q
لا يمكن للانفتاح السلبي إلا ان يؤدي إلى ذوبان وانصهار مطلق في آلة المعلومات الغربية كما ان القطيعة الكاملة لا تعني إلا تجاوز لكثير من المقتضيات والدواعي التعليمية والنفسية والاجتماعية، وقد يكون أفضل الحلول هي المواجهة الإيجابية التي ترتكز على الانفتاح المبني على التحصين الذاتي...

لا يمكن للانفتاح السلبي إلا ان يؤدي إلى ذوبان وانصهار مطلق في آلة المعلومات الغربية كما ان القطيعة الكاملة لا تعني إلا تجاوز لكثير من المقتضيات والدواعي التعليمية والنفسية والاجتماعية، وقد يكون أفضل الحلول هي المواجهة الإيجابية التي ترتكز على الانفتاح المبني على التحصين الذاتي والاستعداد الذاتي والمناعة الداخلية، وهي عملية صعبة تحتاج إلى كثير من الوعي والتنظيم والعمل الجاد.

فالمطلوب ليس المنع في اطلاقيته لأننا نتعرض لتأثير ذلك سواء أكان ذلك في الداخل ام الخارج وانما هو عملية تحصين اجتماعي- ثقافي قائمة على الوعي والسلوك الواعي دون تفريط في نبذ هذه القنوات أو تحبيذ غيرها، فالإنسان الواعي هو ذلك الإنسان الذي يتسق سلوكه في الهمس مع ذلك الذي في العلن.(النهج العدد 50) لذا كانت عمليات المنع ووضع الحواجز هي اكثر سلبية عندما أفرزت نتائج سيئة رفعت نسبة حرص الممنوعين للاقبال النهم على ظاهرة المعلوماتية.

فلابد من خطوات وآليات تقوي حالة التحصين الذاتي وتعززنا في مواجهة قوى المعلوماتية الجديدة فمن هذه الآليات:

1 - الحرية: بقدرتها على خلق واقع متماسك واساس متين حيث تنمو الطاقات وتتحرك الاستعدادات الذاتية وترفع حجب العقل وتنطلق الدوافع الإنسانية في تحقيق أفكارها، فمع الحرية يمكن بناء قاعدة فكرية قوية وتجديد روح الامة واثارة خصائص الإبداع والابتكار لدى الناس. وكل هذا يعني ان المجتمع يزداد قوة ومناعة واستعدادا كلما قويت فيه روح الحرية وتمتع بحقوقه وإنسانيته وأخلاقياته، خصوصا عندما يتفاعل مع هذه الحرية بوعي ومسؤولية. فمع حرية الناس لا يمكن لأباطرة المعلوماتية ان يخلقوا لأنفسهم قطعاناً من العبيد تستهلك انتاجياتهم او تخضع لأثيرهم.

2 - بناء المؤسسات المستقلة والمتعددة لاستيعاب طاقات الشباب وتوجيههم في إطار الوعي والمسؤولية حيث تتولد عندهم المناعة الذاتية المتمكنة منذ نعومة أظفارهم. اذ مع وجود هذه المؤسسات البناءة لا يمكن ان يوجد فراغ لدى الشباب يحرص فيه على المعلوماتية الغربية، لانه بحصوله على الأجواء الطبيعية للنمو والفكر والحركة لا يجد هناك مجالا للحرص على الأخذ من الغير. هذه يمكن ان تؤدي دورا كبير في هذه المواجهة خصوصا إذا ابتنت قواعدها على الاعتدال والتعقل والحرية والتعامل الإيجابي والمتعاون مع الآخرين.

3 - عقلنة الخطاب الثقافي والديني وجعله في مستوى استيعاب الناس عبر استخدام قواعد الاقناع الفكري والاستدلال العقلي والحوار المنطقي الهادئ، وهنا يمكن ايجاد الحصانة الذاتية عبر التعرف الشخصي والمناقشة المفتوحة لتقوية أسس الاستدلال والمعرفة، ذلك ان الأمم القوية والمتقدمة هي الأمم التي اختارت طريق العقل وحرية التفكير وابتعدت عن التهميش والسطحية والإرهاب الفكري.

4 - عقد المؤتمرات التي تجمع النخب المختلفة من اجل تقريب الأفكار والوصول إلى اتفاق مشترك وبناء استراتيجية موحدة تعتمد على فهم مقتضيات التعاون المشترك عندما تواجه الأمة خطرا مصيريا كبيرا. فالمؤتمرات من الآليات الأساسية التي تقود الأمة نحو حركة التقدم والبناء.

5 - الاعتراف بالآخر كاستراتيجية وهدف ووسيلة لتحقيق التجانس والتنوع والإبداع والإنتاج وإيجاد التماسك الفكري والوحدة النوعية.

6 - توجيه الناس إلى الاهتمام الواعي بالثقافة الهادفة توجيها مركزا اذ ان هذا التوجيه سوف يعرف الناس بخطورة هذه التحديات ويعرفهم بالبدائل، ولاشك ان طباعة الكتب والمنشورات في هذا المجال يمكن ان يحقق دورا جيدا في هذا المجال.

7 - التحول لبناء مؤسسات اقتصادية قوية قادرة على إيجاد بدائل تشبع الحاجات المعرفية لمجتمعاتنا وتعطي تموجا معاكسا لحركة المعلوماتية الغازية. ولاشك ان نوعية المؤسسات الاقتصادية لابد ان يرتكز على بنية حقيقية واقتصاد حر يعتمد على الاكتفاء الذاتي والاقتصاد الواقعي والانتاج الفعال.

8 - تعميق روح التأصل الواعي وتجديد الثقة بالذات وبحضارتنا عبر استئصال روح الانهزام المتشربة في أوصالنا، ولاشك فان طرح تراثنا بأسلوب متعقل ومتجدد يمكن ان يعيد الكثير من الثقة لأبنائنا ويعرفهم بحقيقة حضارتهم وكنوزهم المخفية، مع ضرورة التوفيق بين التراث والحداثة لإيجاد قوة في أفكارنا قادرة على التوافق مع التقدم الزمني والعلمي.

9 - إلغاء الرقابة المتعسفة التي تساهم بشكل سيئ للغاية بتحجيم الأفكار وتعطيل العقول وهجرة الكثير من الكفاءات إلى الغرب بحثا عن الأمن والاستقرار، وتؤدي الرقابة القمعية إلى مساعدة ظاهرة المعلوماتية في فرض إفرازاتها السلبية علينا عبر قمع ومنع وتدمير قوى امتنا الذاتية وشلّ حركتها.

10 - تقوية البنية المعلوماتية عبر توجيه الكثير من امكانياتنا لمساعدة أبنائنا في التعلم الإيجابي من هذه الظاهرة وبالتالي الاستغناء عن الاحتياج إلى الغرب وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

ان الكثير من التحديات التي تواجهنا هي تحديات داخلية وذاتية أما التحديات الخارجية فهي تكون عندما يشوبنا الضعف ويمزقنا الوهن الداخلي، ولاشك فان محور التحديات الداخلية هو تحقيق الحريات ورفع اغلال الاستبداد وتعميق المشاركة العامة عبر الشورى والتعددية وحينئذ فإننا نستطيع ان نغادر الماضي إلى المستقبل بثقة وقوة.

* مقتطف من مقال نشر في مجلة النبأ-العدد 52-رمضان 1421/ كانون الاول 2000-تحت عنوان: المعلوماتية وآليات الاستيعاب

اضف تعليق