الأسوة تقتضي جعل القيم النبوية حيّة فينا؛ من خلال العدل الذي نقيمه، والصدق الذي نلتزم به، والرحمة التي نغرسها في بيوتنا ومجتمعاتنا، والخير الذي نحرص على تقديمه للناس، ومقارعة الظلم، ونصرة المظلوم، ومد العون للمرضى والفقراء والأيتام والأرامل. بالتالي، ينبغي على المسلمين وهم يستحضرون قيم ومواقف وأخلاق نبيهم...

في أيام العشرة الثانية من شهر ربيع الأول، من كل عام، يحتفي المسلمون بمولد نبي الإسلام محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، الذي أرسله الله سبحانه رحمة للبشرية، يقول (عز وجل): (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين)(الأنبياء/107). وقال تعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)(التوبة/128).

ولأن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو القدوة والأسوة التي يجتمع حولها المسلمون بشتى مذاهبهم الفقهية والفكرية، حريٌ بالمسلمين أن يستحضروا أولاً أخلاقه (صلى الله عليه وآله) التي بنى عليها تعامله في كافّة المجالات؛ السياسية والحربية والحكومية والاقتصادية والمجتمعية والأسرية، فكانت مكارم الأخلاق معيار منهجه وأسلوبه. 

يقول المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره): "إن المتتبع لسيرة النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) وآل بيته الأطهار (عليهم السلام) يُلاحَظ بوضوح أن منهجهم بعيد كل البعد عن العنف والعصبية وأقرب إلى السلم والتفاهم، وكان سلوكهم يقوم على اللين والرفق واللطف. كما أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)؛ رغم الآلام والخطوب التي حفت بحياته، نجده باسم الثغر، ويعامل صديقه وعدوه بصدر رحب ملؤه الحب والحنان. بهذه الأخلاق دخل الناس في الإسلام أفواجاً، وبهذه الأخلاق ظهر الإسلام على الدين كله."

 ويقول سماحة المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله): "في كل مكان من عالم اليوم، يُذكَر الإسلام وتُتلى آيات القرآن الكريم، ولكن هل ترى مثل ما عمله النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) من الإسلام والقرآن الكريم في مكان ما؟! وهل الدول الإسلامية ملتزمة بعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى بمقدار واحد بالمئة؟! لو كان النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) بيننا اليوم ووسط المجتمعات الإسلامية، فهل سيرضى بالإسلام الذي يعمل المسلمون به اليوم على مستوى العالم؟! فهل الإسلام الموجود اليوم، هو الإسلام نفسه الذي بيّنه (صلى الله عليه وآله) بأقواله وبأعماله؟ فبلا شكّ كلا، فما نشاهده اليوم من إسلام لا يرضى به النبي الكريم (صلى الله عليه وآله)."

على هذا، فإن إهمال السياسي لمصالح البلد والشعب، وتقصير المسؤول في مهامه، وعدول رجل الدين عن قول الحق، وتقاعس القاضي في إقامة العدل، وتهاون الطبيب بصحة مريضه، وتفريط الموظف بواجبه، وتجاوز الزوج على زوجته بالقول أو اليد، وتقصير الوالدين في تربية أولادهم ورعايتهم، وعقوق الأولاد بوالديهم، والإساءة إلى الجار وعدم الصبر على أذاه، ومد اليد على أموال الدولة والحقوق العامة، والتنازع بين الجماعات والأحزاب، والاقتتال الطائش بين العشائر، وعدم التورع عن إراقة دماء أو إشعال فتنة، وصمت المجتمع عن الظلم وخنوعه عن نصرة المظلوم، كل ذلك بعيد كل البعد عن القيم والأخلاق التي دعا إليها نبي الرحمة والخير والفضيلة والمحبة.

لقد أصلح النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) بين قبيلتي الأوس والخزرج، من بعد اقتتال دام ثلاثمائة عام، وغرس الأخوّة والألفة فيما بينهم. ودأب على نشر الرحمة بين الناس، فقال (صلى الله عليه وآله): "الخَلْقُ عيال الله، وأحبّ الخلق إلى الله مَن نَفع عيالَ الله، وأدخل على بيتٍ سروراً" (الكافي. الشيخ الكليني: ج2 - ص164). ودعا الى التعاون والتكافل والشعور بالمسؤولية تجاه بعضنا بعضاً، فقال (صلى الله عليه وآله): "مَن أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم" (وسائل الشيعة. الحر العاملي: ج16 - ص337).

