q
إذا تجاوز استخدام الفرد، أو الجماعة، أو الدولة الحدود التي خولها القانون فإن هذا التجاوز سوف يخرج هذا الاستخدام للقوة الذي تقدمت شرعيته، ويدخله في إطار العنف والمعروف أن العنف إنما هو الخرق كما عرفته كتب اللغة المختلفة؛ وبخروج هذا الاستخدام غير المقنن عن الخط المرسوم...
حيدر البصري

 

قلما شهد مفهوم من المفاهيم جدلاً كذلك الذي شهده مفهوم العنف، هذا الجدل الذي لم ينحصر في جانب من جوانب ذلك المفهوم دون آخر، وإنما يكاد يتسع ليشمل كل جوانبه.

فعلى الرغم من كثرة المراجع التي تناولت مفهوم العنف من حيث المعنى، إلا أن تحديد معناه لا زال موضوع أخذ ورد من قبل المهتمين في هذا المجال، كما أن شرعية هذا المفهوم من عدمها أخذت حيزاً عريضاً من ذلك الجدل.

وهذا الجانب من الجدال، جانب شرعية العنف من عدم شرعيته، إنما يتفرع ـ من وجهة نظر الكاتب ـ عن النوع الأول من النقاش، وذلك أن عدم تحديد المعنى الدقيق لمفهوم ما لا بد أن يقود إلى أخذ ورد فيما يتلو مسألة تحديد المعنى من المسائل، بخلاف ما لو حدد المعنى الدقيق للمفهوم؛ إذ حينها تنتفي الحاجة إلى بحث من قبيل شرعية ذلك المفهوم من عدمها، فعدم تحديد المعنى الدقيق لمفهوم العنف هو الذي قاد إلى هذه المرحلة من الجدل.

ثم إن هذا البحث لم يكن ليقتصر على مرجعية فكرية، وثقافية دون مرجعية أخرى؛ فكما أن هناك صراعاً فكرياً حول تحديد النقاط التي سبق ذكرها بالنسبة للمرجعيات القانونية، فإن نفس الصراع تتجاذب أطرافه المرجعيات الدينية.

عليه ومن منطلق الوقوف على حقيقة الأمر ارتأيت دراسة هذه الظاهرة وفق كل من الرؤية الشرعية، والقانونية لها.

أهداف البحث

على أن البحث سوف يتحدد بهدفين هما:

1- تحديد المعنى الدقيق لمفهوم العنف.

2- شرعية العنف من عدمها بين كل من الشرع والقانون.

تحديد المعنى الدقيق لمفهوم العنف:

قبل الخوض في موضوع تحديد المعنى، تجدر الإشارة إلى أن هناك اختلافاً في تحديد معاني المفاهيم بين كل من المرجعيات الدينية، والقانونية، ففقهاء القانون يعتمدون في تحديد معاني المفاهيم التي يقومون بدراستها على المراجع اللغوية فقط، في حين يستند المختصون بالشريعة على مصادر الشريعة في تحديد تلك المفاهيم بالإضافة إلى الرجوع إلى المصادر اللغوية في تحديد المعاني.

من هنا قد ينقدح في الذهن سؤال مؤداه: ما هو الاختلاف بين الاثنين في ذلك، مادام هناك اتفاق بين المصادر اللغوية، ومصادر الشريعة على تحديد معاني المفاهيم؟

جواب هذا السؤال هو أنه لا خلاف في ذلك فيما لو كان هناك اتفاق بين مصادر الشريعة الإسلامية والمصادر اللغوية في تحديد معنى من المعاني، أما لو اختلف تحديد المعنى بين كل من المراجع اللغوية، ومصادر الشريعة، فإن مختصي الشريعة سوف يعتمدون في تحديد معانيهم موضوع البحث على ما تقدمه لهم مصادر الشريعة من المعاني.

معنى العنف في النظريات الوضعية

لقد ساق المختصون ـ ممن تناولوا ظاهرة العنف بالبحث والدراسة ـ تعريفات كثيرة ومتنوعة لمفهومها.

فمن التعريفات ما حصر العنف بالسلوك المادي الذي يتبعه الشخص كي يمكن دخوله في حدود التعريف، ومنها ما وسع حدوده ليتناول التهديد باستخدام العنف، وثالث توسع أكثر من ذلك ليشمل ما يمكن تسميته بالعنف الرمزي، وآخر قدم تعريفا له من خلال أشكاله ومظاهره، كالعنف الأسري، أو السياسي، أو الإقتصادي.. الخ.

لكن بما أننا نتناول ظاهرة العنف بصورة عامة، ومن خلال هدفين اثنين، فإننا سنعرض هنا عن الخوض بتفاصيل الموضوع، وسنحافظ على عمومية البحث.

أنماط تعريفات العنف

من خلال متابعة التعريفات التي سيقت لمفهوم العنف ارتأينا هنا أن نقسمها إلى:

1) النمط المادي للتعريف:

(يؤكد أنصار هذا الإتجاه أن العنف هو استخدام القوة المادية لإلحاق الأذى والضرر بالأشخاص، وإتلاف الممتلكات)(1).

وقد عرف بعض أنصار هذا النمط من التعريفات مفهوم العنف على أنه: (استعمال قوة كبيرة، أو مدمرة ضد الناس أو الأشياء، استعمال قوة محظورة من قبل القانون، وموجهة لإحداث تغيير في المناهج السياسية، وفي أشخاص الحكومة، أو نظامها، ومن ثم لإحداث تغييرات في المجتمع)(2).

وعرفه آخر بأنه: (استخدام القوة المادية لإنزال الأذى بالأشخاص، والممتلكات) (3).

هذان مثالان للنمط الأول من التعريفات الذي يحدد العنف باستعمال القوة استعمالا غير مشروع، أو غير قانوني.

مناقشة النمط المادي للتعريف

يؤخذ على هذا النوع من التعريفات المؤاخذات التالية:

أ) يضيق نطاق ظاهرة العنف ويحصره بالعنف المادي؛ مما يؤدي إلى إخراج العنف الرمزي من دائرة العنف، والحال أن العنف الرمزي لا شك في كونه من أنواع العنف، والذي قد يفوق في أثره العنف المادي، وذلك بحسب حال الممارس ضده، ومكانته.

بعبارة علمية منطقية يمكن القول أن هذا النوع من التعريفات غير جامع؛ إذ أنه يخرج طائفة من أنواع العنف، وأشكاله من الدخول في دائرة الظاهرة، مما قد يعطي الذريعة بشرعيتها، أو قانونيتها، أو يوحي بذلك على أقل التقادير.

ب) أهمل التعريف التهديد باستعمال العنف للوصول إلى غرض معين، وكما هو معلوم أن التهديد لا يقل أهمية من حيث تأثيره في الآخرين من استعمال العنف ذاته.

2- النمط الثاني من التعريف:

أما النمط الثاني من التعريفات فقد وسع من دائرة مفهوم العنف، (ليشمل التهديد باستخدام القوة، إلى جانب الاستخدام الفعلي لها) (4).

فمن هذه التعريفات: (العنف ضغط جسدي أو معنوي، ذو طابع فردي أو جماعي، ينزله الإنسان بالإنسان، بالقدر الذي يتحمله على أنه مساس بممارسة حق أقر بأنه حق أساسي، أو بتصور للنمو الإنساني الممكن في فترة معينة) (5).

ومنها أيضاً: (سلوك أو فعل يتسم بالعدوانية يصدر عن طرف قد يكون فردا، أو جماعة، أو طبقة إجتماعية، أو دولة بهدف استغلال وإخضاع طرف آخر في إطار علاقة قوة غير متكافئة اقتصادياً، واجتماعياً، وسياسياً، مما يتسبب في إحداث أضرار مادية، أو معنوية، أو نفسية، لفرد، أو جماعة، أو طبقة إجتماعية، أو دولة أخرى) (6).

مناقشة النمط الثاني:

يؤخذ على هذا النمط أنه يقدم لمفهوم العنف تعريفاً يفتقد لبعض الشروط العلمية الأساسية للتعريف.

