q
ذكاء خديجة في اختيارها محمد زوجاً لها لم يجلب لها الرفاهية، والمكانة الاجتماعية المرموقة بين النساء كما تتمنى هذا كل فتاة او امرأة تفكر بالزواج من رجل، فالكثير من النساء تخشى أن يخفي الرجل المحن والنكد والمصائب حتى وإن كان في طريق الحق ويعمل في سبيل الله...

"كَمُل من الرجال كثير وكَمُل من النساء أربعة؛ آسيا بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد"

رسول الله، صلى الله عليه وآله

من مفاتيح النجاح تغلّب الانسان على خصاله وطباعه ثم تقويمها وتوجيهها الوجهة الصحيحة.

ففي كل واحد منّا يكمن الخوف، وحبّ الأنا، وحب المال، وحب التملّك، وشهوة الجنس، وثمة صفات أخرى ذات أبعاد اجتماعية وعقدية يتحدث عنها القرآن الكريم كثيراً مثل؛ الكُفر، والجدل، والتسرّع، والحسد، كل هذه وغيرها يحملها بنو البشر في نفوسهم، فهي تنمو معهم منذ نعومة أظفارهم وحتى آخر لحظة من حياتهم، بيد أن العدالة الإلهية اقتضت منح قدرة التطويع لكل هذه الصفات والخصال بشرط توفر الإرادة والعزيمة والإيمان، فيكون الانسان شجاعاً بطلاً، كما بامكانه ان يكون مضحياً في سبيل القيم، ثم شهيداً، وايضاً يكون زاهداً ورعاً ومتقياً، وبالمجمل؛ يكون انساناً مفيداً لنفسه وللآخرين.

واذا نتحدث عن نماذج النجاح في هذه العملية التكوينية في عالم الرجال فان القائمة تطول كون فرص الحركة والظروف الموضوعية، والقدرات الذاتية تتيح لهم امكانية ان يجربوا حظهم في هذا المعترك، بينما في عالم النساء يختلف الأمر تماماً، بل هي على العكس من كثير من مواصفات الرجل، ولعل هذا يفسّر الحديث النبوي الشريف عن محدودية النجاح والكمال في النساء، فالأمر يحتاج إيمان وإرادة وعزيمة من نوع خاص، كما توفر في صاحبة الذكرى؛ أم المؤمنين، السيد خديجة بنت خويلد، رضوان الله عليها.

الزواج الذكي

كل فتاة أو امرأة تنتظر ما نسميه اليوم بـ"النصيب" بأن يطرق بابها رجل رشيد ذو مواصفات مقبولة من حيث الدين والأخلاق، فيما تذهب أخريات الى مواصفات يعدنها من عوامل النجاح والتألق في الحياة، وفي المقدمة؛ المال، ثم الجاه والمنزلة الاجتماعية، بينما السيدة خديجة لم تنتظر النجاح يطرق بابها، بل ذهبت هي بنفسها لتختار الرجل المناسب بين مئات الرجال المتسابقين للحظوِ بموافقتها من أعيان قريش من ذوي المال والجاه، فبعد أن تعرفت الى النبي الأكرم، وهو شاب يافع، أرسلت من يستفهمه سبب عدم رغبته في الزواج، فكان الجواب؛ قلّة ذات اليد، وكان، صلى الله عليه وآله، في شبابه يمتهن رعاية الاغنام والماشية في مكة.

لقد أبصرت السيد خديجة، اضافة الى الحسب والنسب الشريف لمحمد بن عبدالله بن عبد المطلب؛ الى رجاحة العقل، وقوة الشخصية، والخلق الرفيع الذي تميّز به عن سائر رجال مكة آنذاك، لذا ارسلت من يشجعه على خطبتها من أبيها أو عمّها، ولمّا علم أبوطالب بالأمر هبّ للإسهام في هذا الزواج المبارك داعياً أخاه الحمزة للسير الى عمّ خديجة؛ عمرو بن أسد، وقيل أنهما ذهبا الى أبيها خويلد، باختلاف المصادر التاريخية، وحصلت الخطبة.

