تحيل قضية التسامح الى إشكالية السلطة (سياسية-دينية-اجتماعية)، وبما أن هذه التكوينات التنظيمية تشترط طرفاً آخر، فإن التسامح ضمن علاقة تنبعث عن تلك التنظيمات.

يستبطن مفهوم القوة شرط السلطة في تأسيس علاقة مع الآخر، هذا الآخر كان أقلية في أكثر مراحل تأريخ الإنسان، وليس بالضرورة أن تكون هناك أكثرية تلعب دوراً رئيسياً وتوجيهياً في تنظيم هذه العلاقة كما يتبادر إلى الذهن في حالة مجتمعات نشأت لديها مشكلة الأقلية المضطهدة، إذ أن هناك أكثرية مضطهدة في تاريخ بعض دولنا العربية، مما جعل العلاقة مع الآخر تأخذ منحى خاصا بها في عالمنا العربي، فهي ذات خصوصية في مشاكلها السياسية والاجتماعية، نبعت من فضاءات ثقافية خاصة القت بظلالها على جوانب حياتنا المختلفة، وطبعت كل إفرازاتها بقدسية النص وقيمة العرف كأبعاد متوازية أسست وأنتجت هذا الفضاء الثقافي العربي الإسلامي.

النص والعرف

كانت سلطة النص تؤسس بناء العلاقة مع الآخر على ضوء تأويلات مفاهيمية لمظاهر النص، وكان هذا الظاهر للنص هو السائد في أغلب الأحيان وخصوصاً فيما يتعلق بأهل الذمة. هذا الغالب في الفهم العربي والإسلامي يتسع لاحتواء مفهوم التسامح إلى أقصى حدوده الممكنة، وينحدر أحياناً إلى ضيق التعصب إذا اقتضت ضرورات السياسة وجاهزية المصلحة، ودائماً تنبعث انبعاث سوء من سلطات حاكمة أسست دوماً في تأريخ العرب والمسلمين لمظاهر العنف والتعصب، ثم الإرهاب لاحقاً.

كان هذا السلوك قبلياً معززاً سلطة العرف بشقيه، الإيجابي أولا وكثيراً، من خلال عرف قيمي يعلي من شأن حسن الجوار وذمة المجير، وهو سلوك ينم عن قناعة بدائية بقيمة التسامح يدخل كعنصر في تركيبة الحياة الاجتماعية العربية ومن ثم الإسلامية. ثم هناك شقه السلبي في نفي هذه القيمة/الجوار تبعاً لمقتضى منفعة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وبهذا يكون للعرف دور ساند ودائم في تحديد العلاقة مع الآخر.

لقد كان العرف يمثل سلطة مثلما كان النص ولا زال يشكلان هوية الدولة السياسية ذات الطبيعة الملوكية في تأريخ العرب ماضياً وحاضراً. ولأن المجتمع الشعبي كان خاضعاً وبقناعة ذاتية لكلتا السلطتين حيث التماهي التام بين الحاكم والمحكوم وبين سلطة سياسية تقوم على أبوية روحية شرعية ونَسَبية قبلية، وبين مجتمع وجد نفسه محكوماً بولاء الطاعة شرعاً، وهو ما يشكل سلطة النص ومحكوما ً أيضا بولاء القبيلة انتماء وهو ما يمثل سلطة العرف، ولذا كان الاجتماعي لهذا المجتمع في علاقته مع الآخر موضع اتفاق بين قمة الهرم الاجتماعي وقاعدته الشعبية-وهي تمثل ثقافته السياسية العامة.

لقد كانت السياسة بالنسبة إليه تندرج في حقل ثقافي عام يتداخل فيه السياسي مع الأخلاقي والاجتماعي والمقدس الشرعي كحامل لهذه الثقافة التي رسمت ملامح جوهرية أسست فضاء عاما تبلورت من خلاله معان وجودية أسهمت في تحديد سلوكه اتجاه الآخر وتنظيم علاقته به.

الآخر والعصر

بعد ظهور الدولة الحديثة بمفهوم قانوني وسياسي حديث لم تألفه مجتمعات أخرى في تأريخها، تأثرت هذه المرجعيات الثقافية ذات البعد السياسي لدى العالم العربي في إنتاج ما يواكب العصر بخصوص العلاقة مع الآخر وتسببت في أرباك هذه العلاقة كثيراً.

لقد دخلنا عصراً يتحرك فيه السياسي بسيطرة كلية على أبعاد حياتنا بمختلف الصور، وخرجنا من عصر العرف وسيطرة نموذج أخلاقي ذا بعد سلطوي مما تسبب في إحداث قطيعة كبرى مع العالم المعاصر جعلتنا في زمن غير الزمن الذي نحيا، ظهرت واضحة في رفض عدد من الدول العربية لإعلان حقوق الإنسان لأنه لا ينسجم مع تراثنا ومرجعياتنا التي عملت على تغييب مجال السياسي الذي أشار اليه الجابري (نقلاً عن كتاب: الدولتان السلطة والمجتمع في بلاد العرب وبلاد الإسلام لمؤلفه برتران بادي أحد أساتذة علم الاجتماع الفرنسيين المعاصرين واعتمد عليه في نظريته التحليلية للعقل السياسي العربي) نتيجة سلطة مقدسة للنص، وتبين دلالة هذا النص بتأويله توظيفياً ليسير ضمن خط سلطة العرف التي ارتكنت إليها كثيراً، بل هي الإطار العام للسياسة الملوكية في تأريخ الإسلام مما يؤشر إلى موقع القبيلة الأساسي في توجيه تلك السياسة ومن ثم اقترانها بديهياً بقواعد تأسيس الدولة العربية الحديثة.

