من أهم القيم الاجتماعية في النهضة الحسينية؛ الحفاظ على حجاب المرأة، فهي من على ظهر الناقة، وهي مسبيّة، وفي حالة يرثى لها في الشام تفكر في كيفية صرف أنظار الناس عن وجوه العلويات، لتعطينا درساً بليغاً في أن شخصية المرأة لن يكون بكمية المتابعين والمشاهدين لها...

يجري اسمها على الألسن: "سُكينة"، بضم السين، بينما المصادر التاريخية تؤكد أن كنيتها؛ "سَكينة" فتح السين، والجذر اللغوي؛ السكون الذي صار اسماً لها وعنواناً لشخصيتها الكريمة، في حين إن اسمها عند الولادة؛ آمنة، او أمينة، على اختلاف الرواة، ولعل آمنة الأقرب؛ محبة من الإمام الحسين بوالدة جدّه المصطفى (آمنة بنت وهب)، ومعروف أن الكُنى تغلب على الاسم الحقيقي للرجال والنساء على حد سواء لاسباب ذاتية، او لظروف معينة، حتى يكاد يكون التاريخ والأجيال يتعرفون على الاشخاص بكناهم لا باسمهم الحقيقي. 

سكينة بنت الامام الحسين، عليهما السلام، ابوها سيد شباب أهل الجنة، وأبو الأئمة المعصومين، وخامس أصحاب الكساء، وجدّها أمير المؤمنين، و وصي رسول رب العالمين، وجدتها الصديقة الزهراء بنت رسول الله، فأي فتاة هذه تحظى بهذه المنزلة ثم ترفض الظهور، والأضواء، والإعجاب، مثل أي فتاة أخرى! 

هل فرض عليها أبوها هذا النمط من الشخصية، أو أمها؟ كان للإمام الحسين العديد من البنات، لم يكنّ مثل سكينة. لقد كان اختيارها المحض أن تكون هكذا لتكون على استعداد لمواجهة تحديات كبرى خلال المسيرة الرسالية، فتبقى سَكينة، على وقارها ورباطة جأشها، وشخصيتها الآسرة، لتتساقط وجوه وأسماء استمات لإحداث عواصف أمام هذه الشخصية لفترات زمنية طويلة.

لماذا تلاحق سكينة عواصف التزييف؟

ولدت السيدة سَكينة في مدينة جدّها رسول الله، صلى الله عليه وآله، في السابع والأربعين للهجرة، أو اكثر قليلاً على اختلاف الروايات، من أم، غاية في الطهر والنقاء والأصالة، وهي السيدة رباب بنت امرؤ القيس، فتلقّت منها العفاف والخلق الكريم، كما تلقّت من أبيها الإيمان والعلم والمعرفة.

وقبل الشروع بالحديث عن هذه السيدة العظيمة، ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى وفاتها في الخامس من شهر ربيع الأول، يجدر بنا الإشارة الى مفارقة مهمة في هذا السياق بين إحجام أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، عن الحديث حول أبنائهم من الإناث، وبين الرغبة الجامحة للإنسان العربي في التدخل في شؤون الافراد ومعرفة تفاصيل حياتهم، والبحث في أسباب وعلل افعالهم، وسيرتهم، في الجوانب السلبية والايجابية، ربما لغرض المدح او القدح، والسيدة سكينة لم تكن مثل عمتها العقيلة زينب في ظهورها الاجتماعي والسياسي بفعل السبي بعد واقعة الطف، وحسب المصادر فقد عمّرت حوالي سبعين سنة، كان جلّ حياتها بعيداً عن الأضواء والظهور، وربما هذا ما أثار فضول الأمويين المتربصين بمنزلة ومكانة أهل بيت رسول الله، فنرى الأقلام تملأ الكتب حالياً بكثير من المغالطات والاكاذيب حول هذه السيدة، وللأسف البعض منها تسرّب الى قناعات بعض الباحثين الشيعة ليسلّموا بها.