ولنا وقفة سريعة على طريقة تعرّف السيدة خديجة على النبي الأكرم، والواردة في معظم المصادر التاريخية التي تشير الى أن البداية كانت في رحلة تجارية الى الشام ذهب فيها النبي بصفة "أجير" للعمل لصالح خديجة التي كانت تمثل كما نعده اليوم بـ"رجال المال والأعمال"، وكان معه شخص يدعى "ميسرة"، وفي كتب التاريخ يُروى أنه، صلى الله عليه وآله، التقى بالرهبان، ومنهم؛ "بُحيرا"، وما حصلت له كرامات مثل "حديث الغمامة" التي كانت تظله أينما ذهب، وعيون المياه التي كانت تتفجر من بطون الصحراء بالقرب منه.

مجموع هذه المشاهد الاعجازية، وتنبؤات رجال الدين المسيحيين بما سيكون عليه مستقبل هذا الشاب، ثم النجاح في المشروع التجاري، بما يعني حزمة من المحفزات أمام خديجة لاتخاذ قرارها باختيار محمد زوجاً لها، وهذا يجانب الحقيقة، وما عليه شخصية النبي الأكرم من السمو، وما في نفس خديجة من الشفافية، فهل كانت بحاجة الى مكسب مادي، وهي المستغنية من المال دون أثرياء مكة، أو بحاجة الى دلائل من رجال دين مسيحيين يبشرونها بمستقبل عظيم لمن تريد ان تقترن به، بما يعني أن الدوافع مادية بحتة، ولو لم يعد النبي بأرباح مضاعفة –كما في الروايات التاريخية- ولم تسمع شيئاً مثيراً من الاحبار والكهنة، لما انجذبت الى النبي، حاشاها من هذه الترهات، ولعل السيد هاشم معروف الحسني، الباحث اللبناني القدير وصاحب "سيرة المصطفى" يكون محقاً ومصيباً في تشكيكه بكل هذه المرويات ويستند في حكاية تعرف خديجة على النبي و زواجهما من رواية عمار بن ياسر التي تبناها اليعقوبي في تاريخه، بأن "خديجة كانت مع اختها هالة في طريقنا بينما كنت أمشي مع النبي بين الصفا والمروة –وكنت صديقاً له- فجاءتني هالة وقالت: ياعمار! ما لصاحبك حاجة في خديجة، قلت: والله لا أدري، وكان قد فاتني في طريقه –أي لم يتوقف النبي معهما- فلحقت به وذكرت له مقالة هالة، فقال: ارجع فواضعها وعدها يوماً تأتيها فيه ففعلت، فلما كان ذلك اليوم أرسلت الى عمّها عمرو بن أسد..." الى آخر الرواية.

كان اختيار خديجة دقيقاً ينمّ عن ذكاء حاد كشف الخصال والصفات الخاصة لدى رسول الله، وهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر، أي قبل أن يُبعث نبياً بخمسة عشر سنة، فاذا كان المعيار لديها اتقان العمل التجاري، ففي مكة الكثير من نوابغ التجارة وكسب المال، ثم إن رسم صورة للنبي في شبابه وهو يحمل أجيراً عند الآخرين بحد ذاتها تمثل قدحاً في شخصية النبي رغم أن العمل وطلب الرزق في حد ذاته أمرٌ محبوب ومؤكد عليه في شريعة السماء، ومن ثقافة الانبياء والمرسلين، بيد "أن الذين رووا هذا النوع من الاحاديث ودونوها في تواريخهم مجاميعهم في الحديث، رووا الى جانبها موقف عبد المطلب وأبي طالب من الرسول وحرصهم عليه وكيف كانا يؤثرانه على أولادهما وأن أباطالب كان لا يدعه لحظة وحده، خاصة بعد أن سمع من بحيرا وغيره بأن اليهود والنصارى يضمرون له السوء والغدر، فكيف يجتمع هذا مع تلك المرويات التي تجعل من مرحلة صباه وشبابه أجيراً لأهل مكة". (سيرة المصطفى- هاشم معروف الحسني).