فلا زال الخنجر رمزاً لرؤساء عرب، ولا زال ابن الرئيس هو ولي أرث القبيلة، وكان صدام نتاج التأسيس السلبي لهذه الدولة، يتحدث بأمثال تنم عن عقلية عشائرية وشخصية قبلية انسجمت مع وضع سياسي خاطئ لا يمكن أن يعيش بغير مناخ صحراوي. إنها دولة تفتقد إلى حداثة الفكر وتحديث العقلية التي تشترط التخصص في كل مجال، الفصل بين جوانب الحياة الحديثة بما فيها السياسي، هذا الفصل لم تستوعبه ثقافة العرب والمسلمين السياسية لأنها نتجت في ظرف آخر وقدمت من زمن ثان.

ولقد كان فصل المجال السياسي أمراً أساسياً في بناء الدولة الحديثة، حاولت دول إسلامية أن تقوم بهذه المهمة-التجربة بالتزام مبدأ علمانية الدولة وفصل الدين عن السياسة وابعاد هذه الثقافة من الدولة والسياسة، بذلك يتم فصل السياسي عن الثقافي، ولكنها فشلت ضمن مشروع فشل الدولة الحديثة، لأنها فرضت تاريخيا على مجتمعاتنا من غير حاضن تأريخي وثقافي يحضن هذه الدولة وتنشأ فيه طبيعياً مما أدى إلى أن تفقد هذه الدولة صفة التحديثية كما يرى غليون.

وتضطرب في الاستناد إلى مرجعية شرعية تأرجحت بين ثقافة تراث سياسي بركنيه: النص والعرف، وبين متطلبات الحداثة وسياسة العصر. ومن هنا نشأ الشرخ الكبير في علاقة إنساننا العربي والمسلم بهذا الواقع السياسي، ومن ثم هذه الدولة. إذ لم يتبلور فيها مفهوم المواطنة (المواطنة منظور اليها كإطار عام ينظم العلاقة مع الآخر) بشكل واضح ومؤثر في مجريات التعامل اجتماعياً وسياسياً، وهو ما يعد قناة دخول دولتنا إلى عصر يستجيب لمتطلباته وينسجم مع قواعده، إضافة إلى مشكلة غياب فعل الزمن لآلية أنتاج التسامح في تراثنا منظوراً إليه من زاوية وظيفته في تنظيم العلاقة مع الآخر.

وتعمقت أزمة هذه العلاقة لتمتد إلى علاقة هذا الكيان بالأنا العربي والإسلامي، وكانت مشكلة الآخر أشد وطأة وأكثر سلبية، هذا الآخر صار عربياً ومسلماً أيضا وانحياز هذا الكيان إلى الطرف الذي أرتبط به دينياً وقومياً ومذهبياً. إن ارتباطه بواسطة هذه العلائق الثقافية التي ارتبطت بمفهوم سياسي ايديولوجيته تهميش الآخر وتفريغ العلاقة به من مفهوم وسلوك التسامح الذي يعد أرثاً ثقافياً يشكل جوهر تلك العلاقة.. وقد وصل التهميش إلى حد الإلغاء بالغاً أقصى تردياته في الدولة العراقية في ظل النظام الدكتاتوري البائد التي صارت نموذجاً للفشل السياسي، لأنها تشكلت على أساس انتماء قومي ايديولوجي ومذهبي توظيفي استمدت منه شرعية السلطة وفق صكوك اعتبار الأهلية القومية والأحقية المذهبية، وأقصت مفهوم المواطنة عن الممارسة السياسية، مما جعل غياب التسامح أمراً مشروعاً عقائدياً بعد أن رفعته إلى مستوى التنظير مبدئياً. وكذلك مبرراً سياسياً ليتجاوز إلغاء الآخر إلى دفنه في غياهب مقابر جماعية. وهكذا بعد إلغاء الآخر وتهميشه ثم دفنه امعاناً في تطبيق سياسة دكتاتورية جوهرها اللاتسامح وفعلها دفن الأحياء.

المواطنة معادل التسامح

إذا كان اللاتسامح قرين ونتاج الدكتاتورية، فإن المواطنة حاضن التسامح تستلهم روحيته لأنها تصدر من مبدأ قبول الآخر وتنطلق من ذات الأصل الذي ينطلق منه التسامح وهو نزوع الإنسان نحو اجتماعه، مع فارق زمني يرتبط بتطور طبيعي وتقني يستمد شرعيته من أصول نظرية معتبرة خلاف ثقافة التسامح، إذ هي نتاج مشاعر إنسانية وأحاسيس نبيلة، وأن المواطنة تشكل المعادل الموضوعي في هذا العصر لأخلاقية التسامح في نظام العلاقة مع الآخر وتنبذ كل علاقة عمودية تأتي عن طريق سلطة ممنوحة بفعل القوة.. فالناس صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، وهي إشارة واضحة إلى أفقية العلاقة مع الآخر، لأن النظير يكون على خط مستقيم واحد، وشمول الناس كان بهذا التكافؤ في التناظر يظهر جلياً في معنى المساواة طبيعياً وقانونياً، وهو ما اعتمدته دساتير الأمم المتحضرة في تشريع حق المواطن لتنظيم علاقة الإنسان بالآخر، وبذلك يفسح المجال واسعاً أمام غاية التسامح النبيلة لتؤدي دوراً إنسانياً رائداً..

لا شك أن النص والعرف يلون خلفية هذا النص مرسوماً بريشة المواطن... فالناس لآدم وآدم من تراب ومن كان التراب أصل خلقته لا يرفع أنفه أستعلاءاً بل يرفعه لينظر إلى آفاق السماء الرحبة التي تدعوه إلى ملكوت التسامح لأنه دوماً في محيط الآخر والوطن مهاده.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2017 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق