q
مع بزوغ فجر الاسلام أغلقت الصديقة الزهراء ملف المرأة الضعيفة والمقهورة، وأزالت عنها تراب القبور، لترسم لها طريق الحياة الكريمة، والدور الفاعل في المجتمع، عندما تكون الابنة الصغيرة الى جانب الأب، تزيل عنه الهموم، وتضخ فيه العزيمة والأمل، فهي لا تفكر بالحقوق من تحت ذلك التراب...

مع بزوغ فجر الاسلام أغلقت الصديقة الزهراء ملف المرأة الضعيفة والمقهورة، وأزالت عنها تراب القبور، لترسم لها طريق الحياة الكريمة، والدور الفاعل في المجتمع، عندما تكون الابنة الصغيرة الى جانب الأب، تزيل عنه الهموم، وتضخ فيه العزيمة والأمل، فهي لا تفكر بالحقوق من تحت ذلك التراب، ولا من سوق النخاسة (المتاجرة بالعبيد)، ولا من كل تلك الممارسات التعسفية ضد الجنس المؤنث التي نقرأها في التاريخ القديم، ونلاحظه في الوقت الحاضر ايضاً، بقدر ما تتجاوز كل ذلك باتجاه صناعة فرص جديدة تضع المرأة في موقع القوة والمبادرة لتسهم في صناعة الواقع الذي تعيش فيه سعيدة ومكرمة.

القوة لا تُعطى بالمجان

ولدت فاطمة وسط تحديات الشرك في المجتمع المكّي، كما واجهت تحديات النفاق في مجتمع المدينة، فالاثنين لم يرق لهما انتشار الرسالة السماوية وتبلور ثقافتها ونظامها في الحياة وهم موجودون بصفاتهم المناقضة لما جاءت به السماء، الامر الذي يُحرج الكاتب عن ذكرى مولد هذه الشخصية العظيمة في سياق يفترض أن تحفّه البهجة والسرور والارتياح، في وقت رافقت حياتها منذ الولادة وحتى آخر لحظات حياتها الشريفة، الدموع والأحزان والمنغّصات.

نعم؛ نحن نكتب عن تكوين فاطمة الفسيولوجي برعاية سماوية وملائكية، وأن انعقاد نطفتها جاءت من تفاحة الجنة، تناولها رسول الله بعد صيام دام أربعين يوماً، فهي حوراء إنسية، طاهرة مطهّرة، وهذه وغيرها من الخصائص والفضائل والمكارم مما حباها به الله –تعالى- لتكون سيدة نساء العالمين، هو مبعث ارتياح وسرور لرسول الله، ولجميع المؤمنين الى يوم القيامة، أما هي فاطمة نفسها فلم تمض عليها السنين الاولى من حياتها إلا وتتكالب عليها التحديات المريعة لتصوغ منها فاطمة الفتاة القوية، ثم المرأة المربية والمعلمة، ثم السيدة المجاهدة في ساحة المواجهة مع النفاق والانحراف.

ذات مرة يتناهى الى سمعها أن المشركين عند بيت الله الحرام تجرأوا على أبيها رسول الله بأن وضعوا أحشاء ناقة –وهي عبارة عن أوساخ تخرج مع الوليد- على ظهره فيما كان ساجداً لله، فأقبلت مسرعة الى أبيها لترفع عنه تلك الأوساخ فيما كان المشركون، وعلى رأسهم عُقبة بن أبي معيط، صاحب الفعل القبيح، ومعه أبوجهل، وعتبة بن ربيعة وأشباههم، يضحكون ويسخرون من منظر النبي، فنهرتهم الزهراء، سلام الله عليها، وأوسعتهم سبّا وشتماً، ودعت عليهم، كما دعا عليهم رسول الله.

وفي شعب ابي طالب تشارك أباها وسائر المسلمين في تحمل مشقة الحصار الاقتصادي الظالم المفروض من قبل المشركين ثلاث سنوات، وتراقب التهديدات بالموت الموجهة ضد ابيها، ومنها ليلة المبيت، فقد كانت فاطمة في البيت الذي جاء عمها ابو طالب بابنه علي لينام مكان النبي ويوهم المشركين بانه محمد اذا ما أرادوا قتله، وهو ماحصل بالفعل عندما داهمت الدار مجموعة من المشركين شاهرين سيوفهم يريدون قتل النبي بضربة واحدة حسب المتفق عليه، فوجدوا علياً نائماً في فراش النبي، ويا له من موقف رهيب ان تشهده فتاة صغيرة، وماذا نتوقع أن تكون الآثار النفسية عليها في قادم الأيام اذا ما حصل موقف مشابه في وقتنا الحاضر!

ومن عوامل القوة الذاتية ما يرتكز على اختبارات ناجحة في صلابة النفس ورباطة الجأش في مواقف استثنائية مثل فقدان الأم لفتاة صغيرة كما حصل مع السيدة الزهراء عندما فارقت أمها خديجة الحياة في ظروف صنع قساوتها المشركون في شعب ابي طالب، بما يمكن القول معه بضلوع المشركين في موت خديجة بسبب الحصار الاقتصادي الشديد وإصابة الكثير من المسلمين بما يشبه سوء التغذية والهزال، فقد أكلوا الحشائش وأوراق الشجر بسبب المقاطعة الاقتصادية التي فرضها المشركون من قريش على سائر القبائل بعدم إيصال المواد الغذائية الى النبي الأكرم وأتباعه في شعب أبي طالب، وهو مكان اختاره أبو طالب ليكون مقراً للإقامة الجبرية بما يمكنه من توفير الحماية لابن اخيه –رسول الله- ولسائر المؤمنين.

