فرغت للتو من قراءة "مخطوطة كتاب سيصدر حديثاً تحت عنوان "الإسلاميون في الحكم... قراءة في خمسة تجارب"، وهو عبارة عن وقائع مؤتمر حمل العنوان ذاته، وتناول تجربة الإسلاميين في حكم تركيا والمغرب وتونس ومصر والعراق، وقد تحدث فيه ممثلون عن تيارات سياسية وفكرية متعددة، وبصورة وفرت قراءات من زوايا مختلفة للتجربة ذاتها، بما فيها قراءات الإسلاميين أنفسهم.

لا يمكن وضع جميع التجارب في سلة واحدة، لكل دولة خصوصيتها وسياقاتها التاريخية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والدول المذكورة، تخضع لأنظمة حكم مختلفة، بعضها ملكي وبعضها الآخر جمهوري، وإلإسلاميون فيها مدارس ومذاهب، سنة وشيعة، حداثيون وأصوليون، لكن مع ذلك تتوفر التجارب الخمس على مشتركات مهمة، مكنتني من استخلاص دروس ثلاثة في تجربة العلاقة بين الإسلاميين والحكم، والإسلاميين والعلمانيين، والإسلاميين والانتقال الديمقراطي.

الدرس الأول؛ لا ديمقراطية من دون الإسلاميين، فالمجتمعات العربية، وبعد أربعة عقود مكثقة من موجات "الأسلمة" المتتابعة، ستظل تنتج مثل هذه الحركات، وشعوب المنطقة عليها أن تعتاد حتى إشعار آخر، تجربة العيش والتعايش مع الإسلام السياسي، ومن مصلحة هذه المجتمعات ومستقبل انتقالها الديمقراطي، أن تكون هذه الحركات من النوع المرن والمتكيف مع مقتضيات عملية الانتقال، إذ في المقابل، لا انتقال نحو الديمقراطية، ما لم تتبن تيارات الإسلامي السياسي الرئيسة، قيم الديمقراطية والتعددية واحترام الآخر ومبادئ حقوق الانسان، ذلكم هو الدرس الأول، أو المعضلة الأولى التي واجهت وتواجه معظم مجتمعاتنا إن لم نقل جميعها.

الدرس الثاني؛ الإسلاميون لا يتقدمون بمبادرات ذاتية، نابعة من دواخلهم، نحو خطاب مدني – ديمقراطي، هم يفعلون ذلك تكيفاً مع الضغوط أو أملاً بالحصول على مكاسب فئوية... لو تُركوا لأنفسهم، لما أقدموا على تحديث خطابهم وبرامجهم... والتكيف عندهم، غالباً ما يأتي كنتيجة للضغوط المقترنة بالإغراءات، فإن اكتفت الأنظمة الحاكمة بسد المنافذ في وجه هذه الحركات، جنحت إلى العنف والتطرف، وأغلقت باب التحديث والعصرنة، وكفت عن استقبال رياح التغيير المنشود في مضامين خطابها السياسي.

أما الدرس الثالث؛ فيتلخص بالقول بأن طريق الحركات الإسلامية نحو دمقرطة خطابها وتمدينه، ليس ذي اتجاه واحد، فهذه الحركات، حتى أكثرها اقتراباً من مبادئ العلمانية والديمقراطية وقيم وقواعد حقوق الانسان، قد تنتكس إلى الوراء، وتنكفئ إلى خطاب ماضوي – أصولي – مذهبي، بل وقد تنخرط في مشاريع "أسلمة" الدولة والمجتمع على حد سواء، ما أن يرفع عنها الضغط، ويتآكل حضور وفاعلية "المعادل الموضوعي" لوزنها ونفوذها، سواء أكان في مؤسسات الدولة أو في المجتمع.

في مطلع العشرية الفائتة، بادرت أحزاب إسلامية عديدة، تحت تأثير مرحلة ما بعد "الحادي عشر من سبتمبر"، وصعود حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا، وتزايد الاهتمام العالمي بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى تبني وثائق إصلاحية، تحدثت لأول مرة، وإن بتحفظ، عن مفهوم الدولة المدنية والتبادل السلمي للسلطة، وحقوق الانسان والديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية، حدث ذلك في كل من مصر والأردن وسوريا والعراق وسوريا واليمن، تزامناً مع ازدحام المنطقة بمبادرات الإصلاح والتحديث.