فالتعريف الذي يقدمه أصحاب هذا الإتجاه يفتقد للجامعية كسابقه، فهو وإن كان قد وسع دائرة العنف لتشمل التهديد باستخدام العنف، إلا أنه لم يكن من الدقة بحيث يدخل ممارسة العنف الرمزي تحت تعريف العنف، والحال أن الكل متفق على أن العنف الرمزي إنما هو نوع من أنواع العنف قد لا يقل تأثيره عن العنف المادي وذلك تبعا للحالة التي يمارس العنف الرمزي ضدها.

3- النمط الثالث للتعريف:

لقد استفاد أصحاب هذا الاتجاه مما وقع فيه أصحاب النمطين السابقين ليقدما لمفهوم العنف تعريفا يخلو إلى حد كبير من الإشكالات.

لقد ركز أصحاب هذا الاتجاه على ظاهرة العنف باعتبارها تمثل مجموعة من الاختلالات والتناقضات الحاصلة في البنية الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية للمجتمع؛ فقد أخضعوا الظاهرة للتحليل الدقيق من مختلف الجوانب ليخرجوا من خلال ذلك بما أطلق عليه (العنف الكلي) أو (العنف البنائي).

عليه، قدم لنا أصحاب هذا الاتجاه التعريف التالي لمفهوم العنف: (كل سلوك - فعلي أو قولي - يتضمن استخداماً للقوة، أو تهديداً باستخدامها، لإلحاق الأذى والضرر بالذات أو بالآخرين، ولإتلاف الممتلكات لتحقيق أهداف معينة) (7).

خلاصة الرؤية الوضعية لمفهوم العنف:

على الرغم من وجهات النظر المختلفة للمختصين الذين تناولوا مفهوم العنف من حيث تعريفه، إلا أن الجميع يتفق على أن العنف ظاهرة ممجوجة، وقيمة سلبية لا تمت إلى القيم النبيلة بصلة، اللهم إلا البعض ممن يعتبر بعض أنواع العنف مقدسا، ولعل هذا الرأي ينشأ من أمرين:

* الخلط بين المفاهيم، فهناك البعض ممن يعتبر الاستخدام المشروع للقوة عنفاً، في حين يخرج هذا الاستخدام عن دائرة العنف أساسا، كما تقدم من خلال التعريفات التي مر ذكرها.

* عدم فهم المسألة فهما دقيقا من الأساس.

معنى العنف في الإسلام

لم يكن المعنى الاصطلاحي للعنف في الدين الإسلامي ليختلف كثيراً عن معناه اللغوي. فقد ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي في معرض تفسيره لقول أمير المؤمنين الإمام علي (ع): (وتنفسوا قبل ضيق الخناق، وانقادوا قبل عنف السياق) (8)، ذكر في تفسيره للعنف المعنى التالي: (العنف بالضم وهو ضد الرفق) (9).

أما الإمام الصادق (ع) فقد ورد عنه قوله: (.. واعلم أن من عنف بخيله كدحت فيه بأكثر من كدحها في عدوه.. واعلم أن لكل شيء حداً، فإن جاوزه كان سرفاً، وإن قصر عنه كان عجزا، فلا تبلغ بك نصيحة السلطان إلى أن تعادي له حاشيته، وخاصته، فإن ذلك ليس من حقه عليك)(10).

كما ذكر صاحب كتاب البحار في تعليقه على قول الإمام جعفر الصادق (ع): (ومن العلماء من إذا وُعِظَ أنف، وإذا وَعَظَ عنف) (11)، المعنى التالي لمفهوم العنف: (بيان قوله(ع) من إذا وعظ على المجهول، أنف، أي استكبر عن قبول الحق، وإذا وعظ على المعلوم، عنف، أي تجاوز الحد، والعنف ضد الرفق) (12).

هذا فضلا عن أن القرآن الكريم -المصدر الأول للتشريع الإسلامي- سبق أن رسم لنا معالم مفهوم العنف في بعض الآيات القرآنية التي تدعو إلى نبذ هذه الظاهرة المقيتة، والابتعاد عنها؛ فقد ورد أن العنف مساوق للغلظة، والشدة، وقسوة القلب، وذلك في قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم)(13).

خلاصة الرؤية الإسلامية لمفهوم العنف

كما هي الرؤية الوضعية لمفهوم العنف من حيث كونه ظاهرة ممقوتة، تجد الرؤية الإسلامية تتفق في ذلك مع الرؤية الوضعية، وإن كان هناك اختلاف في سعة وضيق المفهوم. وهذا يدل على أن العنف من المفاهيم التي لا تتغير قيمتها من حيث الزمان والمكان.