السيدة الرباب، أم سكينة، تطاولتها أقلام التحريف في سيرة حياتها، وتحديداً في طريقة تعرفها على الامام الحسين، بأن أبيها امرؤ القيس "أسلم في عهد عمر بن الخطاب، حيث أقبل رجل مهيب يتخطَّى رقاب النّاس حتّى أقام بين يدي الخليفة، وحيّاه بتحية الخلافة، فقال لَهُ عمر بن الخطاب: من أنت؟ فقال: امرؤ القيس بن عدي الكلبي، فلم يعرفه عمر، فقام رجل من القوم وقال: هذا صاحب بكر بن وائل الذي أغار عليهم يوم فلج قبل الإسلام، فقال ماذا تريد؟ قال: أريد الإسلام، فعرضه عليه فقبله، ثمّ دعا له برمح، فعقد له على مَن أسلم من قضاعة، فأدبر الرجل واللواء يهتزُّ على رأسه، قال عوف بن خارجة: ما رأيت رجلاً لم يصلِّ سجدة اُمِّر على جماعة من المسلمين قبله، ثمّ نهض الإمام علي ومعه ابناه الحسن والحسين، من المجلس حتّى أدركه، فأخذ برأسه، فقال له: أنا علي بن أبي طالب ابن عمِّ رسول الله، وصهره، وهذان ابناي من بنته، وقد رغبنا في صهرك، فأنكحنا، قال: قد أنكحتك يا علي المحياة بنت امرئ القيس، وأنكحتك يا حسن سلمى بنت امرئ القيس، وأنكحتك يا حسين: الرباب بنت امرئ القيس"، (السيدة سيكنة ابنة الحسين، دراسة تاريخية- دنيا عبد الساة المالكي)، علماً أن الباحثة صاحب الكتاب لم تتبنّ مطلقاً ما جاء من هذه المرويات المشبوهة بحق السيدة سكينة.

يكفي الالتفات سريعاً الى فرية الكفر المنسوبة الى والد الرباب، مع العلم أن الإسلام اخترق معظم القبائل العربية في عهد الرسول الأكرم، فما بالك والقصة مروية في عهد عمر الذي استمر حكمه عشر سنوات من بعد عشرٍ خوالي بعد الهجرة عاشها النبي الأكرم، يعني بعد حوالي خمسة عشر سنة تقريباً، ثم الفرية الأخرى الأكثر فحشاً في حق أمير المؤمنين، وكيف أنه يطارد شخصاً دخل للتو الى الإسلام، ويطلب منه المصاهرة! في وقت كانت المصاهرة تأتي اليه طواعية كما في قصة زواج الامام الحسين من ابنة الملك الفارسي بعد انتصار الجيش الاسلامي في عهد عمر نفسه. 

حتى بعد ولادتها سكينة، نقرأ من أقلام معروفة بالرصانة والتوثيق مثل "بنت الشاطئ" عندما تحاول إبعاد الوالد عن ابنته في أمر اختيار الكنية، وتدّعي ان الأم هي التي أطلقت على ابنتها كُنية "سَكينة" نظراً لطبيعة شخصيتها، بينما نقرأ في مصدر آخر قول مأثور للإمام الحسين، عليه السلام، في حق ابنته: "وأمَّا سكينة فغالب عليها الإستغراق مع الله تعالى"، وهو أقرب لأن يسميها بالـ "سكينة"، وهو أبوها والإمام المعصوم المفترض الطاعة على ابنته و زوجته وكل المسلمين، والعارف بأحوالها.

ومن أكثر الموضوعات إثارة للجدل في حياة السيدة سكينة؛ الأبيات المنسوبة الى الامام الحسين، عليه السلام:

لَعمرُك إنَّني لأحبُّ داراً تحلُّ بها سكينة والرَّبابُ 

أُحبُّهما وأبذلُ جُلَّ مالي وليس لِلائمي فيها عتابُ

وقد حقق العديد من المؤرخين والباحثين في أمر هذه الأبيات، مؤكدين علو شأن الإمام عن استعارة مفردات مثل "عتاب"، وأنه، عليه السلام، كانت لديه العديد من الزوجات، فكيف يصح لسيد شباب أهل الجنة أن يميّز بين زوجاته بهذه الطريقة، وفي زوجاته من لا تقل فضلاً مثل والدة الإمام زين العابدين، و والدة علي الأكبر، علاوة على أن بعض المؤرخين أضافوا أبياتاً أخرى ألصقت ايضاً بالامام، عليه السلام: 

