تخلص هذه الدراسة التحليلية إلى أن السيدة فاطمة الزهراء (ع) تمثل مدرسة علمية متكاملة الأركان، جمعت بين العلم اللدني المستمد من الوحي والتحديث الملائكي، والعمق الفلسفي والعقدي الذي تجلى في خطبها التوحيدية، والفقه المقاصدي عبر تعليلها للأحكام والشرائع وربطها بصلاح الفرد والمجتمع، والمنهج البرهاني في استخدام القرآن الكريم كأداة عليا للحجاج وفصل النزاعات...
بقلم: السيد هاشم أمير الهاشمي
1. المقدمة
لم تكن سيدة نساء العالمين (عليها السلام) في المشهد الإسلامي مجرد ابنة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) تحظى بالرعاية والعطف، بل كانت "الكوثر" الذي فاض علماً وحكمة، والمستودع لأسرار الرسالة. إن الباحث في التراث الروائي يجد نفسه أمام شخصية تمتلك وعياً قرآنياً عميقاً، وقدرة فائقة على الاستدلال المنطقي والعقدي، فضلاً عن بلاغة تفوق الوصف، حتى عدّها المحققون النسخة الثانية في الفصاحة بعد أبيها (صلى الله عليه وآله) وبعلها (عليه السلام). وتكمن إشكالية البحث في محاولة تفكيك "العقل الفاطمي" عبر نتاجه الخطابي والروائي؛ كيف صاغت العقيدة؟ وكيف فسرت التشريع؟ وما هي طبيعة العلم الذي حازته؟ تهدف الدراسة إلى إبراز الجانب "العلائِي" في شخصيتها، متجاوزين السرد التاريخي للمظلومية -على أهميته- إلى التحليل المعرفي لآثارها الفكرية، استناداً إلى أمهات المصادر التراثية المعتبرة.
2. مصادر المعرفة الفاطمية وتكامل الروافد
تشير النصوص الروائية المستفيضة في تراث أهل البيت (عليهم السلام) إلى أن علم الزهراء (عليها السلام) لم يكن علماً اعتيادياً ناتجاً عن السماع والتعلم التقليدي فحسب، بل كان نتاج تلاقح رافدين مقدسين؛ الأول هو الوراثة النبوية المباشرة، حيث كانت (عليها السلام) ألصق الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله)، تأخذ عنه العلم غضاً طرياً، وقد ورد أنها كانت مهتمة بتدوين العلم، ففي الحديث أنها جاءت تشكو إلى رسول الله، فأعطاها "صحيفة" فيها علم، وقال: «تعلّمي ما فيها»، وكان فيها أدعية ومواعظ وحكم ، مما يكشف عن منهجية علمية مبكرة في حفظ التراث النبوي.
أما الرافد الثاني فهو الرافد الإلهامي الذي عبرت عنه النصوص بلقب "المُحدَّثة" (بفتح الدال المشددة)، أي التي تحدثها الملائكة، وهو مقام سامٍ لا يعني النبوة، بل يعني صفاء الروح والاتصال بالملأ الأعلى. ويروي الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه طبيعة هذا العلم في حديثه عن "مصحف فاطمة"، مؤكداً أنه ليس قرآناً، بل هو علم ما يكون، حيث يقول (عليه السلام): «إن الله تبارك وتعالى أرسل إليها ملكاً يسلي غمها ويحدثها... فكانت تملي ذلك على علي (عليه السلام) فيكتبه» . إن وجود مدونة علمية خاصة كـ "مصحف فاطمة" يتوارثها الأئمة (عليهم السلام) دليل قاطع على أنها كانت مصدراً من مصادر المعرفة الإلهية الخاصة، وأن علمها يتجاوز حدود الفتيا العامة إلى علم المنايا والبلايا وما يجري في الكون بإذن الله.
3. التأسيس العقدي في الخطابة الفاطمية
تُعد خطبتها الشهيرة في المسجد النبوي وثيقةً فكريةً شاملة، بدأت فيها بتأسيس قواعد العقيدة قبل الدخول في الظلامة السياسية أو الحقوقية. إن تحليل مقدمة الخطبة يكشف عن عمق فلسفي في طرح مسألة الذات الإلهية والصفات، حيث تقول (عليها السلام): «وابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيئته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها...» .
في هذا النص المركز، تعالج الزهراء (عليها السلام) أعقد المسائل الكلامية والفلسفية بنسق متصل؛ فهي تبدأ بنفي المادة الأزلية القديمة رداً على من قال بقدم العالم وتؤكد أن الخلق كان إبداعاً من العدم، ثم تنتقل لتنفي وجود أي مثال سابق للخلق تأكيداً على الإبداع الإلهي المطلق، وتختم هذا السياق العقدي بنفي الغرضية النفعية، موضحة أن خلقه للخلق لم يكن لاستكمال نقص -حاشاه- أو لجلب منفعة، بل هو فيض جود ومشيئة، وهذا الطرح الدقيق يبين أنها (عليها السلام) كانت تمتلك ناصية الكلام وتغوص في بحار التوحيد، مقدمةً درساً لاهوتياً يضاهي خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة.
