يكذب من يقول أن الطفل لا يستطيع استشعار الأجواء المعادية حين يدخلها لأنه لا يزال طفلا، فقد استشعرت على الفور روح العداء عند الأطفال الآخرين، ورأيت ذلك في نظراتهم لي وفي بعض الكلمات التي يتفوهون بها، بل وصل الأمر ببعضهم أن يمد يده ليصفعني أو يضربني بكفّه على ظهري...
في عالم المدينة الجديد، لا يوجد سوى الحَجَر الأصفر والإسفلت الأسود، كأن هذين اللونين حلّا محل الأخضر والأزرق عندما كنتُ أعيش في الريف، وشتّان بين ألوان الحياة الطبيعية وبين ألون البناء المدني الجاف، فالأخضر والأزرق يمثلان حياة تضج بالحيوية، والأصفر والأسود أقرب إلى الجدب واليباس، وشتان ما بينهما.
هكذا بهذه السرعة وهذا الفارق القاسي بدأتُ عالم المدينة، وتمّ تسجيلي في الصف الأول الابتدائي في مدرسة الخزرجية الابتدائية، ودخلت بناية المدرسة التي أرعبتني تماما مثل مدرسة قرية (أم البط)، وأدخلتْ الخشية المزمنة في قلبي من كل شيء فيها، خصوصا تلك الأجساد الصغيرة التي تتقافز في ساحة المدرسة كالفئران، إنهم الطلاب الصغار الذين راحوا ينظرون لي شزرا، كأنني قادم لهم من كوكب آخر.
يكذب من يقول أن الطفل لا يستطيع استشعار الأجواء المعادية حين يدخلها لأنه لا يزال طفلا، فقد استشعرت على الفور روح العداء عند الأطفال الآخرين، ورأيت ذلك في نظراتهم لي وفي بعض الكلمات التي يتفوهون بها، بل وصل الأمر ببعضهم أن يمد يده ليصفعني أو يضربني بكفّه على ظهري، لكن أين لهم هذا السلوك مع طفل ريفي تعلّم القسوة منذ شهوره وسنواته الأولى، حيث تعلمت أن أرد النظرة القاسية بأقسى منها، وضربة اليد المعادية بأقوى منها، وردّ الكلمة السيئة بأسوأ منها، حتى بات الطلاب الصغار يحذرون التجاوز عليَّ منذ الساعات الأولى التي دخلتُ فيها هذه المدرسة الجديدة.
بعد أسبوع أو أكثر تمكنتُ من تكوين صداقات جيدة، والتف حولي عدد من الطلبة الصغار في الصف الأول الابتدائي الذي أدرس فيه، وشيئا فشيئا بدأت الأجساد الطفولية المعادية لي تقلّ وتضمر وتتراجع، وفي نفس الوقت أعداد الأصدقاء أو المحايدين تتزايد، وساعدني ذكائي على جلب العديد من المؤيدين الجدد، لكن فقر الحال وحالة العوز تكبلني بملابس ليست جديدة، فكنت أرتدي بنطول ابن عمتي حمزة، وقميص ابن عمتي الأخرى رزاق.
ما عدا الحذاء هو الوحيد كان جديدا لكنه كان من النوع الرديء، هذا الشكل الفقير غطّى عليه سلوكي الغني مع الآخرين، وذكائي في الصف، فكانت هناك حالة من التوازن النفسي أعيشها بسبب ذكائي وقوتي المعنوية التي لا أعرف من أين حصلتُ عليها، وهكذا توالت الأيام في الصف الأول الابتدائي، لتنتهي هذه السنة بنجاح حصلت فيه على درجات كاملة وكنت الأول على الصف مع ثلاثة أو أربعة طلاب حصلوا على (الأول مكرّر).
من المشاهد القاسية التي ما زالت قائمة في رأسي إلى الآن، حالة البطالة التي عانى منها أبي، لم يعثر على عمل، وأقمنا مع بيت عمتي في غرفة صغيرة، لدرجة أننا كنا نتكدس فوق بعضنا أثناء النوم، وحين حصل والدي على عمل في مصلحة نقل الركاب كان راتبه الشهري قليل جدا، فظلّت المعناة كما هي، لكنني واصلتُ دراستي بتفوق مستمر، وكنتُ أحصل على شارة (فارس الصف، وقدوة الصف) بشكل مستمر، فصرتُ معروفا عند المعلمين والطلاب معا، وزاد عدد أصدقائي، وهذا ساعدني كثيرا على التعلق بالمدرسة والحي والمدينة وربما عوضني عمّا فقدته في الريف من أجواء الحياة النقية.
ذات يوم دخل علينا المعلّم بأناقته الباهرة، فاح عطرهُ فملأ الصف، ثم غزا أنوفنا نحن التلاميذ الصغار، امتلأت الصدور بالعطر المنعش، وغصّت عيون الصغار بقامة المعلم، بوجهه المدوّر المشعّ كالقمر، بعينيه الضاحكتين، بأسنانه البارقة كاللؤلؤ، حتى حذاؤه سرق الأنظار بلمعانه ونظافته، أما ملابسه فرغم بساطتها لكنها كانت هادئة تسرُّ النفس بألوانها.
لم يكتفِ المعلّم بجمال شكله، فما فائدة أن يكون الشيء جميلا في ظاهره فقط، هذا ما أخبرنا به المعلم في أول محاضرة له، وقد ركّز على أهمية أن يكمّل ظاهر الإنسان باطنه أو داخله، وعندما استفسر منه أحد الصغار عن معنى (تشابه وتكامل الظاهر والباطن للإنسان)، سارع المعلّم لإخراج قلم جميل المظهر من جيبه، وقال: من منكم لا يتمنى أن يكون هذا القلم قلمه؟
هبَّ التلاميذ جميعهم ومعهم أنا، كّلنا نتمنى أن يكون هذا القلم الجميل ملْكاً لنا، ثم استدرك المعلّم قائلا، شكل هذا القلم الذي نال إعجابكم ليس كافيا، وعندما سألناه عمّا يكمّل جمال القلم أجاب: (نوع الكلمات التي يكتبها القلم، فإن كانت جميلة رقيقة حانية فهو جميل، وإن كانت الكلمات عكس ذلك، نابية قبيحة، فلن يكون القلم جميلا)، وحين تساءل أحد التلاميذ الأذكياء قائلا: (ولكنّ القلم ليس هو من يكتب الكلمات وإنما الكاتب، والكلمات الجميلة والقبيحة تعود لمن يكتبها وليس للقلم)، أجاب المعلّم بإعجاب قائلا:
(الأقلام الجميلة لا يمكن أن تخرج منها كلمات قبيحة، لأنها تأخذ طباعها وصفاتها من كتّابها، فالكاتب الجميل لا يمكن إلّا أن يكون قلمهُ جميلا، والكاتب القبيح لا يمكن إلا أن يكون قلمه قبيحا).
ولم يكتفِ المعلّم بهذا المثال، لاسيما أنه لاحظ حيرة بعضنا، فهناك بعض التلاميذ في الصف لم يصل لهم مثال المعلّم عن القلم الجميل، مما اضطره للإتيان بحكاية أخرى كي يفهمها الجميع، قال المعلّم في حكايته:
(هناك حطّاب يدخل الغابة القريبة من بيتهم يوميا، يحتطب من أشجارها بقدر ما يحتاجه لعائلته المكوّنة من سبعة أفرد، ويعود عصرا إلى البيت حاملا على ظهره ما يتيسَّر له من أحطاب، وذات يوم وهو يصل عمق الغابة سمع أنينا واضحا لكائن جريح، خمَّن لمن يكون هذا الصوت، ثم أجاب إنه لحيوانٍ جريح، وراح يتقرّب من مصدر الصوت، ليعثر على أسدٍ خرقت قدمهُ الأمامية قطعة خشب مستطيلة حادة الرأس، دخلت من باطن القدم وخرجت من ظاهرها.
كان الأسد يئنّ بشدة ويتوجّع وينظر للحطاب بعينين متوسلتين، كأنه يستنجد بالحطاب كي يخلّصه مما هو فيه من جرح وآلام مبرحة، وعلى الفور هبط الحطاب على ساق الأسد، وأسك بقطعة الخشب بقوة شديدة، وقام بسحبها بسرعة ومهارة، ثم سارع بتضميدها بقطعة قماش كي يتوقف نزيف الدم، واصطحب معه الأسد إلى بيته الواقع إلى جوار الغابة، وما أن دخل بيته هو والأسد الجريح حتى طلب من زوجته مداراة الضيف الجريح بالطعام والرعاية والتطبيب.
في اليوم الأول قامت زوجة الحطاب بما يلزم من ضيافة ورعاية للضيف الجريح، فيما واصل الرجل رحلة الاحتطاب اليومية، وحين يعود مع الغروب يستطلع حال الأسد، ويعرف إذا كان مرتاحا أم منزعجا، ثم يذهب إلى زوجته ويسألها عمّا قدمته للضيف، في اليوم الرابع أخذت تمتعض الزوجة وتتذمر من هذا العبء الثقيل عليها، وذات يوم لم تستطع الصبر، فحين ذكّرها زوجها بمواصلة الاهتمام بالأسد، فلتتْ منها كلمة قبيحة حين قالت لزوجها: (لماذا كل هذا الاهتمام بهذا الحيوان النتن)؟؟
في لحظةِ نُطْقِ الزوجة بهذه الكلمة القبيحة سمعها الأسد، ولم ينم تلك الليلة حتى الصباح، وما أن أشرقت الشمس حتى طلب الأسد من الحطاب أن يعود إلى الغابة، وعندما ألحَّ عليه الحطاب بأن يبقى حتى يُشفى تماما، رفض ذلك وأكّدَ بأنه شُفيَ وترك بيت الحطاب إلى الغابة، ولم يخبر الحطاب بأن السبب هو كلام زوجته الجارح.
بعد شهور، التقى الحطاب بالأسد وهو يتجوّل في الغابة دون ألم أو عرج، فاقترب منه الحطاب وسأله: هل برأْتَ من جرحكَ يا صديقي وهل اندمل تماما؟
أجابه الأسد بألم شديد: نعم لقد اندملَ جرح فدمي، لكنَّ جرح كلمات زوجتك لا يندمل إلى الأبد!!!.......
إلى هنا انتهت حكاية المعلم التي لا تزال متوهجة كلمةً كلمةً في ذاكرتي، نعم كنا نعرف أن الأسد لا يتكلّم، وهو حيوان غير أليف، ومن الصعب أن تضيّفهُ في بيتك، كل هذه الملاحظات لم تمحو تأثّرنا الشديد وتعاطفنا مع الأسد، وقد حرصنا منذ ذلك اليوم، بسبب حكاية المعلم، أن لا نتفوّه بما يجرح الآخرين، وأن تحافظ أفواهنا وأقلامنا على جمال شكلها وجمال ما تقوله وتكتبه للآخرين....
اضف تعليق