q
معرفتنا بأي انسان تحدد طريقة تعاملنا معه، فكيف اذا كان هذا الانسان؛ الامام الرضا، عليه السلام، الذي يؤمه الملايين من كل انحاء العالم لزيارة مرقده الشريف في مدينة مشهد شرق ايران، والجميع يتوسلون به الى الله –تعالى- لقضاء حوائجهم المستعصية؟ هذا مطلوب منّا إزاء سائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام...

"أتَيُتكَ زائِراً عَارِفاً بحقّك"

الغربة؛ حالة تثير المشاعر والشفقة لما لها من تداعيات الاستضعاف وقلّة الحيلة، فمن يهاجر الى البلاد الأخرى، أول ما سيشعر به؛ الغربة، لفقدانه الأهل والأرض وكل ما كان يألفه وينسجم معه ثم يفتقده في غربته، مهما كانت العوامل المساعدة على تخفيف هذا الشعور. ولكن!

الغربة ربما لا تنحصر في دلالتها الجغرافية، فربما يكون الانسان غريباً وهو في وطنه وبين أهله، أليس "الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن" يقول أمير المؤمنين، عليه السلام؟

وكذا في مسائل التضامن والتكافل والتعاون ضمن المنظومة الاخلاقية في الحياة الاجتماعية التي من شأن تطبيقاتها العملية إزالة غبار الغربة عن وجه صاحبه، وكما يحصل العكس عندما تغيب هذه المفاهيم عن ارض الواقع فيعلو غبار الغربة وجوه المهمّشين الفاقدين للامكانيات المادية وهم على تراب وطنهم.

مع ذلك؛ نجد الثقافة الشيعية توسلت بالغربة لإثارة مشاعر الشفقة لدى جمهور الزائرين على مر التاريخ، و ربما لتوثيق أواصر العلاقة مع الامام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، الذي نعيش هذه الايام ذكرى مولده، كون مرقده الشريف يقع في منطقة نائية من البلاد الاسلامية، علماً أن الغربة شملت حياة معظم الأئمة المعصومون، وفي مقدمتهم؛ أمير المؤمنين الذي أجبر على مغادرة المدينة، وهي مركز الخلافة، والابتعاد عن مرقد النبي الأكرم، واتخاذ الكوفة مركزاً لحكومته، وهو لم يدخلها ولم يعرف عنها وعن أهلها شيء، وكذا الحال بالنسبة للإمام الحسين، وما جرى عليه في أرض كربلاء الجرداء الخالية من السكان، وكذا الامام الكاظم، والامام الجواد، والامامين العسكريين، بيد أنهم، عليهم السلام، كانوا يعالجون هذه الحالة وتداعياتها في نفوس الناس بما يخفف من آثار الغربة بوجود الاصحاب الصادقين والأوفاء ممن يحملون رسالة أهل البيت مع ارواحهم على أكفهم طيلة فترة حياتهم.

فاذا صدق هذا في حياتهم فانه يصدق ايضاً في مماتهم ، وتحول مراقدهم الى مزارات للمحبين والمؤمنين، وفنارات للطامحين المتعلمين.

الزيارة والمعرفة المستدامة

معرفتنا بأي انسان تحدد طريقة تعاملنا معه، فكيف اذا كان هذا الانسان؛ الامام الرضا، عليه السلام، الذي يؤمه الملايين من كل انحاء العالم لزيارة مرقده الشريف في مدينة مشهد شرق ايران، والجميع يتوسلون به الى الله –تعالى- لقضاء حوائجهم المستعصية؟

وهذا مطلوب منّا إزاء سائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، بل حتى الأولياء الصالحين، فمسألة المعرفة غاية في الاهمية وذات تأثير مباشر على الزائر، وفي حالة الامام الرضا المعروف بوجاهته عند الله في قضاء الحوائج فان معرفة منزلته عند الله تمثل مفتاحاً للوصول اليه، عليه السلام، وهو المعروف في حياته بأن "عالم آل محمد"، وجاء في الروايات أنه "غوث الأمة وغياثها"، وفي حديث لسماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي عن الإمام الرضا، يقول: "أن هذه الصفة وجميع صفات الامام مشتقةٌ من صفات الله سبحانه وتعالى، فكرمهم فرعٌ من كرم الله -سبحانه وتعالى- وكذا علمهم وحلمهم".

هذه المعرفة والعلاقة التي يسميها العلماء "الطريقية" الواصلة بيننا وبين الله –تعالى- هي التي تجعلنا أقرب الى الامام الرضا، عليه السلام، وتبعث في نفوسنا الرضى والاطمئنان نحو مسألتين:

الاولى؛ تتعلق بشخصية الامام الرضا، وأنه حيٌّ يسمع كلامنا وينظر الينا وفق القاعدة القرآنية {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، وأنه باب من ابواب الله –تعالى- بامكانه تغيير الكثير من الاحوال بإذن الله، والمعاجز التي لا تُعد، شواهد حيّة على رد الجميل لكل من قدم طلباً للإمام الرضا عن معرفة حقيقية به، عليه السلام.