تعريفنا لمفهوم العنف:

من خلال ما تقدم يمكننا تقديم تعريف لمفهوم العنف يتلخص بالتالي: العنف هو سلوك ينطوي على استعمال غير مشروع للقوة، أو التهديد باستعمالها، وعلى توهين الآخر، بدوافع ذاتية وخارجية.

سلبية العنف:

تبين مما تقدم، ومن خلال اتفاق المختصين بالبحث في قضايا العنف، سواء الإسلاميين منهم وغيرهم، أن العنف من القيم السلبية التي لا يمكن أن تنتج أثرا إيجابيا، كما ويتبين لنا خطأ المقولة التي تزعم بأن الحقوق لا تسترد بغير العنف؛ إذ إن العنف لا يؤدي إلا إلى العنف، وإنه سيدخل ممارسيه في دوامة لا خلاص لهم منها.

وذلك بخلاف القول باسترداد الحقوق بالقوة المقننة، التي تعترف بها الشرائع، والقوانين الدولية على حد سواء، من قبيل نضال الشعوب من أجل تحرير أراضيها المغتصبة، والذي تعترف به كل القوانين السماوية، والأرضية، كنضال الشعب الفلسطيني ضد المحتل الصهيوني الغاصب لأرضه.

فغير دقيق نعت هؤلاء بأنهم إنما يمارسون العنف، فمن شأن هذه النعوت الإضرار بقضيتهم أمام الرأي العام، كما أنها تعطي ذريعة مجانية لضربهم من قبل العدو تحت ذريعة مكافحة العنف والإرهاب.

عدم شرعية العنف:

لا أحسب أنه بعد تحديد المعنى الدقيق لمفهوم العنف أن الحاجة تدعو إلى الخوض في شرعية العنف من عدم شرعيته ، وذلك بعد ثبوت ممجوجيته، وممقوتيته من قبل النظم على اختلافها، سماوية كانت أم أرضية، وخاصة بعد ثبوت سلبيته، وعدم قابليته لإنتاج الآثار الإيجابية.

ولكن بما أنه لازال موضوع شرعية ظاهرة العنف وعدمها، من المواضيع التي يجري فيها البحث والجدال، وأن هناك من يؤصل لشرعية هذه الظاهرة من منطلقات مختلفة، رأينا أنه لابد من الخوض في هذا الميدان، على أننا بعد الانتهاء من البحث العام سنمر على نظريتين مختلفتين في الإسم إلا أن معناهما واحد، وذلك لصلتهما الوثيقة بما نحن بصدده من بحث، وهاتان النظريتان هما:

1- نظرية الإلجاء: وهي من النظريات الشرعية الإسلامية التي تبحث في موضوع الفقه الجنائي الإسلامي.

2- نظرية الدفاع الشرعي: وهي النظرية القانونية التي تبحث في موضوع القانون الجنائي في القوانين الوضعية.

تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن هاتين النظريتين تختلفان اسماً، إلا أن حقيقتهما وموضوعهما واحد.

ثم إننا سنعرج بالتالي على حق الرد الذي يعتبر أحد مفاصل القانون الدولي.

العنف المشروع قانوناً

ألفت نظر القارئ الكريم بأنني من الذين لا يؤمنون بشيء اسمه شرعية العنف كما تقدم، وذلك أن العنف أمر مرفوض لا يقره أحد، كي يمكن التماس الشرعية له، ولكن بما أن الحديث الجاري هو شرعية العنف وعدم شرعيته قد أعبر أو أعنون بعض مفاصل بحثي هذا بهذا العنوان، أما الأمر الأصح الذي ينبغي عنونة هذه المسألة على أساسه، فهو شرعية استخدام القوة، وقانونيته، من عدم شرعية ذلك، وفرق كبير بين استخدام القوة، والعنف.