ولَستُ لهم وإنْ عتبوا مطيعاً حياتي أويغيِّبُني الترابُ

كأنَّ الليلَ موصولٌ بليلٍ إذا زارتْ سكينة والرَّبابُ

"يرى عبد الرزاق المقرّم بخصوص الأبيات الشعرية، هذا جهلاً بمقام الإمامة، وإغضاءً من ناحية العصمة، وخفوقاً على جهة الشهامة والحفاظ؛ لأنَّ الإمام المنصوب من قبل الله تعالى ـ وهو معصوم من كلِّ خطأـ لا يمكن أن يصدر عنه ما يوجب العتاب، فهذا خارج عن الحدود الشرعية، ولا يُعقل صدور مثله عن الحسين، أمّا الشيخ باقر القرشي فيقول: إنَّ هذه الأبيات فيما نحسب من المنتَحَلات والموضوعات؛ فإن الإمام الحسين، عليه السلام، أجلُّ شأناً، و أرفع قدراً من أن يذيع حبَّه لزوجته وابنته بين النّاس، فليس هذا من خُلُقه، ولا يليق به، إنَّ ذلك من دون شكٍّ من المفتريات التي تُعُمِّد وضعها للحطِّ من شأن أهل البيت".

وايضاً؛ من المفتريات الفاحشة بحق هذه السيدة المظلومة ما أشاعه المؤرخ الأموي؛ ابو الفرج الاصفهاني في كتابه "الاغاني"، من أن السيدة سكينة كان لها "منتدى" للشعر يرتاده الرجال فينشدون ويغنون فيه، وكانت هي تنشد الشعر بينهم وتحثهم عليه. 

و توضح الدكتورة دنيا عبد السادة المالكي في كتابها المشار اليه، أن "في روايات أبي الفرج الأصفهاني امرأتين تحملان اسم سكينة، هما: سكينة بنت الحسين، وسكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير، فنلاحظ في الروايتين اختلافاً واضحاً جدّاً؛ ففي الرواية الأولى يذكر سكينة بنت الحسين، ويذكر القصيدة: "قالت سكينة والدموع ذوارف، بينما في الرواية الثانية يذكر فقط سكينة بدون بيان مَن تكون، ويذكر قصيدة: "ألمَّ بزينب إنَّ البين قد أفدا"، وزينب هذه هي بنت موسى الجميحية التي كان يتشبَّب بها عمر بن أبي ربيعة، الشاعر الأموي المعروف بمجونه ومصاحبته للنساء ونظم الأبيات عنهنّ.

لقد تميّز صاحب الأغاني ببراعة في وضع القصص والكثير من المفتريات، وخصوصاً على البيت الهاشمي، والظاهر أنَّ صاحب الأغاني أراد أن يبرّئ ساحة سكينة بنت خالد ممّا كانت عليه من الإستهتار والمجون، فوجد من اسم سكينة بنت الحسين، عليهما السلام، باباً واسعاً للتورية، وتضليل البسطاء، فنسب أفعال سكينة بنت خالد بن مصعب إلى سكينة بنت الحسين".

الأدوار الريادية للسيدة سكينة

بهذه السَكينة الناطقة، نهضت بأدوار رسالية عظيمة أبرزها؛ المشاركة في نشر رسالة النهضة الحسينية بمعية عمتها العقيلة زينب، عليهما السلام، ثم الإنابة عنها بعد وفاتها، واستشهاد أخيها الامام زين العابدين، عليهم السلام. 

ومن أهم القيم الاجتماعية في النهضة الحسينية؛ الحفاظ على حجاب المرأة، فهي من على ظهر الناقة، وهي مسبيّة، وفي حالة يرثى لها في الشام تفكر في كيفية صرف أنظار الناس عن وجوه العلويات، لتعطينا درساً بليغاً في أن شخصية المرأة لن يكون بكمية المتابعين والمشاهدين لها.

وفي رواية الصحابي سهل بن سعد الساعدي وتزامن دخوله الشام مع دخول السبايا و رأس الامام الحسين، و رؤوس اصحابه، وهو لا يعلم بما جرى، فرأى موكب السبايا، فيما كان أهل الشام يضربون بالدفوف والطبول محتفلين بالنصر الأموي على أهل بيت النبوة، يقول: "دنَوت من أولاهم فقلت: يا جارية من أنتِ؟ فقالت: أنا سكينة بنت الحسين، فقلت لها: ألك حاجة اليّ؟ أنا سهل بن سعد ممّن رأى جدَّك وسمعت حديثه، قالت: يا سعد قل لصاحب هذا الرأس أن يقدِّم الرأس أمامنا حتّى ينشغل النّاس بالنظر إليه، ولا ينظروا إلى حُرم رسول الله، قال سهل: فدنوت من صاحب الرأس، فقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة دينار؟ قال: ما هي؟ قلت: تَقَدَّم بالرأس أمام الحرم، ففعل ذلك، فدفعت إليه ما وعدته"

