السؤال الذي لابد من الإجابة عنه، لاسيما بعد حالات الإحباط والتراجع في العمل السياسي بالعراق، هل يبقى السياسيون موغلين في التعنت وفرض الرأي واللهاث وراء المناصب والمكاسب، أم عليهم الآن ولا مجال للتأخير أو التردد، أن يضبطوا إيقاع العمل السياسي وفق قواعد اللعبة الديمقراطية...
التعنت والديمقراطية لا يلتقيان، فكلاهما مختلفان، الأول يميل إلى الإكراه والقوة والإملاء، فيما تذهب الديمقراطية إلى حرية الاختيار والرأي والانتخاب، ويبقى الشرط الوحيد هو التنافس بحرية تامة بين القوى السياسية (أحزاب وكتل وشخصيات سياسية)، وما تخرجه صناديق التنافس المنصف هو الذي يحدد الأحقية والأولوية في بلوغ دفّة الحكم.
التعنت يعني فيما يعنيه الإقصاء، والتشبث بالمنصب بالقوة، وفرض الرأي على الآخرين حتى لو كان غير مقنع أو ليس سليما، هذا النوع من النشاط السياسي لا وجود له مع الديمقراطية الراسخة، وإنما يمكن أن يتسلل إلى الميدان السياسي حين يتم الخروج على قواعد اللعبة الديمقراطية، وهو ما حدث في العراق عبر سنوات طويلة في سلسلة من الدورات الانتخابية التي تعرضت للتلاعب والتزوير واعتماد التعنت السياسي كبديل للمنهج الديمقراطي.
يقول باحث متخصص في السياسة عن الصراع والديمقراطية بأنهما مفردتان تقفان من حيث المعنى والفعل بالضد من بعضهما، ولا تلتقيان في ساحة السياسة إلا في حالة اختلال العمل السياسي، وانحرافه في مسارات قد لا تمت بصلة للديمقراطية بمفهومها المتَّفق عليه، فالمعروف أو المتوقَّع أينما توجد الديمقراطية على نحو صحيح ينتفي الصراع كمصدر تقاتل واحتراب بين السياسيين، أو بين الجماعات الساعية لبلوغ دفة السلطة، ويصح العكس أيضا.
حين يكون العمل السياسي متوازنا ومحكوما بقواعد لا يجوز إهمالها، حينئذ نكون أما نشاط سياسي محترَم وميدان سياسي حر، يدخله الجميع، ويتبارى فيه الفكر السياسي والرؤية الإدارية بحرية ونظام، وحين يكون النشاط السياسي متهورا عبثيا، تنهار الديمقراطية ويتم تقويض القواعد التي تضبط إيقاع العمل السياسي.
وهو ما حدث مرات عديدة في ميدان العمل السياسي بالعراق، فكما كان يحدث في هذا البلد وسواه من الدول المتأخرة سياسياً، عندما يسود الصراع بين القوى السياسية، يؤدي ذلك إلى انتزاع السلطة بالقوة الغاشمة كما لاحظنا ذلك في أسلوب الانقلابات العسكرية)، ووصول حكومات وحكام بمنطق القوة وليس الشرعية، بل بعيداً عن النهج الديمقراطي وما تؤول إليه صناديق الاقتراع من نتائج ينبغي أن ينصاع لها الجميع، مع التأكيد على نزاهتها وتقويض حالات التزوير والتلاعب في نتائجها.
السؤال الذي لابد من الإجابة عنه، لاسيما بعد حالات الإحباط والتراجع في العمل السياسي بالعراق، هل يبقى السياسيون موغلين في التعنت وفرض الرأي واللهاث وراء المناصب والمكاسب، أم عليهم الآن (ولا مجال للتأخير أو التردد)، أن يضبطوا إيقاع العمل السياسي وفق قواعد اللعبة الديمقراطية التي نادى بها الجميع، وقبلوا بها كخيار آخر مضاد للدكتاتورية؟
نحن في هذه الحالة نحتاج إلى بديل أو نقيض للتعنت السياسي، ولعلنا لا نخطئ حين نقول إن الغالبية من ساسة العراق وضعوا بديلا مضادا للتعنت وهو التنافس الديمقراطي، وقد سعى ناشطون في العملية السياسية إلى ترسيخه كمنهج عمل سياسي يتيح للعراقيين التداول السلمي للسلطة وبناء مؤسسات الدولة المستقلة بعيدا عن تدخل الأحزاب أو المدراء الذين ينتمون لكتل وأحزاب ليس همها بناء الدولة بقدر جني الفوائد المادية لا أكثر.