عليه لا بد من تصحيح عناوين هذه المسألة ومسمياتها، فوصف الإنسان نفسه بكونه عنيفاً من أجل استرداد حق له، سوف يدفع العالم إلى التعامل معه على أساس أنه عنيف، وإرهابي، فمن يكلف نفسه تحليل هذا العنف الذي يمارسه، وإنه مبني على أسباب منطقية ومشروعة؟

والواقع يكشف لنا عن أن الكثير من أصحاب الحقوق كانت حقوقهم قد ضاعت في زحمة هذه العناوين، وكلنا يعلم بأن وسائل الإعلام بالمرصاد لكل شاردة وواردة، فمن يصرح بكونه عنيفاً، إنما يدين نفسه دولياً، ويعطي الفرصة لتشويه قضيته مهما كانت عادلة؛ فهو يعطي الذريعة لضربه.

إذن، فالأصح هو البحث والحديث عن شرعية استخدام القوة من عدم شرعيتها، وهذا الأمر من الدقة بمكان بحيث أن أقل خلل في الاستعمال يؤدي إلى الخروج عن إطار الشرعية، والدخول في دائرة العنف.

الاستخدام المشروع للقوة في القانون

عرفت القوة بأنها (مرادف القدرة) (14)، وقيل بأنه إذا اقترن (فعلها مع شعور فهي النفسانية، فإن كان مختصاً بالحيوان فهي الحيوانية) (15)، وذلك لعدم سيطرة العقل عليها.

إذن فللإنسان نوعان من القوة:

قوة ذاتية: حباه الله تعالى بها، وهي مما لا دخل له فيه. وهذا النوع من القدرة يدخل في باب الأمور التكوينية، وأخرى خارجية، وهذه تكون باكتساب الإنسان وسعيه.

فاستخدام الإنسان قوته في الحدود التي خوله إياها القانون هو حق له شريطة أن لا يتزاحم مع حق آخر، فالأصل في القانون (أن لصاحب الحق أن يستعمل حقه بالطريقة التي يراها، والكيفية التي يشاءها، وذلك حسب الحدود التي يقرها القانون) (16) .

هذا التخويل لا ينحصر بإطار الفرد بل يمتد إلى الجماعات، والدول كذلك، فيخولها القانون الداخلي أو الدولي استخدام ما تمتلك من قوة من أجل حماية نفسها أو رد غائلة الاعتداء عن نفسها.

فعلى نطاق الجماعات - مثلاً- أقر القانون الدولي حق الشعوب والجماعات في تقرير مصيرها، كما أقر نضالها من أجل هذا الهدف.

فالمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة أقر في قراره الخامس المرقم (1592) بتاريخ 21/ أيار/ 1971 حق الشعوب في تقرير مصيرها، وأجاز لها القتال من أجله، ولقد دعا الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى تبني القرار.

الفقرة الثانية من القرار نصت على (حق الإنسان الأساسي في القتال من أجل تقرير مصير شعبه) (17).

أما على صعيد الدول فقد أقر القانون الدولي العام ما يسمى بحق الرد الذي ينطوي على (حق الدولة في اللجوء إلى إجراءات ضارة، ولكنها جائزة، ضد دولة أخرى، لدفع ضرر وقع عليها، أو قد يقع عليها، نتيجة لإجراءات معادية اتخذتها الدولة الأخيرة( (18.

القانون الدولي إذن يعترف (بشرعية هذه المقاومة الوطنية، كما تعترف بها جميع الدول في العالم، فالمقاومة المشروعة هي التي تقوم بها الشعوب لتحرير بلادها من نير الاحتلال القائم)(19).

وقفة تأمل

من خلال استعراض الأدلة التي دلت على موارد مشروعية استخدام القوة من قبل الفرد، أو الجماعات، أو الدول في سبيل الحفاظ على النفس، أو من أجل تقرير المصير، أو إنهاء الاحتلال.. من خلال ذلك تبين لي أمر جدير بالاهتمام والملاحظة، ذلك هو أن موارد استخدام القوة في حدود تخويل القانون، إنما تتركز في مسألة الدفاع، اللهم إلا في حالات نادرة يتجسد استخدام القوة فيها بالهجوم، وذلك فيما لو قصد منها رد غائلة عدوان مؤكد تنوي دولة أو فرد القيام به ضد من استخدم القوة ابتداء بهدف رده كما جاء ذلك في حق الرد الذي يخول للدولة (اللجوء إلى إجراءات ضارة ولكنها جائزة، ضد دولة أخرى لدفع ضرر وقع عليها، أو قد يقع عليها، نتيجة لإجراءات معادية اتخذتها الدولة الأخيرة)(20).

خلاصة القول أن القوانين الوضعية على اختلافها تجيز استخدام القوة من قبل الفرد، والجماعات والدول، ما دام ذلك الاستخدام في الحدود التي خولها القانون، وأن هذا الضرب من استخدام القوة لا يدخل في دائرة العنف أساساً.

من القوة إلى العنف

أما إذا تجاوز استخدام الفرد، أو الجماعة، أو الدولة الحدود التي خولها القانون - الداخلي أو الدولي - فإن هذا التجاوز سوف يخرج هذا الاستخدام للقوة الذي تقدمت شرعيته، ويدخله في إطار العنف. والمعروف أن العنف إنما هو الخرق كما عرفته كتب اللغة المختلفة؛ وبخروج هذا الاستخدام غير المقنن عن الخط المرسوم يكون الفعل مجرَّماً يجعل فاعله تحت طائلة العقاب.

الاستخدام المشروع للقوة في الإسلام

لقد كرمت الشريعة الإسلامية ابن آدم أيما تكريم؛ وقد تجلى ذلك التكريم في قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلا)(21).

ومن وسائل هذا التكريم اتخاذ السبل اللازمة للحفاظ عليه، في قبال ما يتهدده في وجوده، أو مختصاته؛ فتارة تتكفل الحكومة الإسلامية بالتدخل للحد من كل ما يتهدد رعاياها، ولكن المعروف أن السلطة لا تكون حاضرة في كل مشهد، فقد يتعرض إنسان لخطر لا يمكنه معه انتظار التدخل الخارجي لإنقاذه من ذلك الخطر؛ فالشريعة الإسلامية خولت الإنسان هنا الدفاع عن نفسه من خلال استخدام القوة، على أن هذا الاستخدام لابد أن يتقيد بالحدود التي رسمتها الشريعة الإسلامية له.

هذا على صعيد الفرد، أما على صعيد الجماعات والدول، فقد كانت الحروب التي اضطرت الدولة الإسلامية لخوضها حفاظاً على نفسها إزاء الأخطار الخارجية التي كانت تتهددها في وجودها، خير دليل على جواز استخدام القوة في حدود المعقول، والمشروع، في سبيل الحفاظ على النفس، (وهذا الحق تجيزه الشرائع السماوية، كما تجيزه القوانين الوضعية الداخلية، والدولية)(22).

ولعل خير دليل على جواز استخدام القوة استخداماً مشروعاً، قوله تعالى في كتابه الكريم: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)(23).

فالآية الكريمة تحث المسلمين على ضرورة التسلح بأسباب القوة، كي تشكل قوة ردع لكل من تسول له نفسه الاعتداء على الدولة الإسلامية، والإطاحة بها، والحال أن امتلاك أسباب القوة لم يكن للترف فحسب، وإنما ينطوي على جواز استخدام تلك الأسباب عند اللزوم.

يجدر بالذكر أن امتلاك أسباب القوة لا ربط له بالإرهاب أساساً؛ فالمراد بإخافة العدو في الآية الكريمة، ردعه عن التفكير بغزو الدولة الإسلامية، أو تهديدها.

كما ورد في الحديث الشريف: (إن الله أعطى المؤمن ثلاث خصال: العزّ في الدنيا والدين، والفلح في الآخرة، والمهابة في صدور العالمين) (24).