كان في سن السابعة او الثامنة من العمر –على اختلاف الرواة- عندما فقدت أمها خديجة في ذلك الحصار الظالم، ويبدو أن الزهراء لم تكن على دراية بموت أمها في الساعات الاولى، فبعد ان دفن رسول الله خديجة "كانت السيدة فاطمة تلوذ برسول الله، وتدور حوله وتسأله: يا رسول الله، أين أمي؟! فجعل لا يجيبها، وهي تدور على من تسأله، فهبط عليه جبرئيل فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ على فاطمة السلام وتقول لها: أمك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وأعمدته من ياقوت أحمر، بين أسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، فقالت فاطمة: إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه يعود السلام". (فاطمة من المهد الى اللحد- السيد محمد كاظم القزويني).

وحتى في مرحلة الهجرة ومغادرة مكة، كانت المكاره والتحديات ترافق الزهراء وهي فتاة صغيرة، فقد رافقتها فاطمة بنت أسد، أم أمير المؤمنين، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، في عملية الخروج خلسة من مكة ومعهم أمير المؤمنين، عليه السلام، يتقدم القافلة، فلحق بهم بعض عناصر المشركين وحاولوا منعهم من مغادرة مكة، "وكادت أن تقع هناك كارثة لولا حفظ الله وعنايته، ثم بسالة أمير المؤمنين وبطولته المشهورة، فنجى علي والفواطم بقدرة الله تعالى"، يقول السيد القزويني في كتابه القيّم.

القوة مع الحق

لا أن تكون القوة من أجل القوة والاستعلاء والتطاول، ففي المدينة تحولت الزهراء الى ابنة لقائد دولة، وقبلها؛ رسول رب العالمين، وخاتم الانبياء والمرسلين، وقد بسط جناحيه على ربوع الجزيرة العربية، تنهال عليه القبائل والناس من كل مكان يؤمنون به وبرسالته، فتقوى شوكته يوماً بعد آخر، حتى صار عنده جيش عظيم، ودولة ومجتمع يديره ويقرر شؤونه، وفي وقت لاحق حازت على فرصة للاثراء تحلم به كل فتاة وامرأة، بأن ملّكها أبوها رسول الله مزرعة فدك الكبيرة والغنية بالموارد المالية، بمعنى أنها كانت قوية في مالها ومنزلة أبيها، ثم زوجها أمير المؤمنين، ذاك الذي عرفته العرب بالشجاعة والذود عن رسول الله، والمضحي المقدام في كل الحروب والغزوات، فما أكثر عوامل قوة من هذه؟ ولكن!

يا ترى أين عوامل هذه القوة عندما أميط اللثام عن وجوه أدعياء الدين والصُحبة، و"ظهر فيكم حسيكة النفاق"، كما عبّرت الصديقة الزهراء في خطبتها الفدكية؟

ظهرت لأول مرة امام الأمة في مسجد أبيها بقوة شخصيتها، ومتانة حجتها لتكشف زيف إسلامهم أمام الجموع المحتشدة آنذاك، وللأجيال على مر التاريخ، علماً أنها طالبت بحقها في فدك، كحق شرعي، وليس من بدافع التملّك المادي، فهي أرست دعائم الحق والعدل في كيان الأمة، لتكون حدود الله فاصلة ومحترمة، كما تضمن الحياة لسنة رسول الله في أمته، وهو ما حصل الى يومنا هذا والى يوم القيامة، فقد بينت للمسلمين، وايضاً؛ المدعين للخلافة والحق بعد رسول الله، من هو رسول الله، وقبلها عرفت بنفسها: "اعلموا أني فاطمة وأبي محمد"، ثم أردفت بالقول: "فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ صادِعاً بِالنِّذارَةِ، مائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأكْظامِهِمْ، داعِياً إلى سَبيلِ رَبِّهِ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنةِ، يَكْسِرُ الأَصْنامَ، وَيَنْكُتُ الْهامَ، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلُّوا الدُّبُرَ، حَتّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأسْفَرَ الحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِيمُ الدّينِ، وَخَرِسَتْ شَقاشِقُ الشَّياطينِ، وَطاحَ وَشيظُ النِّفاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإْخْلاصِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْبيضِ الْخِماصِ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، {تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ}. فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ صَلى الله عليه وآله".

كان المتطاولون على الزهراء، و على أمير المؤمنين، وعلى الرسول و الرسالة برمتها، يستجدون القوة لباطلهم وغيّهم علّها تفيدهم لأيام من السلطة والهيمنة وبعض الدراهم والدنانير التي صارت عليهم غمّة ونقمة على مر الاجيال، ولعل هذا يكون درساً عظيما لنا ولكل من يفكر ببلوغ مراتب القوة والمنعة لما يعتقده حقاً له، بأن لا تأخذه هذه القوة الى الباطل بدلاً من الحق الذي ربما يكون هو من أهله فيخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

اضف تعليق