4. فلسفة التشريع (علل الشرائع) والمقاصد
لم تكتفِ الزهراء (عليها السلام) بنقل الأحكام الشرعية كقوالب جامدة، بل تصدت لبيان "علة التشريع" أو ما يسمى حديثاً بـ "مقاصد الشريعة"، مقدمة تبريراً عقلياً وروحياً للعبادات والمعاملات، ورابطة بين الشكل الفقهي والمضمون الأخلاقي والاجتماعي. تقول (عليها السلام) في خطبتها: «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً من الفرقة...» .
عند التأمل في هذا السرد المقاصدي، نجد ترابطاً عضوياً مدهشاً في رؤيتها للأحكام؛ فهي تربط الصلاة بنفي الكبر لأن السجود هو قمة التذلل وعلاج النفس المتغطرسة لا يكون إلا بتمريغ الجبهة في التراب، وتنتقل لبيان الوظيفة الاجتماعية للعدل، حيث لم تحصره في إحقاق الحقوق فحسب، بل اعتبرته أداة لـ "تنسيق القلوب" وخلق الانسجام والاستقرار الداخلي للمجتمع، وتتوج هذا البناء المفاهيمي بربط القيادة الربانية (الإمامة) بحفظ النظام الاجتماعي والأمان من التفرق والشتات، مؤسسةً بذلك للنظرية السياسية في الإسلام التي تربط بين سلامة العقيدة وسلامة المجتمع.
5.المنهج الاستدلالي بالقرآن الكريم
من السمات البارزة في الشخصية العلمية للزهراء (عليها السلام) هي "المركزية القرآنية" في الحجاج والمناظرة. ففي محاججتها للقوم حول ميراثها وحق بعلها، لم تلجأ للعاطفة المجردة، بل لجأت لقوة البرهان القرآني، مفحمةً خصومها بآيات الكتاب العزيز. عندما سُلب حقها بدعوى حديث (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)، ردت عليهم بتفكيك هذا الادعاء عبر عرض الآيات المحكمات التي تثبت وراثة الأنبياء، قائلة: «أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: {وورث سليمان داود}، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: {فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب}» .
يتجلى في هذا النص المنهج العلمي الرصين للزهراء (عليها السلام)، حيث بدأت باستخدام أسلوب الاستفهام الإنكاري لزعزعة قناعة الخصم، ثم استحضرت النماذج القرآنية الموثقة (سليمان وزكريا) لتدليل على أن الأنبياء يورثون، وهذا يدل على حفظها الدقيق للقرآن الكريم واستحضارها للآيات المناسبة للمقام، وقدرتها على التفسير الموضوعي والجمع بين الآيات لاستخلاص الحكم الشرعي، وشجاعتها العلمية في تصحيح المفاهيم المغلوطة حتى لو صدرت من كبار القوم، معتمدة على حاكمية النص القرآني فوق كل اجتهاد أو رواية آحاد.
6. الزهراء (عليها السلام) راويةً للسنة وحافظة للتراث
إلى جانب خطبها التأسيسية، كانت الزهراء (عليها السلام) راوية للحديث النبوي، وقد احتفظت المصادر التراثية بمجموعة من مروياتها التي تغطي جوانب فقهية وأخلاقية. فعن الإمام العسكري (عليه السلام) أنها قالت: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من استخف بصلاته ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة...» ، وهذا الحديث الطويل الذي يفصل عقوبات التهاون بالصلاة دنيوياً وأخروياً، يعتبر من أهم النصوص التربوية التي حفظتها لنا الزهراء (عليها السلام). كما روت حديث الغدير واحتجت به، وروت أحكام الجار قائلة: «الجار ثم الدار» ، مرسخة بذلك القيم الاجتماعية العليا، مما يؤكد أن دورها في نقل السنة لم يكن مجرد نقل، بل كان انتقاءً لما يحيي القلوب ويقوم السلوك الفردي والمجتمعي.
7. الخاتمة
تخلص هذه الدراسة التحليلية إلى أن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تمثل مدرسة علمية متكاملة الأركان، جمعت بين العلم اللدني المستمد من الوحي والتحديث الملائكي، والعمق الفلسفي والعقدي الذي تجلى في خطبها التوحيدية، والفقه المقاصدي عبر تعليلها للأحكام والشرائع وربطها بصلاح الفرد والمجتمع، والمنهج البرهاني في استخدام القرآن الكريم كأداة عليا للحجاج وفصل النزاعات. إن اختزال شخصية الزهراء (عليها السلام) في البعد المأساوي فقط يعد تقصيراً في حق تراثها العظيم؛ فهي "المحدثة" كما وصفها الإمام الصادق (عليه السلام)، وكلماتها تمثل دستوراً في العقيدة والسياسة والتشريع، جديرٌ بالدراسة المستمرة في الحوزات والمجامع العلمية.



اضف تعليق