خلاصة الرؤيتين الشرعية والقانونية في شرعية القوة (العنف)

تتلخص الرؤيتان الشرعية والقانونية في جواز استخدام القوة، ولكن في الحدود التي رسمها الشارع -في الشريعة- والمقنن- في القانون الوضعي-. أما العنف فلا شرعية له أساساً، لكونه ظاهرة سلبية، وقيمة سلبية، لا يمكن أن تلتمس لها الشرعية، أما بعض الآراء التي تلتمس شرعية للعنف، ولو اضطرارية، من قبيل: الرأي القائل: (وليست الحرب والمقاطعة وأساليب العنف إلا وسائل اضطرارية، شاذة على خلاف الأصول الأولية الإسلامية، حالها حال الاضطرار لأكل الميتة وما أشبه) (25). والرأي الذي يقول: (لما كان العنف والظروف الاستثنائية عموما من الأمور الطارئة والعارضة في حياة الأمم والشعوب.. فإنه يغدو من الضروري بيان وتعريف العنف والظروف الاستثنائية وأيضاً بيان الأساس القانوني للشرعية الاستثنائية) (26)، فمثل هذه الآراء لا بد أن أصحابها يقصدون بشرعية استخدام العنف، شرعية وقانونية استخدام القوة، ولكن عبروا عن ذلك بشرعية العنف تجوزاً.

فبعض العلماء، الذي يناقش فقه العنف المسلح، تجده مرة يستخدم تعبير شرعية العنف، وأخرى استعمال القوة، حيث يقول: (وبالجملة لا يشرع الدخول في المرتبة الثالثة باستعمال العنف غير المسلح، فضلاً عن العنف المسلح قبل اليأس التام من جدوى العمل السلمي، والدعوة باللسان والبيان، واعتماد التنظيم والمرحلية. وقد يقال: إن أسلوب الدعوة باللسان، والتنظيم واعتماد المرحلية، يمكن أن يثمر، ولكن ذلك يستغرق زمناً طويلاً قد يبلغ عشرات السنين، بينما استعمال القوة يمكن أن يوصل إلى الهدف خلال أشهر أو سنين) (27).

فتجد الشيخ محمد مهدي شمس الدين يستخدم شرعية العنف تارة، ثم استخدام القوة تارة أخرى، ما يدل على أن المقصود إنما هو شرعية استخدام القوة، فهو يصرح كثيراً في ثنايا بحثه بعدم شرعية العنف، وقد يسلم جدلاً أو افتراضاً بتلك الشرعية، بهدف الرد والتفنيد، كما في قوله التالي: (فلو سلمنا بمشروعية استعمال العنف) (28)، أو قوله: (إن استعمال العنف - على فرض مشروعيته - واجب كفائي) (29)، أو كما يقول: (فلا ريب في أن الشارع المقدس قد اعتبر ترك هذه المحرمات أهم بكثير من امتثال هذا الواجب - على فرض مشروعيته -) (30).

ثم إن الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي الذي استشهدنا بقوله قبل قليل كان من أشد الداعين إلى اللاعنف في عصرنا الحالي، ولكن - مع ذلك - يستخدم تعبير مشروعية العنف عند الاضطرار تجوزاً.

نظريتا الإلجاء والدفاع الشرعي

سبق وأن قدمنا بأننا سوف نتطرق إلى نظريتي الدفاع الشرعي القانونية، والإلجاء الشرعي، كمظهر من مظاهر جواز استخدام القوة في الحدود التي رسمها كل من الشرع والقانون بعيداً عن تدخل الدولة، وذلك في حالات معينة.

نظرية الإلجاء:

نظرية الإلجاء هي نظرية إسلامية تخول الإنسان الذي يتعرض إلى خطر حقيقي من آخر، اللجوء إلى استخدام القوة في سبيل دفع ذلك الخطر، وذلك فيما لو تعذر التخلص منه بغير استخدام القوة. على أن ذلك الاستخدام لابد أن يكون وفق الشروط التي حددتها الشريعة الإسلامية له، من قبيل حقيقية الخطر الداهم، عدم وجود طريقة للتخلص من الخطر بغير استخدام القوة، وأن يكون الاستخدام للقوة بما يتناسب وطبيعة الخطر.

نظرية الدفاع الشرعي (القانوني):

أما الدفاع الشرعي فهو حق يخوله القانون للإنسان، يجوز له بناء عليه استخدام القوة إزاء خطر يتهدده، وفق شروط حددها القانون، مثل حقيقية الخطر، وحلوله، وعدم إمكانية اللجوء إلى السلطات والاحتماء بها، وأن يتوقف التخلص من الخطر على استخدام القوة، وتناسب القوة المستخدمة مع طبيعة الخطر.

إلى جانب هذا الحق الفردي هناك حق الرد الذي يخول الدول استخدام القوة في قبال التهديدات الموجهة ضدها، وقد سبقت الإشارة إليه.

التعسف في استعمال الحقّ

تجدر الإشارة إلى أن تجاوز استخدام الإنسان لهذا الحق سوف يعد تعسفاً في استعمال الحق، كمن يقتل بالرصاص من صفعه باليد، فتجاوز الحد هنا يحول هذا المتعسف إلى إنسان عنيف، عوضاً عن كونه يستخدم حقه المشروع.

نتائج البحث

يمكننا تلخيص نتائج البحث بالنقاط التالية:

1- إن المصادر اللغوية، والنصوص الشرعية، تحدد معنى العنف بتجاوز الحد، والغلظة، وكونه ضد الرفق.

2- إن العنف مدان شرعاً وقانوناً، بناءً على تحديد معناه، والتوصل إلى كونه من المعاني السلبية والظواهر الممجوجة.

3- ليس هناك شرعية يمكن أن تلتمس لظاهرة العنف، بعد ثبوت كونها سلبية، وإذا كان هناك حديث عن الشرعية، فيفترض أن يكون عن موارد شرعية استخدام القوة أو عدمها.

4- جواز استخدام القوة شرعاً وقانوناً في الحالات التي يتعرض المرء خلالها إلى خطر يدهمه وفق الشروط التي حددها كل من الشرع والقانون لذلك الاستخدام.

5- إن تجاوز الحدود التي رسمها الشرع والقانون لاستخدام القوة في الحالات التي ذكرناها سوف يحول مستخدم القوة إلى إنسان متعسف ومتجاوز للحد.

* مقال نشر في مجلة النبأ-العدد (67-68)-جمادى الأولى 1423/آب 2002

.................................
الهوامش:
(1) د. حسنين توفيق إبراهيم، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 1999، ص42.
(2) تيد هندريش، العنف السياسي.. فلسفته أصوله أبعاده، ترجمة عبد الكريم محفوظ، وعيسى طنوس، ط1، 1986، ص141.
(3) ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مرجع سابق، عن المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، ص43
(4) ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مرجع سابق، ص43.
(5) المجتمع والعنف، مجموعة من الإختصاصيين، ترجمة: الأب إلياس زحلاوي، الأستاذ أنطون مقدسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط3، 1993، ص148ـ149.
(6) د. ليلى عبد الوهاب، العنف الأسري.. الجريمة والعنف ضد المرأة، دار المدى للثقافة والنشر، بيروت، ط1، 1994، ص16.
(7) ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مرجع سابق، ص45.
(8) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، الباب89، ص395.
(9) المصدر السابق، ج6، الباب89، ص396.
(10) المحقق النوري، مستدرك الوسائل، ج12، الباب2، الرواية 13844.
(11) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج2، الباب 17، الرواية11، ص109.
(12) المصدر السابق، ج2، الباب 17، ص109.
(13) آل عمران: 159.
(14) محمد علي التهانوي، موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 1996، ج2، ص1344.
(15) المرجع السابق، ج2، ص1343.
(16) عبد الرحمن البزاز، مبادئ أصول القانون، مطبعة العاني، بغداد، ط2، 1958، ص343.
(17) محمد السماك، الإرهاب والعنف السياسي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، ص119.
(18) د. عبدالوهاب الكيالي، موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ج2، ص557.
(19) ثامر ابراهيم الجهماني، مفهوم الإرهاب في القانون الدولي، دار حوران للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 1998، ص93.
(20) موسوعة السياسة، مرجع السابق، ج2، ص557.
(21) سورة الإسراء: 70.
(22) موسوعة السياسة، مرجع السابق، ج2، ص556.
(23) سورة الأنفال: 60.
(24) بحار الأنوار: ج76/ ص71.
(25) الإمام محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، السبيل إلى إنهاض المسلمين، مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت، ط8، 2000، ص 143.
(26) د. مجدي المتولي، العنف والشرعية في مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1995، ص45.
(27) صحيفة الحياة، العدد 14111، تشرين الثاني، 2001، عن كتاب فقه العنف المسلح للشيخ محمد مهدي شمس الدين.
(28-29 -30) المرجع السابق.

اضف تعليق