مواجهة التحديات

ذكاء خديجة في اختيارها محمد زوجاً لها لم يجلب لها الرفاهية، والمكانة الاجتماعية المرموقة بين النساء كما تتمنى هذا كل فتاة او امرأة تفكر بالزواج من رجل، فالكثير من النساء تخشى أن يخفي الرجل المحن والنكد والمصائب حتى وإن كان في طريق الحق ويعمل في سبيل الله، بينما كان ذكاء خديجة نابعاً من العقل المنير والقلب السليم والطاهر، تبقى ظواهر الحياة الى زوال، فهي لم تواجه مما تخافه النساء من النبي الأكرم، إنما واجهت السوء من المجتمع المكّي آنذاك، وكانت البداية من النساء اللاتي هجرنها لأنها تزوجت من رجل فقير، ورفضت أكابر قريش من المشركين القُساة، فلم تأت امرأة اليها تبارك لها وتحادثها، واستمر الحال حتى في فترة الولادة، وهو أمر ثقيل على نفس المرأة، فلم تدخل عليها امرأة إلا واحدة حفظ النبي اسمها، وكان يذكرها بخير في أواخر ايام حياته، وكان يشاطرها الطعام التي يأتون اليه تكريماً لها.

ثم بدأت المواجهة المحتدمة بين جبهة الحق وجبهة الباطل، فكانت عند وعدها الذي عاهدت به ربها ونبيها بأن تقف تساند الحق بكل ما تملك، وتضع كل أموالها وممتلكاتها في تصرف النبي لينفقه على المسلمين والمستضعفين الذين كانوا يتعرضون للضغوط القاسية والاضطهاد من المشركين، وكانت ذروة المواجهة في شعب أبي طالب، حيث فرض المشركون حصاراً اقتصادياً على المسلمين استمر ثلاث سنوات لممارسة الضغط النفسي عليهم للتخلّي عن الايمان بالله وبرسوله، فكان أبوطالب من جهة، و خديجة من جهة اخرى يقومان بالدور الرسالي المشرّف بدعم المحاصرين بما يحتاجونه قدر الإمكان للحؤول دون أزهاق أرواح المسلمين.

هذه الضغوط النفسية أدت الى تفاقم المشاكل الصحية لدى عمّه وناصره وكافله وقد بلغ الثمانين، فسلّم الروح الى بارئها، وبعد أيام قلائل لحقت به خديجة التي طالها المرض هي الاخرى وهي في خندق المواجهة ضد الباطل، فلا يمكن تصور حجم الحزن الذي خيّم على النبي الأكرم في العام العاشر من بعثته النبوية، فهو يفقد اثنين من اركان الحراك الرسالي، ركنٌ اجتماعي وسياسي يستند اليه أمام عتاة المشركين، ويحول دون أي حركة مشبوهة منهم ضد النبي، والركن العاطفي –إن جاز التعبير- الذي كان يلقي عنده كل جهده وعناءه بعد أن يتلقى البشاشة والابتسامة من زوجة وفية وحنونة ومخلصة، تخفف عنه ما يلاقي من الأذى والمعاناة، فحريٌ به، صلى الله عليه وآله، أن يجلس عند جنازتها وهو يذرف الدموع السخينة، كما بكى طويلاً على عمّه أبي طالب من قبل، فجعل عامه كاملة عام الحزن على هذين العظيمين.

وهذا بالضبط ما جعل خديجة تكون كاملة بين من كملت من نساء العالمين، فقد زهدت بظواهر الحياة المادية لتكسب رضى الله –تعالى- وتكون نقطة مضيئة في جبين التاريخ وفناراً يهدي الاجيال، وتكون حقّاً أمّاً للمؤمنين، ولكل مجاهد ومصلح يريد الخير لأمته.

اضف تعليق