سؤال آخر يطرح نفسه بعد رحلة فاقت عقدا ونصف من العمل السياسي بالعراق بعد 2003، هل تبدو الساحة السياسية العراقية كما خُطِّط لها أن تكون، فضاءً ديمقراطيا قائما على التنافس السلمي بين الأحزاب والكتل السياسية، لتبادل مواقع السلطة من خلال أصوات الناخبين؟
تؤكد مخرجات العمل السياسي في العراق وجود مخاطر في طريقها إلى التفاقم، يفرزها صراع خفي بين القوى السياسية، يتحرك هذا الصراع خلف ستار ديمقراطي هش- كما أكد ذلك كثير من المراقبين- ليصبح التعنت السياسي بديلا للتنافس الديمقراطي السليم، وهذه ظاهرة خطرة ينبغي أن يتنبّه لها القائمون على العملية السياسية في العراق، بغض النظر عن الهوة الكبيرة التي تفصل بين الفرقاء، سواء في الأفكار أو الأهداف أو في وسائل العمل السياسي، لأن تحوّل التنافس إلى صراع واختلاف كلّي، يعني العودة إلى أساليب الاستحواذ على السلطة بالقوة مع تبلور منهج متشدد للهيمنة الأحادية وتضييع الفرصة الديمقراطية.
هذا يعني في حال بقيَ التعنت السياسي مستفحلا فإننا سوف نكون أمام خطر عودة الانقلابات العسكرية، وهي نتيجة تقضي بشكل تام على تطلعات العراقيين لبناء الدولة الجديدة المتحضرة التي تنتمي إلى روح العصر، لهذا لابد أن يتعلّم ويؤمن السياسيون العراقيون، أن لا عودة للصراع والاحتراب في العمل السياسي العراقي، بل هناك تنافس يستند إلى ضوابط تتضمنها قواعد اللعبة الديمقراطية التي اتفق عليها الجميع ووافقوا عليها.
لا يصح فسح المجال أمام هيمنة ظاهرة التعنت السياسي، فالجميع لهم حرية الاختلاف في الآراء والبرامج السياسية وليس الخلاف، على أن يتم ذلك تحت مظلة التنافس الديمقراطي، وقد تعلّم بعض القادة السياسيين قواعد اللعبة الديمقراطية، وقطعوا شوطا في مجال التأسيس لعملية سياسية ديمقراطية تنافسية، لا مكان لوسائل القوة في إدارتها، ولا عودة للدكتاتورية أو فرض الرأي بالقوة، فعهد التفرد بالسلطة مضى إلى غير رجعة.
وحتى يكون العراقيون في مأمن ومنأى من السقوط مجدد في براثن الأحادية والتفرد السلطوي، لابد من اتخاذ خطوات جادة عبر وثيقة أو اتفاق سياسي مبدئي يتفق عليه جميع العاملين في الميدان السياسي العراقي، تتضمن خطوطا عريضة لكنها واضحة، يلتزم بها الجميع منها:
- تنظيف الأحزاب من عقلية الاستحواذ والنزعة المادية، والركض وراء المناصب.
- تقديم هدف بناء الدولة العراقية القوية المستقرة على جميع الأهداف الأخرى.
- الانضباط التام للعمل السياسي في إطار قواعد اللعبة الديمقراطية، والاتفاق على الخطوط الحمراء التي يُمنَع عبورها أو تجاوزها.
- اعتماد الولاء الوطني كمعيار أساس في جودة الأنشطة السياسية وصنع القرارات الصحيحة.
- غلق الأبواب والمنافذ المختلفة أمام احتمالات عودة التفرّد بالسلطة وقطع الطريق أمام من يفكر أو يعلن أفضلية العودة إلى النظام الرئاسي.
- تصحيح وتشذيب القواعد الديمقراطية وتكريس النظام البرلماني، مع العمل الحثيث على تأشير أخطائه والسعي الجاد لتغييرها وتصحيحها.
- ما أفرزته رحلة السنوات الماضية التي قاربت على 18 عاما من العمل السياسي الديمقراطي، توجب غربلة دقيقة لطبيعة هذه الرحلة الشائكة واستخراج ما هو نافع منها مع طمر أخطاء الماضي بوضع بدائل تنقّي عمل الكتل والأحزاب والشخصيات السياسية من هفواتها الكبرى.
بهذه الطريقة نكون قد أبعدنا شبح التعنت السياسي عن العراق، ووضعنا التنافس الديمقراطي بديلا مناسبا له، بما يعزز فرص بناء نظام سياسي ديمقراطي جاد وراسخ، يمنع بشكل قاطع عودة الهيمنة الدكتاتورية ويعزز أيضا نماء المؤسسات الديمقراطية المستقلة في العراق.
اضف تعليق