وهكذا، فإن الواقع المثخن بالظلم والكراهية والبغضاء والفرقة والفقر والتخلف والفساد بكل أنواعه؛ السياسي والحكومي والقضائي والمجتمعي والأخلاقي، في العديد من دول المسلمين، قطعاً، ليس من الإسلام، ولا من القرآن، ولا من سيرة النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله)، بل هو واقع بعيد عن ذلك كلّه، ففي حكومة رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي امتدّت لعشر سنين، وأيضاً في فترة حكومة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) التي لم تدم سوى أربع سنوات وبضعة أشهر، ومع كثرة المشاكل التي واجهتهما، لم يكن بين المسلمين من هو فقير أو جائع أو مظلوم أو خائف رغم أن الدولة الإسلامية كانت واسعة الأرجاء.

النجاح العظيم لحكومة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يأت عن فراغ، ولا بالتمنيات، إنما تحقق ذلك النجاح الاستثنائي في تاريخ البشرية لأن الحاكم كان يخاف الله تعالى، وكان أميناً ونزيهاً وعادلاً وحكيماً ورؤوفاً ورحيماً، وكان قوياً في الحق وصنديداً في صد الظلم، وكان باسلاً وشجاعاً في محاربة الفساد ومقارعة الفاسدين، وكان يراقب ويحاسب نفسه قبل غيره، فيقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام):

"وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟ أو أكون كما قال القائل - وحسبك داء أن تبيت ببطنة/ وحولك أكباد تحن إلى القد! أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش. فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها. أو أترك سدى أو أهمل عابثا، أو أجر حبل الضلالة، أو اعتسف طريق المتاهة" (نهج البلاغة. خطب الإمام: ج3 - ص72).

وهكذا، من بين الرواة والمؤرخين، والكتّاب والمستشرقين، المسلمين وغير المسلمين، لم يختلف اثنان على أنه في حكومتي سيد المرسلين وأمير المؤمنين عاش الشعب بحرية وعدالة وأمان ورفاه ورخاء، على العكس من هذا الزمن المتخم بأزمات متعددة حيث العديد من شعوب العالم – ومنهم معظم المسلمين – الظلم والفقر والقمع والبطالة والمرض، وهو ما يؤكد ابتعاد المسلمين، خاصة العلماء والأمراء، عن الإسلام. يقول الإمام الشيرازي الراحل (قده): "الإسلام ككلٍ ـ المستفاد من الكتاب والسنة ـ لا ترى له أي أثرٍ في حياة غالب المسلمين العملية، ولذا ترى أن الإسلام ـ المأخوذ بعضه ـ لا يتمكن من حل المشاكل."

ويقول الإمام الشيرازي "الإسلام الذي أنزله الله على رسوله موجود أمامنا لكننا لا ننظر إليه، ومكتوب في كتبنا لكننا لا نطلع على مبادئه ومضامينه، ويواكب حركة الإنسان والزمن، لكننا أطفأنا سرجه ومصابيحه وتركناه، وشوهنا بعض حقائقه بتطبيقنا السيء له".

هذا الانفصام بين المسلمين والإسلام، أو المبدأ والتطبيق، أو التناقض بين ادعاء الإيمان والسلوك في الواقع، هو ما يجعل ذكرى المولد النبوي الكريم (صلى الله عليه وآله) تمرّ على كثيرين فيما يغيب عنهم أن الله تعالى قال في كتابه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(الأحزاب: 21). وبلا شك، فإن الأسوة تقتضي جعل القيم النبوية حيّة فينا؛ من خلال العدل الذي نقيمه، والصدق الذي نلتزم به، والرحمة التي نغرسها في بيوتنا ومجتمعاتنا، والخير الذي نحرص على تقديمه للناس، ومقارعة الظلم، ونصرة المظلوم، ومد العون للمرضى والفقراء والأيتام والأرامل.

بالتالي، ينبغي على المسلمين وهم يستحضرون قيم ومواقف وأخلاق نبيهم (صلى الله عليه وآله) في يوم مولد الكريم، واستناداً الى مخاطر الواقع المأزوم للمسلمين، التعاون فيما بينهم من أجل خير المسلمين، وأيضاً التعاون مع شعوب العالم لخير الناس جميعاً. فلقد خطّ النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) سبل النجاة والنجاح والحياة، وما علينا إلا العمل بما دعا إليه. يقول الإمام المجدد الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قده): "إذا آمن المجتمع بالمثل الإسلامية العليا، التي تمثلت في الرسول وأهل بيته (عليهم السلام)، تتضاءل فيه المشاكل الفردية والنزاعات الشخصية، ويغلب على الناس روح الجماعة، والاتجاه إلى البذل والعطاء وتجنب الوقوع في المعاصي والجرائم والآثام."

(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(التوبة: 105)

اضف تعليق