q
نشاهد أن التنافس الانتخابي يشهد تداخلاً غريباً بين القوتين المتناقضتين العشائرية والمدنية لدرجة اننا صرنا نشاهد المضيف الخاص بحل مشاكل العشيرة يتحول إلى قاعة تدار فيها ندوات المرشحين الانتخابيين الذين ينتمون عشائرياً لهذا المضيف، حيث يقدمون كلمات لاعلاقة لها ببرنامج سياسي أو مشروع إصلاحي بقدر مايكون الكلام إنشائياً ووعوداً أغلبها لاتتحقق بعد نجاح المرشح في مسعاه...

بشكل أو بآخر تجرنا مفردة الانتخابات إلى أن نندس في السياسة ودهاليزها، على الرغم من أننا نحاول البحث في أسرار قدرة هذه المفردة، وما تستتبعه من إجراءات عملية خصوصاً في بلداننا نحن الشرقيين تجعل مركزية القيم والضوابط والأخلاق تتهشم بصور غريبة تعجز حتى أفكار السورياليين من ترجمتها إلى لوحات.

حتى هذه اللحظة لا نريد نحن شعوب الشرق أن نعي حقيقة أن الانتخابات بمختلف تسمياتها ماهي إلا جزء من آليات تحفظ لنا القيمة الإنسانية العليا للإنسان، وهي القيمة التي ركزت عليها السماء، ومن أجلها بعثت الأنبياء برسالاتهم لتأكيد مسعاها الأخلاقي والوجودي.

هذه الآليات الوضعية تبدو ــ لغاية الآن ــ قاصرة عن تأكيد المسعى السماوي في تحقيق مركزية الانسان وقيمه وتطلعاته في العيش الحر الكريم.

وحتى لا نستغرق في التنظير؛ دعونا ندخل في صلب الموضوع لنرى آليات التنافس الانتخابي ودورها ــ على المستوى الفكري طبعاً لا السياسي ــ في تقويض المُسَلَّمات المجتمعية المتعارف عليها، ثم العبث بها بموافقة وإرادة القائمين على هذه المُسَلَّمات ذات الحضور الفاعل في الواقع المجتمعي.

لعبت العشائر على امتداد التاريخ العراقي دوراً واضحاً في كثير من الأحداث التي مرت وتمر على هذا البلد المتشكل مدنياً من حضارة عميقة الجذور، وبدوياً من خلال الموقع الجغرافي.

هذا التشكّل المتناقض؛ جعل العراق مسرحاً لكثير من الاهتزازات تتباين في حجم تأثيرها من فترة لأخرى، وحسب طبيعة وظروف المرحلة التي تنشأ بها. وكان للحضور العشائري دوره في صياغة تلك الأحداث إيجاباً وسلباً لدرجة الهيمنة عليها في بعض المفاصل.

عملياً، كان المنطق العشائري يعاني من قوّتين رئيسيتين تعملان على تقويض هيمنته وسلطته المجتمعية:

القوة الأولى تتمثل بالقيمة الدينية التي كانت ولا زالت تقف بالضد من بعض الممارسات العشائرية التي تمثل حجر عثرة أمام ارتقاء الإنسان ومنها الفصل (الديّة) التي تقام وفق أمزجة واعتبارات لاعلاقة بفحوى المشكلة، وتراعى فيها الخواطر وربما المصالح في تحديد مقدار الديّة خلاف الضوابط الشرعية، أو قضية مصادرة حق المرأة وفق منطق (الفصلية) الذي شاع في الريف العراقي في مراحل زمنية كثيرة، وهو خلاف ماتريده القيم الدينية التي تثبت حق المرأة في أكثر من نص.