وفي الوقت الذي حافظ فيه إسلاميو تركيا على السلطة منذ العام 2002، وانفرد الإسلام السياسي الشيعي بحكم العراق على نحو مهمين، فقد جاءت ثورات الربيع العربي وانتفاضاته، لتوصل الإسلاميين للحكم في مصر وتونس والمغرب، فكيف جاء حصاد التجربة، وما الذي حصل لجعل مصائر كل بلد من هذه البلدان، مختلفاً عن الآخر؟

في تركيا، وبعد "طبعات" متتالية أكثر مدنية واعتدالاً من الإسلام السياسي، تطورت وتعاقبت على وقع التدخل المباشر للمؤسسة العلمانية ممثلة على نحو خاص، بالجيش والرئاسة والقضاء والإعلام، بدا أن الإسلام السياسي التركي قد نجح في تقديم النموذج الأكثر تطوراً للحركات المماثلة في العالم العربي، خصوصاً بعد أن قدم إجابات عملية على "ثنائيات" شغلت العقل العربي من نوع: الإسلام والعلمانية، الإسلام والتنمية، الإسلام والديمقراطية وغيرها.

لكن نجاح الحزب بزعامة رجب طيب أروغان، في تفكيك مؤسسات الدولة العلمانية وإضعافها على نحو منهجي منظم خلال السنوات العشر الأولى من التجربة، ومع اندلاع ثورات الربيع العربي، وتصدر الإسلاميين لحركة الشوارع العربية، عاد الحزب إلى خطاب ديني – مذهبي، وأمعن في تطبيقات "نظرية التمكين"، وانتكس بتجربة الديمقراطية الناشئة في تركيا إلى ضفاف الاستبداد... وإذ أخفقت احزاب المعارضة والمجتمع المدني التركي في مواجهة النفوذ الطاغي للحزب الحاكم، فقد بات بمقدور السيد أردوغان، إن يجهز على النظام البرلماني، وأن يستبدله بنظام رئاسي متطاول الصلاحيات، وإن يحيل البلاد إلى أكبر سجن للصحفيين والمعارضين، خصوصاً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز 2016.

أما في مصر، وبعد أربعة عقود من الركود والاضعاف المنهجي المنظم للحياة الحزبية والسياسية والمدنية في البلاد، فقد شكلت المؤسسة العسكرية، "المعادل الموضوع" لنفوذ الإسلاميين المتغلغل في أوساط المجتمع... ومع اندلاع ثورة 25 يناير، بدا أن مصر تدور حول محورين اثنين: الجيش والإخوان، إلى أن تم إسقاط نظام الرئيس مرسي في يوليو 2013، لتنقطع بذلك مفاعيل "نظرية التمكين"، وليحل الاستبداد و"الدولة العميقة" محل حكم الإسلام الشمولي. لتأتي خلاصة التجربة المصرية، مصداقاً للقول بأن مخاطر عودة الاستبداد ستظل ماثلة، عندما تحل "الدولة العميقة" محل المجتمع القوي، في معادلة نفوذ الحركات الإسلامية وموازنة ثقلها.

على النقيض من ذلك، تكشفت التجربة التونسية عن دور عميق للمجتمع المدني والحركات النسائية والأحزاب العلمانية ونقابات العمال والأعمال، في الحد من غلواء حركة النهضة، وتدوير الزوايا الحادة والخشنة في خطابها، وتوفير "المعادل الموضوعي" لها، فكانت تونس أول وأهم قصص النجاح في تجربة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي على الرغم من المصاعب والتحديات التي ما زالت تجابهها.

المغرب قدم نموذجاً للتحول في ظلال الملكية، والملكية مؤسسة مستقرة في المغرب، إن لم تكن أقدم الملكيات القائمة حالياً في العالم، وهي تلعب دور "ضابط الإيقاع" الذي يحتكر "الفضاء الديني" ويحد من النفوذ المتغوّل للحركات الإسلامية من جهة، ويضبط حركة "الدولة العميقة" بأدواتها وأذرعتها المختلفة من جهة ثانية... في المغرب مجتمع سياسي ومدني قوي كذلك، لكن للملكية القول الفصل في رسم قواعد اللعبة والتحكم بمخرجاتها، ولهذا نرى المغرب يسير بخطى وئيدة على طريق التحول، وإن كان ما زال بعيداً عن أن يوصف بالديمقراطية الناشئة.

العراق قصة مختلفة، فالإسلام السياسي الشيعي الذي تطاول على الحكم من موقع الأغلبية، كان قميناً بخلق خصومه ومجادليه، ومن الموقع المذهبي والقومي المضاد: الإسلام السياسي السني، بما فيه من الطبعات الأكثر عنفية من جهة، والحركات الكردية ذات الميل الانفصالي العميق على خلفية الشعور القومي المتنامي من جهة ثانية... أخفق الإسلام السياسي العراقي بجناحيه السني والشيعي، في قيادة مرحلة انتقال وتحول في العراق، بل وأغرق البلاد والعباد في بحر من الانقسام والاقتتال المذهبيين، سيما بعد صعود داعش بالأمس، واليوم مع تفاقم الميول الانفصالية الكردية وتنامي خطر الاحتراب العربي – الكردي.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق