعدم الغضب (لا تغضب) وإن كنا في زمن فيه الكثير ما يدعو لذلك، بسبب انتشار الفكر المشجع للعنف وإلحاق الأذى بالآخرين، ليس على مستوى الأفراد أو الجماعات الصغيرة فحسب بل على مستوى الدول، وأية دول؟ إنها الدول التي تسمّي نفسها بالكبرى، والقائدة للعالم، لكنها لا تتحلى بالحكمة وبعد النظر، ما يجعل العالم كله على شفا بركان ملتهب.

العالم بحاجة إلى إيجاد سبل لردع الفكر المسبب للعنف بكل أشكاله، وينصح ذوو التخصص من علماء النفس والاجتماع والفضاء التربوي، أن تكون نقطة الانطلاق لكبح الفكر المشجع على العنف، شروعا من عالم الطفولة، فحين تصنع طفلا بقاعدة فكرية رصينة معتدلة، ستصنع إنسانا معتدلا في كل مراحله العمرية، حتى ما يعاني منه المجتمع العالمي من عنف مرّده عدم خلق قاعدة فكرية معتدلة لدى الطفولة على المستوى العالمي، فالغرب وأمريكا اللذان يدّعان حماية البشرية من التطرف والظلم والقمع، هما أكثر من ينتهك العقل البشري بالفكر المتطرف وإثارة العنف في بقاع العالم المختلفة كما لاحظنا في ضرب سوريا من قبل قوات الناتو بحجة استخدام بشار الأسد للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، وهي تهمة جاهزة يستخدمها العقل الغربي المريض متى يشاء ذلك لتصفية حساباته داخليا وخارجيا.

وكل ما ورد في أعلاه من أسباب يمكن أن تكون نقطة انطلاق لمكافحة العنف الفكري، مع أننا نفهم بأن العنف ليس وليد الفكر الناقص وحده، فهناك أسباب مادية تقف وراء العنف، كالبطالة وامتهان كرامة الإنسان وزرع الفكر البائس في تربة الطفولة، لينمو التطرف معه في مراحل عمره القادمة، المطلوب تقليص البطالة بين الشباب وهذه مهمة حكومية اقتصادية تعتمد ترويج ثقافة تشجيع القطاع الخاص ودعمه، ومطلوب تقديم العون للشباب في قضية فهم الدين، لأن الفهم الخاطئ يقود إلى التطرف ومن ثم اللجوء للعنف كتعبير عن حاجة نفسية أو فكرية أو عقائدية، كذلك يجب تطوير الإقناع الثقافي والديني حتى لا تكون هنالك حجج يتم استخدامها في تغذية العنف.

وفي الآخر يجب إلغاء السمة السطحية من أساليب مكافحة العنف الفكري، عبر الإعلام بكل وسائله، وفي الندوات المخصصة لهذا الغرض، كذلك في جميع الحملات الفكرية المضادة للعنف، والمؤتمرات والإصدارات وكل الوسائل الداخلة في حيّز مكافحة الفكر المساعد والمغذي للعنف، أي علينا اعتماد العمق والجدية في أساليب ووسائل المكافحة، حتى نكون أصحاب القدح المعلّى والمكيال الأصحّ والباع الطويل والأقدر على إطفاء ووأد الفكر العنيف، وتخليص المجتمع منه، وتنقية عالمنا هذا من الثيران التي تجنح للعدوان، فيما يوصينا ديننا بالجنوح إلى السلم لتصبح حياتنا لائقة بقيمة الإنسان وكرامته.

اضف تعليق