أما القوة الثانية، فهي خلاف القوة الدينية، بل وتعاكسها كلياً ممثلةً بالإباحة التي تأتي من خلال تقليد بعض نماذج المجتمعات الغربية تحت يافطات التمدن والتحرر، فالمنطق العشائري ــ على علّاته ــ يركز على قضايا صون الشرف والعفة، وإن كان تركيزه يخالف سياقياً التركيز الديني على هذا الموضوع، لكنه بالتأكيد يقف بالضد من الدعوة الفوضوية لتحرر المرأة وفق المنطق الغربي. وهنا قد يدخل موضوع مسخ الهوية على خط النقاش الفكري لهذا الموضوع، في حين نحاول التركيز على قضيتنا الرئيسة وهي دور التنافس الانتخابي في تهشيم القيم ومركزيتها وضوابطها.

اليوم، نشاهد أن التنافس الانتخابي يشهد تداخلاً غريباً بين القوتين المتناقضتين العشائرية والمدنية لدرجة اننا صرنا نشاهد المضيف الخاص بحل مشاكل العشيرة يتحول إلى قاعة تدار فيها ندوات المرشحين الانتخابيين الذين ينتمون عشائرياً لهذا المضيف، حيث يقدمون كلمات لاعلاقة لها ببرنامج سياسي أو مشروع إصلاحي بقدر مايكون الكلام إنشائياً ووعوداً أغلبها لاتتحقق بعد نجاح المرشح في مسعاه.

ومع ذلك، قد يكون وجود المرشح بين أبناء عشيرته منطقياً وفق بعض الضوابط المجتمعية المتعارف عليها، لكن الذي حدث أن المضيف نفسه بدأ يُهشِّم أنساقه ومركزيته بصورة لم تكن في أسوأ الاحتمالات واردة في الذهنية المجتمعية.

والتهشيم بدأ حين صار المضيف العشائري يستقبل مرشحات القوائم الانتخابية من النساء، بل الأدهى أن بعض المرشحات يمثلن قوائم انتخابية تنتهج المنهج العلماني الذي يعاكس ــ كما قلنا ــ القيم العشائرية شكلاً ومضموناً. المرشحة تدخل المضيف وهي ترتدي البنطلون الجينز الضيق والقميص الذي يبرز بشكل صارخ مفاتنها وأنوثتها وسط أهازيج (المهاويل) التي تُعَظِّم من شأن هذه المرشحة وكأنها ستأتي بمعجزة لم تأتِ بها أو سبقتها لها غيرها من النساء. ويقوم الشيخ بمنح امتياز آخر للمرشحة المتمدنة حين يُجْلِسُها في مكان يُعْرف بـ (صدر الديوان)، ولنتصور كيف تتصدر مرشحة صدرَ ديوان عشائري من دون أي برنامج أو مشروع سوى الكلام الناعم أمام جمهرة من الرجال الذين ينبهر أكثرهم بجمال المرشحة أكثر من كلامها إن كان لها كلام مفيد أصلاً!

والسؤال المهم هنا: هل تستطيع هذه المرشحة المتمدنة أن تفتح داخل المضيف الذي أكرمها ملف (حقوق المرأة) وفق المتبنيات العلمانية التي تسهب في الحديث عنها خلال الندوات التي تُعقد خارج المضيف؟ بالتأكيد سيكون الجواب لا؛ لأن الحديث عن سفور المرأة وارتدائها الملابس الضيقة، والسماح لها بأن تكون مطربة أو راقصة ــ مثلاً ــ يمثل خطاً أحمر وفق الضوابط العشائرية.

وهنا سيتضح أن المرشحة لا مبدأ حقيقي لها يمكن أن تتبناه وتثبت عليه، أو تسعى لتحقيقه بدليل تنقلها على محاور متناقضة؛ بهدف الحصول على أصوات تمكنها ــ وغيرها ــ من بلوغ طموحها الشخصي لا أكثر. الطموح الذي ساهمت بإنعاشه الفعاليات المجتمعية بتهشيمها لكل القيم المركزية، والضوابط المجتمعية، وطبعاً تقف العشائر في مقدمة هذه الفعاليات.

اضف تعليق