والمسألة الثانية تتعلق بفهم الحكمة من عدم استجابة الطلب رغم الحاجة الملحّة، كأن يكون طلب الانجاب، او طلب الشفاء، او التفوق في مسيرة علمية، او تسهيل أمر الهجرة الى خارج البلاد، فعندما نعرف الإمام حقّ معرفته، وأنه الطريق الى معرفة الله –تعالى- فاننا نقرّ بقصور معرفتنا بما يصلح لنا في حياتنا على المدى البعيد، ومن طبيعة البشر استعجال الامور، والسعي لتحقيق ما يريد في أقرب فرصة ممكنة غير ناظر الى العواقب والنتائج المترتبة، بينما الإمام الرضا الموصوف بأنه "الرؤوف" فانه بنظره بنور الله الى العواقب يأبى لنا المكاره الكامنة خلف تحقيق تلكم المطالب المستعصية، مصداقاً لقوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}.

وفي هذا الاطار يقدم سماحة آية الله الشيرازي بحثاً علمياً يبين كيف يطلب فيه الانسان أمرين متناقضين دون علم منه، "فحب الخير ليس فيه إشكال، ولكن المشكلة؛ الخطأ الذي كثيراً ما يتورّط فيه البشر هو تطبيق هذه الكبرى على الصغريات، فحب الخير مشروع، ولكن هذا الخير الكلي أطبقه على هذا الفرد الجزئي، وأطلبه بوصفه مصداقاً من مصاديق الخير، وهنا يأتى التناقض، ويتمثل في ان الانسان يحب هذا الشيء، مثلاً؛ الجاه، لظنه بأن الجاه خيرٌ له، ولكن الله تعالى يعلم أن هذا لا يمثل خيراً له، والتناقض في انه ظاهراً يريد هذا الشيء ولكن واقعاً لا يريد هذا الشيء".

وربما تكون هذه النقطة تحديداً نوعاً من اختبار المؤمنين والمحبين للإمام الرضا، ممن يقطعون المسافات البعيدة، ويبذلون المال والوقت والجهد للوصول الى مرقده الشريف على أمل تحقيق مُناهم، وأن يبتهجوا بحلّ معضلاتهم، ولكن! يعود البعض منهم دون استجابة، فكيف يكون الموقف آنئذ؟

عدم الاستجابة يمثل بحد ذاته جواباً رقيقاً يحمل في طياته الشفقة والرحمة لصاحب السؤال بأن حاله فيما عليه أفضل بكثير مما لو تحقق له ما يريد، كما سمعنا الكثير ممن ألحّوا في الدعاء للانجاب فكانت الاستجابة بمولود ولكن! غير سليم، او ربما يحمل معه في حياته أمراض ومشاكل يتمنى فيها الابوان عدم وجوده.

إمتحاض الزيارة للإمام الرضا

أجدني ملزماً بالاشارة الى مسألة مهمة تتعلق بزيارة الامام الرضا، عليه السلام، وهي النية التي يعقدها الكثير للتوجه الى مدينة مشهد لهذا الغرض ثم يخلط معها نوايا أخرى كأن تتعلق بالاستجام والترفيه وتغيير الجو وما أشبه.

وهذا النوع من التفكير ينسحب على سائر الاماكن التي يقصدها الزائرون للأئمة المعصومون، بل وحتى لمرقد النبي الأكرم في المدينة المنورة، يكفي أن نتصور شخصاً على موعد لزيارة وزير او نائب في البرلمان، هل يجد مجالاً في ذهنه التفكير بشيء آخر غير هذا الموعد؟!

حالة الانقطاع التي يتحدث عنها العلماء والعرفاء هي أحد مفاتيح الوصول الى أولياء الله –تعالى- حتى وإن كانت الزيارة لغرض أداء واجب التحية والسلام على الإمام الرضا، عليه السلام، وليست ثمة حاجة مستعصية، فان هذا السلام له آدابه وشروطه ليكون مذخوراً لصاحبه، كما يروي سماحة آية الله الشيرازي –طاب ثراه- في مناسبة أخرى كيف أن احد المؤمنين رأي في المنام شخصاً يطلب أن يهبه سلاماً له للإمام الحسين، عليه السلام، ربما كان محتاجاً لها يوم القيامة، فوافق فوراً ظناً منه أن لديه الكثير من مواقف السلام والتحية للإمام، ثم تبين أن ما أهداه كان الوحيد المقبول عند الإمام الحسين دون سواه طوال حياته، وهو الذي تمّ في حالة انقطاع وخشوع كان فيها ذلك الشخص خجلاً من الامام عن عدم تمكنه من الدخول الى الحرم لعدم طهارته، فسلّم عن بعد من أعماق قلبه، فتم تسجيل هذا السلام له دون غيره مما فعله عشرات المرات نهاراً ومساءً في زيارته لحرم الامام الحسين، عليه السلام.

معرفتنا بالامام الرضا، عليه السلام، وبشكل حقيقي يعود علينا شخصياً بتوثيق العلاقة وتوطيدها معه، عليه السلام، ثم تحويل الحرم الطاهر له، عليه السلام، الى واحة إيمانية يكثر فيها العارفون بحقّه وبمنزلته حينئذ لن يكون الامام الرضا غريباً.

اضف تعليق