تبدو مسؤولية النخب الثقافية إزاء التطور السريع في صراع القيم وتصادمها على خريطة اللاوضوح العالمية كبيرة جداً، وأهم تلك المسؤوليات؛ الوقوف على الأرضية المناسبة التي تتوسط الحرب القيمية، بين مشروع يُعتقد بكونيته العابرة لكل ماهو قديم ومتوارث، وآخر يعتقد أن القديم الموروث خط أحمر لايجوز المساس به.

الحقيقة أن نخبنا الثقافية ماتزال ــ في أعمها الأغلب ــ في موت سريري، ولاتعي دورها بالضبط، وليس لها رؤية محددة لتبديد الضباب القيمي، وغير عارفة بالحدود المتداخلة بين القديم والجديد، ولا بآليات العمل على صياغة موقف موضوعي من هذا التداخل. غياب الموقف النخبوي لايمكن أن يقرأ من زاوية واحدة، فهناك عوامل كثيرة تقف خلف هذا الغياب المؤدي إلى أزمة خطاب رهيبة، تلقي بظلالها الكثيفة على راهننا الفكري والثقافي المعاصر، وأوقعته في فخ مايعرف بـ (الهوية الجماعية) التي عززت من فقدان الشعور بالأمان، والشعور باللاجدوى الذي يقود إلى التساؤل عن مكان هذا الراهن بين الجدية والعبثية، خصوصاً بعد أن أثبتت التجارب نسبية هذه القيم، وأسقطت النظرة المأخوذة عنها بهالة اتخذت شكل الإطلاق على تكامليتها، كما أثبتت التجارب أنها متقلبة يدفع تقلبها باتجاه المزيد من التعقيد الأخلاقي، وإطلاق الآراء الانفعالية التي وصفها (محمد اركون) بـ (التاريخية الأسطورية) والتي اجتهد مطلقوها منذ القرن التاسع عشر في إثبات التفوق الغربي على المناطق الأخرى إذ يرى أن هذه الآراء مازالت "تحافظ على استمراريتها بأشكال متسترة نسبياً" الأمر الذي أنتج رؤيتين مختلفتين في بين الدفاع والهجوم، متفقتين بصورة غير مباشرة على أنهما رؤيتان تزيدان من شرعية العنف المتكىء على التصادم القيمي.

وهاتان الرؤيتان تبلورتا بشكل أكثر وضوحاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001 حيث كان للغرب العلماني أن يشن (الحرب العادلة) مستثمراً الصدمة التي أحدثتها الهجمات على برج التجارة العالمي، بينما لعب الطرف الآخر على مصطلح (الجهاد) المدعوم بالمدونات الفقهية المهيمنة على مساحات واسعة من المخيلة الدينية. وأمام هذه الإشكالية المعقدة جاءت دعوة (محمد اركون) التي نادت بضرورة إعادة قراءة القيم جينالوجياً ؛ من أجل تكملة ماتم بتره من الحقائق طيلة الفترة الزمنية التي شهدت أزمة في تقديم خطاب ثقافي معاصر، لاتهيمن عليه بالمطلق الأبعاد التاريخية، ولا يستسلم لمقولات الكونية المربكة ، والتي جعلتنا أُسارى لثنائية العلمانية / التطرف، والتي عمقت من الصورة الانسانية الضبابية، وأجهضت محاولات لملمة الأشياء المبتورة من الخطاب الفكري المأزوم إيديولوجياً، والذي شوه الحقول المعرفية والابداعية، بحيث ظلت المجتمعات منقادة لأنساق تقليدية جافة عادة ما يتم استخدامها سياسياً؛ بهدف الحصول على مكاسب انتخابية وغيرها، أو الوصول لبعض المراكز الحساسة من جهة، أو تنقاد لثقافات لاتريد أن تتنازل عن غرورها الليبرالي العلماني في نظرتها الإقصائية لخصوصيات الآخرين الاجتماعية والعقائدية من جهة أخرى.

إن الفكرة القائمة على الانعتاق من الدين، والتي طالما تباهى بها الغرب في صياغة أنموذجه (الحضاري)؛ ليست بتلك الفاعلية، خصوصاً وأن فكرة الانعتاق هذه جاءت نتيجة لممارسات تحسب على ديانة معينة دون غيرها، الأمر الذي جعل الغرب أمام مأزق تمثل في انتشار ديانات غير مسيحية في مجتمعاته ، فكانت ردود الأفعال ــ إزاء هذا الانتشار ــ بإطلاق دعوات تنادي بضرورة إعادة (تنصير أوروبا)، قبل أن تمتد الدعوة لتنصير العالم بأكمله فأصبح الانعتاق من الدين إلى الدين مع اختلاف التسميات وهذه مفارقة كبيرة تستدعي التوقف عندها ؛ من أجل إيجاد قيم أكثر وضوحاً، قيم متصالحة مع نفسها، متحررة من كل أشكال الهيمنة وتستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة. وعملية إيجاد القيم الجديدة تأتي من خلال الابتعاد عن إطلاق الأحكام المسبقة، والنظر بعين واحدة، خصوصاً فيما يتعلق بالنظرة تجاه حقيقة الدين، وعملية إطلاق التوصيفات عليه. صحيح أن أحداث 11 سبتمبر أحدثت صدمة، لكن ذلك لايعني أن نطلق صفة الإرهاب على مجمل مسلمي العالم، خصوصاً أولئك الذين يهربون من الجحيمات المتنوعة في بلدانهم إلى بلدان الغرب طلباً للأمان والطمأنينة. لابد من مواجهة أنساق العنف المفاهيمي الذي يعتمده الغرب، وذلك بإطلاق العنان للأفكار أن ترسم الصورة الصحيحة، وتبدد الصورة الضبابية القاتمة التي جعلت من تجارة الأسلحة مزدهرة، في ظل مشاريع الحروب، وتغليب منطق القوة.

لابد من التغلب على المنطق التعقيدي في عملية انتاج القيم، وتبريز الخطابات الثقافية التي لاتُبتر ولاتُفصل عن سياقاتها، خصوصاً الخطابات التي تتبنى مقولة (ماللإنسان للإنسان).

فالإنسان جزء من مكونات أخرى تتفاعل معه ويتفاعل معها، والتفاعل الإيجابي هو الصيغة الأمثل لإعادة انتاج القيم، خصوصاً تلك التي تتعلق بإفشاء السلم والتسامح والمحبة، وتنبذ خطاب الكراهية والعنف الصادر عن عدم الرؤيا الجيدة، أو التغاضي عن الرؤيا الصحيحة لكثير من المفاصل وأهمها مايتعلق بمسببات العنف الناتج عن العقائد المتطرفة والفاقدة لمعناها الإنساني والأخلاقي، كونها نتاج أدلجة مأزومة ابتعدت عن حقيقة الخير الذي نادت به السماء عبر الأديان المختلفة.

اضف تعليق