أما الدور الآخر، والأكثر أهمية ومحورية؛ حمل راية النهضة الحسينية من بعد عمتها العقيلة زينب، وأخيها الامام زين العابدين، عليهم السلام، في الحفاظ على تاريخ هذه النهضة بنقل الوقائع والاحداث والمواقف الى ابناء جيلها، ولعل الكثير ممن كتب عنها، بيد أن الظروف السياسية في الازمان اللاحقة تسبب في اتلاف الكثير من تفاصيل واقعة الطف على لسان السيدة سكينة، فمن المعروف أن السيدة الجليلة عاصرت ابن اخيها الامام الباقر شطراً من عمرها الشريف وتوفيت في حياته، عليه السلام.

وبعد غياب السيدة زينب كان لابد من وجود عنصر نسوي فاعل من البيت العلوي يضيء لنساء ذلك الزمان من علوم وآداب وثقافة أهل البيت، وهو ما تكفلت به السيد سكينة بأفضل ما يكون، "فقد كان دار السيّدة سكينة مركز إشعاع للمعرفة والفكر، وكان لها دور في نشر المعرفة في جميع أوساط المجتمع؛ حتّى لا يُحرم أحد من حقّه في الثقافة والوعي، واكتسبت هذا العهد من مدرسة كانت تفسِّر القرآن وتروي الأحاديث، وبعد وفاة السيّدة زينب، أخذت السيّدة سكينة تعقد المجالس الدينية، فقد كانت سيّدة نساء عصرها، وأوفرهنَّ ذكاءً وعقلاً وأدباً وعفّة ومعرفة، وكانت تُزيِّن مجالس نساء أهل المدينة بعلمها وأدبها وتقواها، وكان منزلها مدرسة لتعليم الفقه والحديث".

التحريف يلاحقها بعد وفاتها!

غادرت السيدة سكينة الدار الفانية سنة 117للهجرة، بعد مسيرة طويلة من العبادة والتقوى والعفة والجهاد والعمل في سبيل الله طوال أكثر من سبعين عاماً، وهي فترة لا يتحملها الأمويون الحريصون على أن تكون لهم السطوة على ثقافة وفكر الناس، بعد سطوتهم على أرواحهم وأموالهم، فنلاحظ الاقلام المأجورة تكتب "إنَّه لم يُصَلَّ على أحد بعد رسول الله بغير إمام إلاّ سكينة بنت الحسين"! ويدعي المؤرخ أن والي المدينة ترك جثمانها لساعات طوال قبل ان يصلي عليها، مع ذكره لإسم الامام زين العابدين، في حين انه، عليه السلام، توفي في حياتها سنة 94للهجرة، "ماتت وعلى المدينة خالد بن عبد الملك فأرسلوا إليه فأنبأوه بالجنازة وذلك في أوّل النهار في حرٍّ شديدٍ، فأرسل إليهم لا تُحْدِثوا حدثاً حتّى أجيء فأُصلِّي عليها، فوُضِع النعش في موضع المصلّى على الجنائز، وجلسوا ينتظرونه حتّى جاء الظهر، فجاء العصر، صُلِّيت العشاء، ومكث النّاس جلوساً غلبهم النعاس، فأقبلوا يصلّون عليها جمعاً جمعاً، وينصرفون، فقال علي بن الحسين: من أعان بطيب رحمه الله، قال: وإنّما أراد خالد بن عبد الملك فيما يُظنُّ أن تنتن، فأُتى بالمجامر، فوُضِعت حول العرش"! وبهذه الاكاذيب المفضوحة يحاولون الايحاء بأن ابدان أهل بيت رسول الله، مثل سائر الناس تتحلل بعد الوفاة، وأن الناس كانوا في قلق من هذه الناحية. 

انطفأت شمعة السيدة سكينة في طريق الأمة بعد أن أضاءته بدموعها وكلامها ومواقفها وآلامها، و ربما كان والدها الامام الحسين، عليه السلام، أول من تنبأ بطول مكوثها في الحياة من بعده في آخر كلام له، عليه السلام، معها:

سيطولُ بعدي يا سكينة فاعلمي منكِ البكاءُ إذا الحمامُ دهاني 

لا تُحرقي قلبي بدمعكِ حسـرة ما دامَ مني الروحُ في جثماني 

فإذا قُتِلتُ فأنت أولى بالذي تأتينَه يا خيرة النسوانِ

اضف تعليق